حرب إسرائيل في غزة ولبنان: المسارات والمآلات
بعد انقضاء عام منذ بدء الحرب في غزة، تدخل منطقة الشرق الأوسط منعرجًا جديدًا وخطيرا يتمثلُ في توسع رقعة الحرب لتشمل الضفة الغربية ولبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران. وبعد سقوط أكثر من 40 ألف قتيل وآلاف المفقودين تحت أنقاض المباني، بينهم نحو 12 ألف طفلًا، نقف أمام حرب يمكن توصيفها بأنها أكبر عملية إبادة جماعية يشهدها التاريخ وتنقل على الهواء مباشرة في ظل عجز دولي عن إدانتها جراء تواطؤ غربي مع العطش الإسرائيلي للانتقام وإعادة الاعتبار لصورتها المنهارة، باعتبارها الدولة الأقوى في المنطقة بعد مشهد الانهيار الكبير في 7 أكتوبر 2023.
نحاول فيما يأتي استقراء الأوضاع الاستراتيجية لجميع الأطراف ومآلات الحرب بعد امتداد رقعتها ودخول أطراف جديدة في مفاصلها.
معطيات الداخل
كشفت الحرب عن أن المقاومة الفلسطينية تبدو مستعدة لتقديم المزيد من التضحيات من أجل تحقيق أهدافها من خلال الاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين والتفاوض لمبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. تؤكد الحرب أن الحاضنة الشعبية للمقاومة كبيرة ومستعدة لرفدها، وأنها حاضنة صلبة وعصية على اختراق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية التي تتعاون جميعًا في عمليات المراقبة والتجسس بغية الوصول إلى اكتشاف أماكن الأسرى، إضافة إلى ذلك، هي تؤكد على أن المقاومة الفلسطينية كانت تستعد لهذه الحرب منذ سنوات، حيث تم تخزين الكثير من الذخائر والصواريخ وإنشاء مصانع قادرة على تجديد المخزون من العتاد الذي لا يبدو أنه ينفد رغم الحصار المطبق الذي تتعاون فيه أنظمة عربية مع إسرائيل.
على المستوى الفلسطيني أيضًا، كشفت الحرب عن حالة تصدع عميق بين فلسطينيي غزة وبين فلسطينيي الضفة الغربية والداخل في الأراضي المحتلة عام 1948م، وباستثناء جنين التي تعتبر معقلاً لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، قلما شاركت المدن الأخرى بأي عمليات مساندة، أكثر من ذلك، لم تشهد هذه المناطق مسيرات حاشدة للتنديد بما يحدث في غزة. وبالتوازي مع اشتباك قوات السلطة الفلسطينية مع المقاومين داخل مناطق نفوذها ومحاصرتهم، منعت السلطة الفلسطينية خطباء الجمعة من التحريض على المقاومة.
يعود هذا التصدع إلى تعارض المبدأ الذي ينطلق منه كل طرف، فالمنتمون إلى الحركات الإسلامية كحماس والجهاد يعتبرون المقاومة الخيار الوحيد، فيما تعتبر السلطة الفلسطينية وحركة فتح خيار المقاومة بعيدًا عن الواقعية، وأن طريق إقامة الدولة الفلسطينية إنما يتم عبر التعاون مع المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل للوفاء بمقررات القانون الدولي.
في الداخل الإسرائيلي، كشفت الحرب عن أن المجتمع الإسرائيلي هو في غالبيته مجتمع حربي، ومع دخول الحرب عامها الثاني، تلاشت كل الرهانات التي راهنت على ملل المجتمع الإسرائيلي وكلله من الحرب.
لقد ذابت قوى ما يسمى بالاعتدال في الداخل الإسرائيلي والساعية للسلام في المنطقة في غالبيتها داخل سياسات الحكومة الإسرائيلية وطموحاتها في المزيد من عمليات الانتقام والتعسف، يمكن القول إن الاختلافات بين التيارات المتدينة والمتشددة من جهة والتيارات الليبرالية واليسارية من جهة أخرى ليست في حقيقتها سوى اختلافات سطحية.
