دول الخليج العربية: لعنات الربيع ومفاعيل التشظي

محصول “الربيع العربي” أتى يابساً، خسر الجميع تجارته وسقطت أغلب الرهانات

لحظة ارتباك دموي ومشهد معقد وكل دول المنطقة تأمل المرور بأقل الخسارات

دول الخليج العربية بلا مشروع وكلفة الاختلافات والخلافات باهضة في زمن العواصم المفتوحة

قبل ثلاثين عاماً، كان صدُّ الهجمات والجماعات العلمانية، القومية، والشيوعية التي تصدِّرُها دول مثل سورية ومصر والعراق إليها، الشغل الشاغل لدول الخليج العربية لسنوات طويلة. كانت السياسة الخارجية لدول الخليج تشدد على قاعدة لا تحيد عنها: “ضرورة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة”. قبالة ذلك، كان رهان خصومها آنذاك، أن مصير الدول الخليجية الهشة؛ الانهيار.
اليوم، لا يمكن تصنيف الدول المصدِّرة – لما اعتبرته دول الخليج عبثاً بأمنها الداخلي واستقرارها – إلا باعتبارها دولاً منهارة أو مهترئة. ويضاف إلى ذلك، أن عديد الأطراف في هذه الدول الآفلة باتت هي من تتهم دول الخليج العربي بأنها من يصدر الإرهاب إلى أراضيها ويموله. الدول العربية المنهارة ذاتها، كانت قد لعبت دوراً تاريخياً ومحورياً في الدفاع عن دول الخليج من خلال تموضعها كخط دفاع أول أمام الأخطار المحدقة بدول الخليج على اختلاف عواصمها واهتماماتها (الحرب العراقية الإيرانية/ التدخل السوري في لبنان/ الحروب الستة على جماعة أنصار الله في اليمن).
لم تفلح دول الخليج في الحفاظ على خط الدفاع العربي من حولها والدفاع عن حيويته ومتانته، لم تفلح حين اختلفت (على محورين) وحين فشلت بالنتيجة في كبح جماح “الربيع العربي”، كما أنها اكتشفت مؤخراً أن كل ما أنفقته لضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي في تلك الدول لم يكن أكثر من مشروعات إثراء لنخب فاسدة لم تصمد أمام الريح طويلاً، وهو ما أدى إلى انهيار نظامين من أهم الأنظمة الحليفة لدول الخليج، مصر واليمن.
عام الارتباك والصدمات المتتالية 2011، خالف عديد التوقعات والقراءات السياسية في المنطقة، فمحصول “الربيع العربي” يابس لاثمر فيه. ويمكن القول بوضوح،خسر الجميع تجارته وسقطت أغلب الرهانات. تراجعت أحلام الدولة المدنية في دول الربيع العربي وتداعت المؤسسات في هذه الدول وتراجعت/انهارت اقتصاداتها الواحدة تلو الأخرى. ومع تعقيدات الملف العراقي، خلَّف الربيع العربي من ورائه هذه الفوضىى وهذا الارتباك الدموي في المشهد الإقليمي كله، مشهد معقد تأمل دول المنطقة كلها المرور منه بأقل الخسارات.
اليوم، لا تجد دول الخليج من يدعمها في مواجهة عدوها الرئيسي والمعلن (إيران). الأدهى من ذلك، هو أن دول الخليج ذاتها تعاني من التشظي وتجذر الخلافات الداخلية في ما يتعلق بعديد الملفات الإقليمية، بل وحتى في فهم ورسم حدود طبيعة العلاقات التي يجب أن تربطها مع إيران ومستقبلها. المشهد باختصار يبدو كالتالي: تحالف سعودي إماراتي، قطري تركي. حياد كويتي، فيما تغرد سلطنة عمان خارج السرب تماماً.
على مستوى النتائج، من الضروري الإشارة الى أن السياسات الخارجية لدول الخليج أثبتت فشلها، بل إنها راكمت على ظهر هذه العواصم خسارات تفاقمت مؤخراً لتشمل خسارة الحليف الأهم والأكبر (الولايات المتحدة). يضاف إلى ذلك، أن إيران التي كنا نعتقد أنها تعاني من حرب تستنزفها في سورية مالياً وعسكرياً، حققت تقدماً مفاجئاً في اليمن وهو ما اضطر دول الخليج إلى دخول حرب جديدة باهضة الكلفة على الخليجيين واليمنيين معاً، آملة على أقل تقدير أن تحصل على موقع تفاوضي أفضل مع جماعة أنصار الله (الحوثيون) والرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.
كثيرة هي العوامل التي ساهمت ولازالت في إضعاف موقف دول الخليج العربي في صراعها مع طهران، ليس أقلها انهيار الدول العربية الحليفة فضلاً عن امتداد النفوذ الإيراني إليها. وليس أكثرها أن طبيعة دول الخليج سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لا تؤمِّن لها ما يكفي من إمكانيات للدخول في صراع حقيقي ومباشر مع إيران. لا تتمتع دول الخليج بالنفس الطويل في الصراعات، خزاناتها البشرية محدودة، وأنظمتها السياسية والاقتصادية تعتمد على (الأمن أولاً وأخيراً). وعليه فإن خيار العبث بالأمن من خلال مواجهة إقليمية مفتوحة مع إيران يعني إنهيار اقتصادات دول الخليج.
إذا كان لدول الخليج أن ترتب أولوياتها، فإنه عليها أن تهتم بالدرجة الأولى بتصحيح مسارات علاقاتها الداخلية، فالخلافات والاختلافات الداخلية والاستقطابات القائمة وتضارب المواقف والقراءات كلفتها باهضة بالإضافة إلى أنه لابد لها أن تدرك جيداً، أن عودة الاستقرار إلى العواصم العربية القريبة هو جزء لا يتجزأ من ضمان أمنها واستقرارها. لكن عليها قبل كل ذلك، أن تدرك بوضوح أنها تحتاج مشروعاً جديداً في المنطقة، مشروعاً يستطيع إعادة تموضعها في المنطقة إلى جانب المشروعين الكبيرين في طهران وأنقرة، وأنها من دون هذا المشروع، تغامر بمستقبلها وببقائها. فالأزمات على الحدود، وكل العواصم العربية مكشوفة.

منشورات أخرى للكاتب