دول الخليج بين مهادنة إيران والتعايش مع إسرائيل

في أول جولة خارجية له منذ توليه مهام الرئاسة مطلع العام، حط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السعودية في 13 مايو 2025 في جولة خليجية بالغة الأهمية شملت قطر والإمارات.

الجولة التي تكسر قواعد الدبلوماسية الأمريكية بعد أن كانت بريطانيا هي المحطة الأولى لأي رئيس أمريكي فور انتخابه في أعراف البيت الأبيض، تتزامن مع الحرب المتواصلة على غزة وحديث عن نوايا لتمديد الاتفاقيات الإبراهيمية واستمرار جولات المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي.

اختار ترامب زيارة دول الخليج متجنبا زيارة إسرائيل، وكأنه يرسل برسائل واضحة ترجح كفة الخليج كحليف مهم ماليًا أولاً واستراتيجياً ثانيًا. وتعكس الزيارة أهمية الثقل الخليجي في المنطقة والمساعي غير الصريحة لإقناع السعودية بالتطبيع مع إسرائيل رغم الحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة منذ عامين والمساعي الخليجية لتحسين العلاقات مع إيران.

يتزامن ذلك مع انطلاق جولة خامسة من المحادثات الأمريكية الإيرانية للتوصل إلى اتفاق يحول دون تمكين إيران من تطوير أسلحة نووية مقابل رفع العقوبات عنها.

ويأتي الاهتمام الأمريكي البالغ بالسعودية ودول الخليج والمنطقة تعيش ضغوطات بين مساع لتحقيق تطبيع بين الرياض وإسرائيل رغم تأكيد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عدم إمكانية حدوث ذلك “دون دولة فلسطينية مستقلة” من جهة، والرغبة في تحسين العلاقات مع طهران من جهة ثانية.

الخليج وإسرائيل

خمس سنوات مضت على تطبيع الإمارات والبحرين علاقاتهما الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل خلال ولاية ترامب الأولى. وبالتوازي مع التطبيع مع إسرائيل، حسنت دول الخليج في السنوات الأخيرة الماضية علاقاتها مع إيران بشكل ملحوظ، فتحت السعودية قناة حوار مع طهران وسط ترحيب أممي نظرًا لما يمثله هذا التقارب السعودي الإيرامي من أهمية في استقرار المنطقة. وفي أبريل 2025، رحبت الرياض بجولة المحادثات بين إيران والولايات المتحدة في سلطنة عمان واعتبرتها خطوة مهمة لإنهاء الخلافات إقليميًا ودوليًا.

لكن هذا الأمر يزعج تل أبيب بشكل كبير ويسحب البساط من تحتها إذ أن كل تواصل إيجابي بين الخليج وطهران يعزز وزن إيران الإقليمي، ويمهد لحل مشاكلها مع الخليج (السعودية والإمارات والبحرين بالذات) وبالنتيجة، يجعل من دول الخليج أقل احتياجًا لإسرائيل كما أنه يعمق عزلة الأخيرة في الشرق الأوسط. ولهذا، تحرص إسرائيل إلى تحقيق تطبيع مع السعودية وكانت تعول على الرئيس ترامب للضغط في هذا الصدد.

وبحسب نيويورك تايمز، الرياض وأبوظبي شاركتا في منتصف أبريل 2024 في التصدي للهجوم الإيراني على إسرائيل عبر تعاون استخباراتي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث قدمتا معلومات تتعلق بتتبع الرادارات والمجال الجوي للمساعدة في التصدي لهجوم إيراني على إسرائيل.

التقارب الخليجي الإسرائيلي سابق لما يعرف بالاتفاقيات الإبرهيمية، في تسعينيات القرن الماضي كان هناك تبادل تجاري بين إسرائيل وقطر وسلطنة عمان. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بادرت السعودية بتسليم واشنطن مبادرة تقول فيها إن الدول العربية جاهزة للتطبيع مع تل أبيب، وقتئذ، أعتبرت الورقة السعودية محاولة للتهدئة بعد ضلوع سعوديين في أحداث سبتمبر.

لكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي وانهيار عدة أنظمة عربية، عززت إيران من سطوتها في المنطقة لحماية النظام السوري والأقليات الشيعية في لبنان واليمن والعراق، وقدمت يد العون لحزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وكلها تنظيمات تزعج السعودية.

الخليج وإيران… المصالح والعداوات

العلاقات بين طهران ودول الخليج لطالما اتسمت بالتوتر حتى قبل قيام الثورة الإسلامية في العام 1979. طموحات إيران في منطقة الخليج منذ عهد الشاه تتصادم مع أنظمة دول الخليج، رغم التبادل الاقتصادي بين الجانبين والعلاقات التاريخية.