الصراع يمتد إلى ما بعد الحدود
لقاء حماس في غزة والفشل في استعادة الأسرى دفع الحكومة الإسرائيلية إلى القفز إلى الإمام على أمل تحقيق أهداف أخرى غير الأهداف التي قامت الحرب على أساسها. توجهت بوصلة الحكومة الإسرائيلية في اتجاه لبنان على أمل تحقيق اختراق استراتيجي في جبهة الشمال وتحقيق هدف لطالما حلمت به القيادة الإسرائيلية، وهو تقليم أظافر حزب الله وإشغاله في صراع طائفي داخل لبنان.
تمكنت إسرائيل من اختراق دوائر الاتصال الكبرى لدى الحزب وهو ما أدى إلى اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله إضافة إلى تصفية أغلب رجالات الصف الأول في القيادتين السياسية والعسكرية للحزب، شمل ذلك عمليتا تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي وأجهزة المناداة “البيجر” المفخخة.
الانجازات الاستخباراتية والعسكرية لإسرائيل في لبنان لم تنجح في تغيير موازين القوى على الحدود، فالجيش الإسرائيلي لا يزال عاجزًا عن عبور الحدود التي تنتشر فيها مجاميع جنود حزب الله المستمرين في تطبيق سياسة التصعيد المتدرج.
بالنسبة إلى الجبهة الأخطر على أمن المنطقة والعالم، وهي الجبهة الإيرانية، قامت إسرائيل مطلع أبريل الماضي بمهاجمة القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت 16 شخصًا، ومنهم محمد رضا زاهدي أحد كبار قادة فيلق القدس، ردت إيران على الهجوم بخجل رغبة منها في عدم التصعيد. تابعت تل أبيب عملياتها تجاه إيران فقامت باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وذلك أثناء حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان في طهران، الأمر الذي اضطر إيران إلى الرد على هذه الإهانة وعلى اغتيال قادة حزب الله من خلال إطلاق نحو 200 صاروخ فرط صوتي موجهة بشكل أساسي نحو القواعد العسكرية الإسرائيلية، الأمر الذي جعل القيادة الإسرائيلية أمام تحدي الرد على الرد. وفيما لا يُعرف كيف ستستجيب إسرائيل على هذه الضربة الموجعة، ومتى، يتمثل الهدف الأهم لإسرائيل في المنشآت النووية الإيرانية، وخاصة محطة نطنز التي تزعم إسرائيل أنها منطقة تطوير أسلحة ذرية.
تشير وسائل إعلام أمريكية إلى أن البيت الأبيض حذر إسرائيل من ضرب المنشآت النووية وكذلك مصافي النفط والطاقة خشية ارتفاع أسعار الطاقة قبيل الانتخابات الأمريكية، مما قد يتسبب في أزمة اقتصادية تُرجح كفة الجمهوريين، بالتوازي، بدأ الجيش الأمريكي في إمداد إسرائيل بمنظومات الدفاع الجوي “ثاد” التي تستلزم وجود جنود أمريكيين على الأرض.
حتى الآن، ورغم الهجمات الإسرائيلية المتتالية على دمشق وريفها، لم تساهم الجبهة السورية بأي جهد عسكري، ولا يبدو أن هناك رغبة لدى النظام السوري في فعل شيء إذ أن روسيا، بحكم الأمر الواقع، تبدو صاحبة قرار السلم والحرب في الدولة السورية، لا تزال روسيا تحتفظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل رغم مناكفات نتنياهو المتكررة للكرملين. في الجبهة العراقية، لا تزال مساهمة الميليشيات والأحزاب العراقية الحليفة لإيران دون مستوى الصخب الإعلامي الذي تبدو عليه، لكنها بلا شك تزيد من الضغط على الجيش الإسرائيلي. أما الجبهة اليمنية، يمكن اعتبار مساهمة أنصار الله “الحوثيين” المساهمة الأكبر في دعم جبهتي غزة ولبنان من خلال التحكم بالملاحة في البحر الأحمر واستهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل والهجوم المستمر على ميناء إيلات وتل أبيب باستخدام الصواريخ البالستية والمسيرات، ورغم محاولات الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل مهاجمة أهداف داخل اليمن إلا أن تلك الهجمات لم تنجح في كبح جماح جماعة أنصار الله.
