المصالحة السعودية الإيرانية: جردة حساب
بالتوازي مع تسابق كل من السعودية وإيران في إعادة سفارات وقنصليات البلدين إلى العمل، نشهدُ جميعًا تسارعًا وشواهد عدة على المسار الجديد للعلاقات الإيجابية بين البلدين. يفرض هذا المسار الجديد بين الرياض وطهران تغييرًا وازناً في معادلات الصراع ومجمل التوازنات السياسية في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط. ولئن كان من المبكر الجزم بمآلات هذه المصالحة أو مدى صلابتها، إلا أنها مُصالحةٌ تفرضُ على جميع دول المنطقة البحث عن تمركز آمن على مقربة من التفاهمات الجديدة بين القوتين الأكبر في الخليج.
غالبًا ما يكون ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان آل سعود، حاسماً في خياراته الداخلية والخارجية على حد سواء. ما يقتضي أن الرياض ستذهبُ في هذه المصالحة وتعزيز فرص نجاحها إلى أقصى ما يمكن. شواهدُ عدة خلال الأيام والأسابيع الماضية تؤكد على ذلك، ليس أقلها المساهمةُ السعودية في إجلاء الرعايا الإيرانيين من السودان. رغم ذلك، يبقى الاختبار الحقيقي مرهونًا بمدى قدرة الرياض وطهران الفعلية على إنجاز تسويات سياسية صلبة في مناطق المزاحمة والاشتباك، وفي مقدمتها الملف اليمني.
لطرفي الصراع، السعودي والإيراني، ما يكفي من الأسباب والمبررات للمضي في هذه المصالحة والاستثمار فيها. هناك أيضاً مستفيدون محتملون ومتحفزون، وهناك من قد تتأثر مصالحهم سلبًا.
منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران مطلع عام 2016، تزايدت حدة الصراع بين البلدين ليبلغ أوجه مع حرب اليمن. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يُدركُ الطرفان أن مجموع الكُلف السياسية والاقتصادية التي تكبدها البلدان لا توازي، بأي حال من الأحوال، سلة المكاسب؛ إن وجدت.
وكما أن إيران استطاعت البرهنة على قدراتها العسكرية عبر استهداف البنية التحتية لإمبراطورية النفط السعودية، برهن السعوديون على قدرتهم الاضرار باستقرار إيران الداخلي من خلال دعم جماعات المعارضة سياسيًا وإعلامياً، بل والمساهمة في تحريك الشارع الإيراني الناقم على تردي الأوضاع الاقتصادية في بلاده، إذا لزم الأمر. هذه الاختراقات، رغم أهميتها، لم تُمكِن السعوديين أو الإيرانيين من الإخلال بتوازن القوى Balance of Power بين البلدين. ومع تراكم خسارات الطرفين بدا المشهد عبثياً فعلاً، وهو ربما، ما أسهم في قبولهما لجهود الوساطة، أملاً في إنهاء هذا الصراع أو تأجيله على الأقل.
تتجهُ الأنظار نحو الإمارات باعتبارها الدولة الأكثر توترًا في علاقاتها مع السعودية خلال الأشهر الستة الماضية. تحافظ أبوظبي على علاقات سياسية واقتصادية متوازنة مع طهران ولا يبدو أنها تتحفظ على أن يكون للرياض علاقات مماثلة مع الإيرانيين. ما يقلق الإماراتيين هو تزايد التباينات والتباعد في وجهات النظر مع السعوديين، خصوصاً ما يتصل وانسحاب السعودية التدريجي من تحالف كان عنوانه العريض، بالنسبة للإماراتيين على الأقل، هو مواجهة تنظيمات ودول الإسلام السياسي. وعليه، تنظر أبوظبي للاستدارة السعودية في سياساتها الخارجية مع كل من قطر والحوثيين وإيران والدخول في صراع بارد مع واشنطن، بتوجس، كما وتعتبرها انسحاباً غير معلن من تفاهمات البلدين الشريكين في محور واحد. يُضاف لذلك اختلاف وجهات النظر السعودية والإماراتية في الملفين المصري واليمني، وما تسبب فيه السياسات السعودية في مجالات التنمية من تحدياتٍ حقيقية على الاقتصاد الإماراتي وفرص نموه.
