هل عادت بريطانيا لتستكمل مهمتها غير المنجزة في الخليج؟

سيكون على الحكومة البريطانية الاستئناف من حيث توقفت عام 1971، وهذا يتطلب الشروع في إعادة لملمة المشايخ الصغيرة وفرض توازنات تصد هيمنة “الكبيرة”

رغم التهرب المتوقع لأنظمة الخليج من استحقاقات الإصلاح، إلا أن حاجتها الملحة لشريك دولي بمنزلة بريطانيا سيحتم عليها الإنصات والانفكاك تدريجياً من حالة التسيب المتعمد من مسار التحول نحو الملكيات الدستورية

“وجود البحرية الملكية في البحرين هو ضمان المستقبل، يؤمن لبريطانيا تواجداً دائماً بشرق السويس. المرفق الجديد سيمكن بريطانيا للعمل مع الشركاء الحلفاء لتعزيز الاستقرار في منطقة الخليج وخارجها.” 1 نوفمبر 2015، وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند معلقاً على أعمال تشييد أول قاعدة عسكرية بريطانية دائمة في الشرق الأوسط منذ عام 1971، والتي دفعت البحرين معظم تكاليف إنشائها البالغة 23 مليون دولار، فيما يدفع البريطانيون التكاليف الجارية. [1]

هل تغير تفسير “الاستقرار” لدى الخارجية البريطانية عما كان يتضح لها قبل قرون؟
تسرد مذكرة سرية لوزارة الخارجية البريطانية حول احترام المصالح البريطانية في الخليج، صادرة في 12 فبراير 1908 بأن:
“وضع بريطانيا العظمى في الخليج تم وصفه بالفريد من نوعه؛ فعلى الرغم من استثناءات طفيفة، لم تتمتع أو تطالب، في أي وقت من الأوقات، بالاستحواذ على أقاليم في تلك المناطق، وقد تحملت هناك لأجيال أعباء لم تتحملها إطلاقاً أي دولة أخرى في أي مكان، إلا في نطاق فرض السيادة، وأخذت المسؤولية على عاتقها دون سيطرة، وحافظت على السلام بين الناس الذين ليسوا رعاياها (…). إذا أصبحت بريطانيا العظمى، بأي حال من الأحوال، الحَكَم والوصي على الخليج، لم يكن ذلك من خلال طموح لا يهدأ يحثها على السيطرة على الأماكن المقفرة من الأرض، ولكن امتثالاً للدعوات التي طلبت منها في الماضي فرض السلام بين القبائل المتحاربة، لتوفير مسار حر للتجارة، وإبعاد يد النهب والظلم، وللوقوف بين تاجر العبيد وضحيته.” [2]

بين الاستعمار والانتداب، والوصاية والحماية، تعددت الاستخدامات الاصطلاحية للتعبير عن الحضور البريطاني في الخليج الذي تحددت طبيعته عبر الاتفاقيات المبرمة مع مشايخ الساحل منذ 1820 حتى الانسحاب النهائي من شرق السويس عام 1971. كان ذلك التواجد لا يؤمن، فحسب، مساراً آمناً للتجارة بين الهند وأوروبا عبر العراق، لكنه يضيف للإمبراطورية البريطانية تمايزاً عن الدول المنافسة الأخرى التي فشلت في انتزاع موطئ قدم لها في المنطقة في تلك الفترة، كالألمان والفرنسيين والبرتغاليين والعثمانيين. وربما يكون ذلك التمايز مبنياً على طبيعة العلاقة مع مشايخ الخليج الذين وجدوا منفعة في إبقاء سريان الاتفاقيات التي وفرت لهم حماية من القبائل الحاكمة المتاخمة لهم، وأحياناً من منافسة أقرانهم في بيت الحكم الواحد، إلى جانب الإصرار البريطاني على تبيئة قيمه في العدالة وحقوق الإنسان منطلقاً من محاربة القرصنة وتجارة الرقيق المتفشية في المنطقة ذلك الحين.