لم تخف طهران يوما طموحاتها الجيوسياسية في المنطقة لكن الضربة القاسمة التي تكبدها محور المقاومة حزب الله – سوريا – اليمن خلال  الحرب على غزة ولبنان جعل من هذه الهيمنة اليوم محاصرة، وذلك بعد أن فقدت أهم حلفائها (سوريا) كما أن موطئ قدمها في لبنان في أضعف حالاته. اقتصاديًا، ورغم العقوبات الدولية على إيران إلا أن  حجم التبادل بين طهران والإمارات يقدر بنحو 27  مليار دولار، ويتمتع مواطنو الإمارات بإعفاء من تأشيرات دخول الى ايران منذ العام 2023.

ورغم خلافات طهران وأبوظبي وتنازعهما على جزر متنازع عليها، تتخطى واردات إيران من الإمارات خلال عام واحد 20 مليار. وترتبط الإمارات وإيران باتفاقيات شراكة استراتيجية، بل تعتبر الإمارات أكثر جيران إيران تصديرًا إليها، وتعتبر الإمارات منفذًا من منافذ إيران للتملص من العقوبات الأمريكية.

في 12 مايو 2025 استقبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في أبوظبي. اللقاء جاء بالتزامن مع المفاوضات الأمريكية الإيرانية التي تراها أبوظبي “خطوة لدعم الاستقرار في المنطقة”. كما سلمت الإمارات رسالة من ترامب إلى طهران، ما يعكس ثقة واشنطن في الوسيط الإماراتي.

قبل ذلك وفي عام 2024، انعقدت اللجنة المشتركة الإماراتية الإيرانية بعد انقطاع دام 10 أعوام. وكانت أبوظبي قد خفضت في عام 2016 تمثيلها في طهران بعد أن قطعت السعودية علاقاتها مع إيران على خلفية الهجوم على سفارتها لكن سرعان ما عادت أبوظبي ورفعت تمثيلها في إيران في العام 2019. يبدو الحرص على المنافع التجارية للإمارات في علاقتها بطهران متناقضا مع الخلاف السياسي بينهما على الجزر، ونقيضًا لافتًا للتقارب الإماراتي الإسرائيلي، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

هذا المشهد المصغر يلخص الاختلاف الكبير  في وجهات النظر بين إيران والخليج، فطهران التي تقود المحور المعادي لإسرائيل تجد نفسها في علاقة مباشرة مع دول عربية مطبعة، وفي مقدمتها الإمارات.

من الجلي أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض لها تأثير مباشر على شكل العلاقة بين السعودية وإيران، تسعى الدولتان منذ أشهر إلى تنفيذ الاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين قبل أكثر من عقدين وتوسعتها لتشمل الجانب العسكري رغم الخلافات العالقة بشأن أمن مياه الخليج والأقليات في البلدين ومكافحة الإرهاب وهجمات الحوثيين، ما يصل حد اتهام طهران بالضلوع في التجارة بالمخدرات.

واستأنفت الرياض وطهران في مارس 2023 العلاقات الدبلوماسية ووقعتا اتفاقية برعاية الصين لوضع حد لخلاف محتدم دام لسبعة أعوام. وكان لاستئناف العلاقات بين الرياض وطهران أثره المباشر على مشروع تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. مسؤولون إسرائيليون اعتبروا الاتفاق السعودي الإيراني “فشلاً كبيرًا للحكومة الإسرائيلية وضربة للتحالف ضد إيران”.

ونددت السعودية بلهجة شديدة بالعدوان الإسرائيلي على غزة لكنها في الوقت نفسه اعترضت بعض الصواريخ التي أطلقها الحوثيون التي دخلت الأجواء السعودية في اتجاه إسرائيل. وبعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران في 2024، اتفقت السعودية وإيران على التهدئة في حال وقوع هجوم إيراني على إسرائيل.

مواقف متباينة: من التطبيع إلى الممانعة

منذ توقيع الاتفاق الإبراهيمي في سبتمبر 2020، تتجه العلاقات بين أبوظبي وتل أبيب في نسق تصاعدي سياسيًا واقتصاديًا بل وشعبيًا أيضًا. وكانت الإمارات إلى جانب البحرين، الدول العربية الوحيدة التي انتقدت عملية حماس في السابع من أكتوبر 2023 (عملية طوفان الأقصى) وقالت إن الهجوم “يشكل تصعيدًا خطيرًا” ووصفت احتجاز رهائن إسرائيليين  بأنه “يبعث على الاشمئزاز”، لكن بالتوازي مع ذلك، انتقدت الإمارات الحرب الإسرائيلية على غزة وطلبت وقف إطلاق النار.

وعلى عكس الإمارات، لم تطبع قطر العلاقات مع إسرائيل رغم المبادلات التجارية السابقة بين الجانبين. وترعى الدوحة مفاوضات إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وكانت الدوحة داعمًا ماليًا لحكومة حماس عبر دفع رواتب الموظفين بموافقة إسرائيلية وعبر بنوكها، كما تحتضن الدوحة عدة قيادات من حماس. في المقابل، تجمع قطر وإيران علاقات جيدة بل كانت هذه العلاقات سببًا مباشرًا في القطيعة الأزمة الخليجية ومقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر للدوحة منتصف عام 2017. كما وتربط الدوحة وطهران اتفاقيات في مجال الطاقة وتقاسم حقول للغاز.