يعتقد السعوديون من جانبهم، أن ما يحدث هو تصحيح لمسار السياسة الخارجية للبلاد ومحاولة جادة للتخلص من عداوات وصراعات لا طائل منها سوى استنزاف ثروات الدولة. تلك الثروات التي دائمًا ما يؤكد ولي العهد السعودي على ضرورة أن يتم توجيهها لتنمية الدولة وتعزيز قدراتها الاقتصادية وتنويع مصادر دخلها.
وعلى أي حال، لا يمكن للإمارات أن تغرد خارج السرب، تجد أبوظبي نفسها مجبرة على فرملة مشروعها في مواجهة الإسلام السياسي. لكنها أيضاً ليست الدولة الوحيدة المعنيةُ بالتأقلم مع المتغير الجديد، سيكون على المحور القطري التركي البحث عن تكتيكات مغايرة. من المتوقع أن يكون تأثير أنقرة والدوحة في مناطق الصراع أقل مما هو عليه، فضلاً عن انشغال أنقرة بانتخابات الرئاسة التركية الحاسمة التي قد تقلب المعادلات رأساً في عقب في حال نجحت المعارضة التركية في الوصول إلى السلطة. سيحاول المحور القطري التركي البحث عن تمركز أفضل خلال الفترة المقبلة متجنبًا الدخول في أي مغامرات غير محسوبة مع السعوديين أو الإيرانيين، خصوصاً ما يتعلق بالملف السوري الذي يمثل منطقة الاشتباك الأكثر سخونة بين المحور قبالة محور الممانعة الإيراني المدعوم حديثاً بالسعودية والإمارات.
لا يمكن القول بأن أيدي كل من الإمارات أو قطر أو تركيا قد فرغت من أوراق اللعب، سواءً في سورية أو لبنان أو تونس أو ليبيا أو مصر أو السودان. إذ ليس المقصود أن أدوار هذه الدول ستكون هامشية تماماً أو أنها ستنشغل تمامًا عن رعاية مصالحها. المقصود هو أن هذه الدول ستكون مضطرة إلى انتظار ما سيصل له سقف التفاهمات السعودية الإيرانية وفي أي الملفات تحديدًا. خصوصاً وأن تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية يشير إلى أنه لطالما كانت علاقاتٍ متأرجحةً في دائرة معقدةٍ من الصداقات الهشة والصراعات غير المباشرة.
أخيرًا، لا تبدو الولايات المتحدة شريكًا في مجمل التطورات الأخيرة، بل لعلها الطرف المستبعد كما تذهب بعض القراءات السياسية مؤخرًا. يمكن القول أن واشنطن ليست بعيدة عما يحدث، وأن لها حساباتها الخاصة والقدرة على فرض معادلات مُغايرة. صحيح أن العلاقات السعودية الأمريكية تمر بواحدة من أسوأ فتراتها، كما تتحفظ واشنطن – بحسب تصريحات بعض المسؤولين في البيت الأبيض – على المصالحة السعودية الإيرانية والدور الصيني خاصة، إلا أن الأمريكيين، وتبعاً لتقديرهم لهذا الموقف، سيفعلون ما يلزم لضمان مصالح واشنطن ونفوذها في المنطقة. كذلك هي إسرائيل، اللاعب الجديد في منطقة الخليج والتي تعتبر تطبيع علاقاتها مع السعودية أولوية قصوى، لا يبدو أنها ستقف مكتوفة اليد أمام هذا التقارب السعودي الإيراني الذي يمثل تحديًا جديًا وتهديدًا مباشرًا لكل ما أنجزته دبلوماسيتها في الخليج.