هل استقبل الخليجيون سنة 2016 بتوديع سخاء الدولة وبحبوحة الرفاه الاجتماعي؟

“أعتقد أن الوقت أخذ يتحسن وسوف ترون البحرين في السنوات المقبلة مرة أخرى مركزاً للغنى والسعادة. من الممكن أن تتحسن مالية الحكومة بسبب خروج النفط وكلي آمال أن يكون الأمر كذلك.” المعتمد السياسي البريطاني في البحرين بيرسي جوردون لوتش في خطاب ألقاه نيابة عن ممثل التاج البريطاني في الهند أثناء حفل تنصيب حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكماً للبحرين في 9 فبراير 1933.

كان اكتشاف النفط في البحرين عام 1932 بشارة عهد جديد لمشيخات الجزيرة العربية والساحل المتصالح، التي كانت تعد حينها الأفقر في العالم. الاكتشافات تعاقبت في أراضي المشايخ الأخرى تباعاً؛ السعودية (1938)، قطر (1939)، أبوظبي (1954)، عمان (1964)، ودبي (1966).
لم تستوعب السلالات الحاكمة في الشرق الأوسط القيمة المحورية للنفط وللمنطقة إلا بعد حرب أكتوبر عام 1973 عندما استخدموا النفط كسلاح وأعلنوا حظر تصديره للدول التي صنفوها بأنها في المعسكر المعادي، وشكل ذلك نقطة تحول في العلاقات الدولية وتغيراً في معادلة موازين القوى حينها. النتيجة طفرة في أسعار النفط أدرجت فوائض مالية في اقتصاديات الدول النفطية. في عام 1974 وحده أدركت المملكة العربية السعودية ريعاً نفطياً فاق 22 مليار دولار مقارنة بمجموع ريع 20 سنة سابقة قدرت بنحو 16 مليار دولار. تتالت السنون وتواردت المداخيل وتراكمت الفوائض.

على قدر أهل “النفط” تأتي المغانم
النفط وحده وضع دول الخليج على قائمة الدول الريعية ومكن النخب الحاكمة فيها من ثروة وافرة غير مبذولة الجهد. هذه الثروة أسهمت في الانتقال من نمط المشيخة التقليدية إلى تأسيس نموذج الدولة الخليجية الحديثة المتصدرة على مؤشرات التنمية الدولية والمتفوقة على أقرانها في المنطقة في مجالات التعليم والصحة والخدمات العامة. كما عززت الوفرة المالية سياسات دعم المواد الغذائية الأساسية وأسعار المحروقات، وهو ما زاد القدرة الإنفاقية للمواطن الخليجي الذي لا تُلزمه الدولة بأداء ضريبي على دخله. ذلك التحول الريعي رافقه صعود ثقافة المجتمع الاستهلاكي في معيشته، الاتكالي في سلوكه، قبالة خفوت نبرة ووقع موجات الاحتجاج الداخلي.
وإذا كانت أنظمة الخليج تتعمد الإبقاء على نموذجها الاقتصادي الريعي من خلال رفع إنتاجها النفطي قدر المستطاع، فإنها كانت توازي بذلك نمطها السياسي التقليدي الموروث من سخاء المشيخة الأبوية التي تغدق على مبايعيها ومواليها وحلفائها بجزالة، وتتسع لاحتواء المتمردين والخارجين عليها باسترضائهم بـ”ذهب المعز”. أما “بسيفه” فقد أنفقت دول الخليج العربية على التسلح في عام 2015 وحده ما يفوق مجموعه 100 مليار دولار، وهو ما يضاهي إنفاق كل من روسيا الإتحادية أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، وبما يعادل ضعف ما تنفقه الهند، وأكثر من نصف ما تنفقه الصين!
ورغم أن الخليج عايش ثلاثة حروب في تاريخه المعاصر (العراقية-الإيرانية 1980-1988، تحرير الكويت 1991، احتلال العراق 2003) إلا أن تلك الحروب كلفت دول الخليج العربية أموالاً باهضة، رغم أنها لم تدخل عسكرياً في أي من المعارك المباشرة. كما أن فواتير دعم الأنظمة العربية، أو مداهنة الدول الغربية، للمضي في اتجاه ما تستأنس له الرياض تحديداً، أو ما يستهوي مزاج العواصم الخليجية الأخرى، ظلت ملحقات لازمة للمصروفات المتكررة.