بلوغ السلم والاستقرار بين، وضمن، القبائل المتنازعة لم يكن مهمة سهلة، خصوصاً مع تاريخ ممتد من القتال والخلاف. في الواقع، المفهوم الاستعماري “فرق تسد” أو “فرق تحكم” لم يكن ينطبق على حالة الخليج. كانت المنطقة منقسمة قبلياً قبل مجئ بريطانيا التي نهجت على مقاربة وتقريب الدوائر القبلية المتفرقة والتخفيف من التنافر بين بعضها البعض، سعياً استراتيجياً سيضمن استقرار الخليج على المدى الطويل وسيمكن بريطانيا من البقاء في المنطقة بأقل كلفة. أي إهمال أو إغفال سيتيح ثغرة للقوى الإقليمية والدولية الأخرى بالتدخل وفرض توازناتها السياسية.

على سبيل استحضار الأمثلة، وهي عديدة، عندما لاحظت بريطانيا التوسع الهائل لابن سعود، تحديداً بعد اكتشاف النفط، على حساب الإمارات الصغيرة التي كانت فعلياً تحت “حماية المعاهدات”، عرضت بريطانيا عام 1952 التوسط كحَكَم بين مملكة ابن سعود والإمارات المجاورة لها التي وصفتها وزارة الخارجية في مذكرة سرية بأنها، منفردة أو مجتمعة، من غير المرجح أن تكون حصناً فعالاً للتعدي السعودي، ومن المشكوك فيه للغاية لأي مدى يمكنها الحفاظ على وجودها المستقل ضد جارتها الأكبر من دون مساعدة خارجية. وتسرد المذكرة “على الرغم أنه في الماضي كان يمكن أن يكون في وسعنا الدفاع عن هذه الدول ضد كل عدوان (بالاعتماد على القوات الهندية) للأسف لم يعد صحيحاً أن بإمكاننا توفير الحماية لهم من خارج منطقة الشرق الأوسط ضد العدوان والآن قوة العربية السعودية لأول مرة هي تهديد كبير. وهذا يخلق مشكلة جديدة بالنسبة لنا في الوفاء بالتزاماتنا تجاه هذه الدول.” [3]

تطبيع العلاقات وتحسينها لم ينحصر بين مشايخ الساحل، بل توجه ليصل بين أولئك المشايخ الحاكمين وشعوبهم. التقارير والمراسلات الدورية بين الوكلاء السياسيين والمقيم السياسي كانت تتحدث صراحة عن الانتهاكات وسوء الإدارة المحلية وتقدم حلولاً وخطوات لامتصاص الأزمات. في الثاني من فبراير لعام 1924 أرسل المقيم السياسي البريطاني في بوشهر أي بي تريفور رسالة إلى الحكومة البريطانية حول ما وصفه باعتداءات رجال القبائل السُنة، بتحريض من أعضاء عائلة آل خليفة، على السكان الشيعة البحارنة. يسرد المقيم السياسي في رسالته بأنه شهد تظاهرة للبحارنة يصرخون بصوت واحد “عدالة”، وبعبارات أخرى على ذات النسق، ويستدرك المقيم السياسي، “كلمة يصرخون ربما كلمة قوية، أستطيع القول إنهم كانوا يتمتمون، حيث هذه الكلمة قد تكون أفضل (…) إنه نتيجة للدعم الذي قدمناه للبحارنة خلال السنتين أو الثلاث سنوات الماضية، وقيامنا بإدخال الإصلاحات، كان ظاهراً بكل وضوح في هذه التظاهرة. ولم يكن البحارنة ليتجرؤا على القيام بهكذا تصرف في السنوات القليلة الماضية سوى التحليق فوق القمر.” المقيم السياسي، وهو آمل بأثر رادع يساهم في منع أي اعتداء من هذا القبيل في المستقبل، ختم رسالته باطمئنانه على تصرف الشيخ حمد بن عيسى بن علي، المعني بشؤون الحكم حينها، من خلال معاقبة المعتدين بطريقة مثالية، وهو ما تحقق لفترة وجيزة. [4]