الانقسام العربي
عربيًا، ثمة انقسام في مواقف الدول العربية، بين دول تُصرح بدعمها لحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال مثل عمان وقطر والكويت والجزائر وبين دول منخرطة في ما يطلق عليه بـ “دول الاعتدال العربية” التي هي إما مطبعة مع إسرائيل أو أنها في طريقها نحو ذلك.
تعتقد دول الإعتدال العربية أن في هزيمة إسرائيل انتصارا لإيران ومحورها، وتعزيزا لثقافة الممانعة المجتمعية ضد التطبيع مع إسرائيل، وتجريئًا للشعوب على الثورات في الدول ذات الأنظمة الجمهورية، ولذلك، تأمل دول الاعتدال في أن يكون انتصار إسرائيل في هذه الحرب بمثابة بتر لما تعتبرها أذرعًا إيرانية.
في سياق أخر، تخشى دول الخليج من امتداد المواجهة الإسرائيلية الإيرانية إلى أراضيها، خاصة بعد التهديد الإيراني بقصف المنشآت النفطية في الخليج إذا ما تعرضت المنشآت النفطية الإيرانية لهجوم إسرائيلي أو أمريكي، هناك مخاوف متصاعدة لدى الدول القريبة إيران من أن استهداف إسرائيل لمنشآت نووية إيرانية قد يتسبب في تلوث أجواء هذه البلدان ومياهها بإشعاعات ذرية، يضاف إلى ذلك خشية دول الخليج من استخدام القوات الأمريكية لقواعدها في أي عملية عسكرية ضد إيران، وهو الأمر الذي يعني حربًا مباشرة بين إيران وتلك الدول.
غربيًا، تعيش فئات عريضة داخل المجتمعات الغربية صدمة قبالة ما يجري في المنطقة. وبعد أن كانت دول الغرب حليفًا تلقائيًا لإسرائيل، ينقسم الأوربيون اليوم بين دول داعمة لتل أبيب مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا ودول معارضة لها مثل إيرلندا وإسبانيا. نلاحظ تراجع الأحزاب المؤيدة لإسرائيل في بريطانيا وفرنسا وتقلص الدعم العسكري البريطاني لإسرائيل بعد صعود حزب العمال للحكم. بالتوازي، اضطر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تحت ضغط قوى اليسار الصاعدة، إلى المطالبة بوقف تسليح إسرائيل، وليس مستبعدًا أن تصل موجة التحول ضد إسرائيل إلى ألمانيا، خاصة أنها على أعتاب انتخابات عامة خلال العام المقبل.
في الولايات المتحدة، لا يزال البيت الأبيض متوافقًا مع توجهات اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل الذي يحظى بقوة وتأثير عاليين. مستويات المعارضة للتغطية السياسية والدعم العسكري لتل أبيب تزداد يومًا بعد يوم ولا شك أنها ستؤدي إلى أزمات اجتماعية، فضلاً عن حدوث انشقاقات كبيرة في صفوف السياسيين الأمريكيين في الكونغرس ومجلس النواب الذين سيضطر الكثير منهم إلى مواجهة إغراءات اللوبي الإسرائيلي كما يفعل عضو الكونجرس بيرني سنادرز وغيره، يُضاف إلى ذلك أن صوت الناخب العربي وفئة الشباب المعارض لسياسات إسرائيل سيكون مؤثرًا في الانتخابات الرئاسية عبر التصويت لمرشحة حزب الخضر، جيل ستاين، ما قد يؤدي إلى خسارة الديمقراطيين ووصول الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يصعب التنبؤ بمواقفه، وعليه نكون أمام مشهدين، إما إنهاء الحرب بصورة لا يتمكن فيها أي طرف من التفاوض أو تسعيرها إلى أقصى مدى.