“الربيع العربي” يحرق أموال الخليج
اندلاع حراكات “الربيع العربي” أضاف للمصروفات بنوداً جديدة. فمع هروب زين العابدين بن علي إلى جدة واضطرار حسني مبارك على التنحي من رئاسة مصر ثم امتلاء ميدان اللؤلؤة في المنامة بالمتظاهرين، والصعود الشعبي في ليبيا واليمن وسورية، تظافر الدعم الخليجي للحد من هبة التغيير نحو أنظمة قد تصبح ديمقراطية وبالتالي تقوض نماذج الحكم الوراثي في المنطقة.
البحرين التي كانت قبيل 14 فبراير 2011 تسلم أكثر من ثلث مصروفاتها للأمن والعسكر، باتت بعد ذلك مرغمة على بذل المزيد لضبط حالة الاحتجاجات الداخلية. وعمان التي تمنعت عن قبول 10 مليارات دولار من المارشال الخليجي توجهت وحدها لامتصاص مزاج التذمر الذي طفح في عدد من محافظاتها. وفيما بادرت السعودية، تلحقها الإمارات، لإسناد وتمويل الثورات العربية المضادة، كانت قطر تنفق في مسار يوازيهما ويخالفهما الاتجاه.

سنة خليجية كبيسة
تعتمد دول الخليج العربية في مداخيلها على ريع النفط والغاز الذي يشكل أكثر من 70 في المئة من الصادرات، أكثر من 60 في المئة من العائدات الحكومية بما يعادل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومع بلوغ سعر البرميل أقل من 40 دولار تفقد واردات دول الخليج في سنة 2016 سيولتها التي تغذي تضخم أجهزتها الإدارية والتزاماتها المحيطة.
ليست السعودية، وهي أغنى دول الخليج والمنطقة، أول من أعلن ميزانية تقشفية للعام 2016، لكنها أشد مكابدي العجز الذي بلغ في عام 2015 بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي 98 مليار دولار. لذلك، تتوجه الرياض، على مضض، لتخفيض الإنفاق الحكومي وإصلاح دعم الطاقة، الذي التهم 107 مليارات دولار عام 2015، وتبحث خطة لزيادة الإيرادات من الضرائب والخصخصة هذا العام؛ وهي خطوات تطال بشكل مباشر القدرة الشرائية للمواطنين.
وإذا كانت دول الخليجي العربية على مقدرة من ضبط مصروفاتها قبل سنوات فإنها اليوم، مع تقلص مدخولاتها، تقف أمام معضلة حادة، فلا هي تبدو قادرة على التخلي عن التزاماتها في بؤر الصراع الإقليمي التي تحافظ على الإتزان السياسي مع إيران، وأثقلها الحرب على جماعة أنصار الله في اليمن، وهي كلفة استنزفت من الخزانة السعودية حتى نهاية عام 2015 ما يعادل 5.3 مليار دولار. كما لم يعد سهلاً الاستمرار بنمط الحكم الوراثي المطلق دون تحقيق القدر المقبول من الرفاه الاجتماعي الداخلي المعتاد.
ينحى الخليج مكرهاً لحرق احتياطياته المالية في الأزمات الإقليمية الراهنة؛ إذ يصعب على السعودية وحليفاتها إنهاء الحرب في اليمن بغير خيار الحسم العسكري. ويفوقه صعوبة، ضبط انفعالات الاستياء الشعبي واحتمالات صعود المطلبية السياسية في الخليج التي بـ”ذهب المعز أو بسيفه” ستقضم من الخزانة كلفتها المستحقة.
قد تكون الظروف الاقتصادية الصعبة ممراً لتحول تاريخي من أنظمة الحكم الوراثي المطلق لناحية الملكيات الدستورية، وهو ما يمكن أن يعزز استقرار الخليج ويبقيه في صدارة الإقليم المتأزم. لكن افتراض احتمال كهذا يستلزم استبعاد خيار المواجهة بين الدولة والمجتمع وفرصهما للالتحاق بالدورة الدموية في المنطقة.

منشورات أخرى للكاتب