تعتبر الكويت الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تدخل في أي علاقة مع إسرائيل، لا سياسيًا ولا تجاريًا ولا استخباراتيًا، وهي من بين الدول العربية الأكثر ممانعة للتطبيع وما تزال تمنع دخول الإسرائيليين إليها، ولم ترضخ الكويت للضغوط الأمريكية في هذا السياق. ورغم بعض التشنجات والاشكالات التاريخية بين فترة وأخرى، تحافظ الكويت على علاقات جيدة مع إيران.

وتعتبر البحرين التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل منذ عام 2020 أكثر الدول الخليجية عداءً لإيران، كما وتتهم المنامة طهران بتحريض الشيعة في البلاد. وقطعت المنامة علاقتها بطهران منذ سنوات لكنها احتضنت في المقابل لقاءات عسكرية برعاية أمريكية شاركت فيه إسرائيل مع دول عربية أخرى.

مؤخرًا، بدأت البحرين بجهود ملك البلاد محاولات جديدة لإعادة العلاقات مع طهران، حيث شاركت في التعزية الحضورية بمقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، كما عقدت المنامة وطهران جلسات أولية للتمهيد إلى إعادة العلاقات.

أقامت سلطنة عمان مع إسرائيل علاقات تجارية من التسعينات، إلا أن المكتب تعرض للإغلاق لاحقًا. في المقابل، لم تقطع السلطنة علاقاتها بإيران بعد قطع العلاقات بين طهران والسعودية في عام 2016 على خلفية إعدام الرياض رجل الدين الشيعي نمر النمر وحرق القنصلية السعودية.

وفي الحرب على غزة، برزت مسقط بإصدار بيانات متتالية في إدانة العمليات الإسرائيلية على غزة وبذلت جهودًا دبلوماسية غير مسبوقة، كما برز الشيخ الخليلي، مفتي السلطنة، بمواقف منددة بالحرب على غزة في حضور لافت. كما وتحتضن مسقط المفاوضات الأمريكية الإيرانية للتوافق على الملف النووي والوصول إلى إتفاق جديد. وهو ما يشير إلى أن سياسات السلطنة تبدو أكثر ميلاً للعلاقات مع إيران.

حبل التوازن المشدود

تعتقد بعض الأنظمة الخليجية أن التحالف مع إسرائيل يساعدها في تقويض نفوذ إيران في المنطقة وكسب معركة “المخاوف الأمنية”. لكن في الوقت ذاته، تحتاج دول الخليج إلى علاقات متوازنة مع طهران تنهي عقودًا من العداء والمواجهات غير المباشرة والحروب بالوكالة.

تدرك دول الخليج أن مناخًا مسالمًا ومستقرًا هو ضرورة لتنمية مستدامة، وأن إيران شريك مهم وواعد إذا ما تغيرت حسابات طهران وسياستها الإقليمية وازداد منسوب الثقة فيها.

يبقى تحسين العلاقات مع طهران مدفوعًا بحسابات أمنية وتجارية، لكنه محفوف بعقبات أيديولوجية وتاريخية تتجاوز مجرد تبادل المصالح. وبين هذا وذاك، تبرز الولايات المتحدة كلاعب مركزي يحاول إعادة تشكيل منظومة التحالفات في المنطقة، بيد أن فشلها في فرض سردية موحدة بين الخليج وإسرائيل في ظل استمرار العدوان على غزة، يعكس هشاشة هذا “التحالف الجديد”.

في خضم هذه التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يبدو الخليج وكأنه يسير على حبل مشدود بين خيارين لا يمكن التوفيق بينهما دون ثمن سياسي واستراتيجي باهظ: التطبيع مع إسرائيل في ظل ضغط أمريكي متصاعد وسيولة الأمن العالمي والاستثمارات في الذكاء الاصطناعي والانفتاح على إيران بما تمثله من تهديدات وفرص في آن.

وإذا كانت بعض العواصم الخليجية قد اختارت المضي قدمًا في التطبيع وتوظيفه لتعزيز نفوذها الإقليمي والاقتصادي، فإن أخرى ما زالت تتعامل مع إسرائيل كضرورة استراتيجية أكثر من كونها شريكًا موثوقًا.

وهكذا، يجد الخليج نفسه اليوم في موقع الفاعل الذي يفاوض على أكثر من جبهة، لكنه أيضًا في موقع المتلقي الذي قد يدفع ثمن التوازن الزائف إذا ما انفلتت المعادلة، أو فُرض عليه الاختيار الحاسم بين طهران وتل أبيب.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.