في فبراير 1933 -وهو العام التالي لاكتشاف النفط في البحرين- أثناء حفل تنصيب حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكماً للبحرين، لم يتردد المعتمد السياسي البريطاني في البحرين جوردون لوتش وهو يلقي خطاباً بالنيابة عن ممثل التاج البريطاني في الهند أن يقدم نصيحة صريحة للحاكم الجديد ينبهه فيها أن “من أهم واجبات الحاكم أن يقدم مصالح شعبه على مصلحته الشخصية ولا سيما في هذه الأيام فإنه يجب على الحاكم العصري أن يشترك في أعمال كثيرة مما تعمله الحكومات لسعادة ورفاهية الشعب وتوطيد الأمن في البلاد والعمل على تقدمها ورقيها.” [5]

ما الذي تجدد اليوم؟ وكيف ترى الحكومة البريطانية دورها ومسؤوليتها المرافقة لتعزيز حضورها العسكري في الخليج؟ هل هو مقرون، كما تشير اتهامات لها، بالصمت حيال انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في البحرين (موطن القاعدة البحرية) والدول الخليجية الأخرى؟ أم هي عودة لاستكمال ترسية السلم الداخلي والإصلاح السياسي كمدخل أساسي لفرض الأمن والاستقرار في المنطقة؟ في هذه الحالة سيكون على الحكومة البريطانية الاستئناف من حيث توقفت عام 1971، وهذا يتطلب الشروع في إعادة لملمة المشايخ الصغيرة وفرض توازنات تصد هيمنة “الكبيرة”. خطوة في هذا الاتجاه لا بد أن تُعجِّل في تسوية الخلافات الحدودية وتلحقها، أو ربما تسبقها، خطوات لتحسين العلاقات بين القبائل الحاكمة.

إصلاح الأنظمة السياسية، وبالتوازي الاقتصادية والقضائية، هي المهمة الأبرز أمام الحكومة البريطانية. لسيت يسيرة، لكنها ممكنة. رغم التهرب المتوقع لأنظمة الخليج من استحقاقات الإصلاح، إلا أن حاجتها الملحة لشريك دولي بمنزلة بريطانيا سيحتم عليها الإنصات والانفكاك تدريجياً من حالة التسيب المتعمد من مسار التحول نحو الملكيات الدستورية. إذ يمكن لبريطانيا، إذا ما أرادت، أن تؤثر إيجاباً باتجاه تخفيف تمركز السلطات بيد الأسر الحاكمة لصالح مؤسسات ديمقراطية. ربما يتطلب ذلك إسناداً لحكام دول الخليج العربية أمام مخاوف الهيمنة الإيرانية، وتقديم تطمينات بالحفاظ على النمط الملكي الوراثي، وهو ما أخفقت فيه الولايات المتحدة. وباليد الأخرى، يتطلب أيضاً انتشال الشعوب من خانة الرعايا إلى مرتبة المواطنة. فتعزيز التواجد البريطاني في الخليج الأنجع له أن يعبر عن حالة “رابح-رابح-رابح”، أطرافها المستفيدة الثلاثة هي الشعوب والنخب الحاكمة وبريطانيا. والتعبير عن ذلك قد يحتاج إلى حضور أكثف.

_________________
[1]: http://www.bbc.co.uk/news/uk-34690895
[2]: مذكرة سرية لوزارة الخارجية البريطانية حول احترام المصالح البريطانية في الخليج، 12 فبراير 1908. IOR/L/PS/18/B166
[3] مذكرة سرية لوزارة الخارجية البريطانية، 19 ديسمبر 1952. CAB/129/57
[4] رسالة من المقيم السياسي البريطاني في بوشهر أي بي تريفور إلى الحكومة البريطانية تحت عنوان “اضطرابات السنة والشيعة في البحرين”، 2 فبراير 1924
[5] خطاب ألقاه المعتمد السياسي البريطاني في البحرين بيرسي جوردون لوش (Percy Gordon Loch) نيابة عن ممثل التاج البريطاني في الهند أثناء حفل تنصيب حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكماً للبحرين، 9 فبراير 1933

منشورات أخرى للكاتب