مآلات الحرب والتغيرات المرتقبة
من المتوقع أن تستمر الحرب طويلاً، وأن تتحول مع الوقت إلى حرب استنزاف. رغم ذلك، لا يبدو أن في إمكان أوروبا الاستمرار في دعم إسرائيل إذا تأثرت إمدادات النفط والغاز القادمة من الخليج، أما الدعم الأمريكي، وهو الأكبر، فله مهدداته الخاصة أيضًا، إذ لا يبدو أن المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس تملك ذات الميل المطلق لإسرائيل كما هو الرئيس جو بايدن، أما المرشح الجمهوري دونالد ترامب، فرغم ثرثرته إلا أنه يؤمن بمبدأ الانكفاء على الذات والانشغال بقضايا الداخل، ما سيجعله مترددا في تمويل حروب إسرائيل التي باتت تمثل للأمريكيين ثقبًا أسودًا يبتلع الموارد والإمكانات عوض توجيهها لروسيا والصين وكوريا الشمالية.
إن أكثر ما يهدد المنطقة اليوم ويشي بالانتقال لحرب إقليمية ودولية هو تردد واشنطن في كبح جماح تل أبيب التي لا يبدو أنها قادرة على الحسم الميداني في غزة أو في جنوب لبنان، فضلاً عن الحسم مع جماعة أنصار الله في اليمن أو مع إيران. وعليه، لا يبدو أن هناك من خيار سوى انتظار سيدة جديدة أو سيد في البيت يكون قادرًا على التعامل مع كل هذا التعقيد بموضوعية وعقلانية وحزم يستلزم من جميع الأطراف تقديم تنازلات قد تؤدي إلى تغيرات سياسية حاسمة.
في إسرائيل، يبدو رحيل بنيامين نتنياهو وقادة اليمين المتطرف عن دائرة الفعل السياسي متوقعًا، كذلك في فلسطين ولبنان وكامل منطقة ما يعرف بمحور المقاومة، لا تمر الكلفة الهائلة من القتلى والدمار في سبيل التحرر دون نقاش للسياسات والأولويات، وحساب التراتبية في صنع قرارات السلم والحرب، وعليه، قد نرى تغييرًا جوهريًا في منظومة السلطة الفلسطينية وفي الوضع الإداري لقطاع غزة، وستواجه حماس تحديات ما بعد الحرب من بناء وتعويضات، وبالتأكيد ستكون حماس مجبرة على مواجهة الكثير من الضغوط وتقديم الكثير من التنازلات.
في لبنان، ومع غياب الشخصيات الكاريزمية في حزب الله، ستكون هناك ضغوط ومحاولات داخلية وإقليمية ودولية لتجريد الحزب من سلاحه أو استيعابه داخل منظومة الجيش اللبناني، إضافة إلى إعادة ترتيب البيت السياسي اللبناني.
إيران لن تكون بعيدة عن هذه التغيرات، تشير بعض القراءات إلى أن خامنئي قد يكون المرشد الأخير للثورة. بعد اغتيال قاسم سليماني والعديد من قادة الحرس الثوري في إيران وسوريا ولبنان، تضعضعت قوة الحرس داخليًا لصالح القوات النظامية، وبعد مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، المرشح الأبرز لخلافة خامنئي، قد تتحول إيران إلى جمهورية تعيش صراعاتها الداخلية الخاصة، وسيكون دعمها للأحزاب السياسية الشيعية في الدول العربية لا يختلف عن دعم تركيا للأحزاب الإسلامية السنية.