الضرائب غير المباشرة في الخليج: بين تقوية الاقتصاد وتهديد نموذج الرفاه
تعتبر الضرائب الخليجية غير المباشرة من أهم مصادر الإيراد العام غير النفطي. لكنها في نفس الوقت، تُسهم في زيادة معدلات التضخم. يسود الاعتقاد لدى المختصين في الدول الصناعية بأن ضعف الدخول الفردية في البلدان النامية يحول دون فرض ضرائب مباشرة تصاعدية كضريبة الدخل، كما تستوجب هذه الضرائب إدارة متمرسة يمكنها الكشف عن مواطن التهرب. يفسر هذا الوضع بتقديرهم أهمية الضرائب غير المباشرة خاصة الرسوم الجمركية في هذه البلدان.
ما صحة هذا الرأي في دول مجلس التعاون؟
مما لا شك فيه أن الضرائب غير المباشرة في بلدان الخليج أهم بكثير من الضرائب المباشرة. إذ أن الضرائب غير المباشرة على عكس الضرائب المباشرة لا تفرق بين المكلفين حسب الجنسية، وهذه الأهمية المالية من أهم خصوصيات الأنظمة الخليجية.
لكن سبب هذه الخصوصية لا يعود إلى عوامل تتعلق بالدخول الفردية أو بالإدارة، فالدخل الفردي في الخليج مرتفع ليس فقط عند المقارنة مع البلدان النامية بل حتى مع الدول الصناعية. الدخل الفردي الكويتي أعلى من الدخل الفردي الإسباني والدخل القطري يعادل ضعف الدخل البريطاني، في حين أن الضرائب المباشرة في الكويت أقل أهمية من الضرائب المباشرة في إسبانيا كم أن الضرائب في قطر أقل أهمية من الضرائب في بريطانيا.
في تعود أهمية الضرائب غير المباشرة في دول الخليج إلى عوامل سياسية بالدرجة الأولى. وتتجلى في رفض السلطات العامة فرض ضريبة على دخل المواطن، لكنها توافق على فرض ضريبة على الاستهلاك.
لا تلعب العوامل الإدارية داخل دول الخليج دوراً في ضعف الضرائب المباشرة، إذ تستخدم بلدان المجلس أنظمة وأدوات إدارية متطورة لا تختلف كثيراً عن تلك السائدة في الدول الصناعية.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن التهرب الضريبي ممكن في الضرائب المباشرة وغير ممكن في الضرائب غير المباشرة. هذه الظاهرة المعقدة ترتبط بعدة عوامل، يوجد التهرب بوجود الضريبة ولا ينتهي إلا بإلغائها، كما أنه يكثر في ضريبة القيمة المضافة وهي غير مباشرة في حين يصعب التملص من أداء الاقتطاع عند المنبع في الضريبة على الدخل وهي مباشرة.
أدت الخيارات السياسية في الخليج إلى تفضيل الضرائب غير المباشرة، وتستند هذه الخيارات إلى أسس هشة واعتبارات غير منطقية، فهي ترى بأن الضرائب المباشرة تؤثر سلبياً على مستوى معيشة المواطنين، والواقع أن الضرائب غير المباشرة تقود إلى نفس النتيجة عن طريق مساهمتها في معدلات التضخم.
حصيلة الضرائب في الخليج
تحتل الضرائب غير المباشرة في غالبية البلدان الخليجية مكانة مالية مرموقة، وتعمد ميزانية الدولة عليها في تمويل نفقاتها.في السعودية، انتقلت حصيلة الضرائب غير المباشرة من 58 مليار ريال في 2017 إلى 300 مليار ريال في 2024. أي من 8.3% من الإيرادات العامة إلى 25.5% منها.خلال هذه الفترة شهدت الضرائب على السلع والخدمات تصاعداً كبيراً لسببين: السبب الأول إدخال الضريبة على القيمة المضافة، والسبب الثاني زيادة سعرها ليصل إلى 15% اعتباراً من منتصف 2020.وهكذا أصبحت الميزانية تعتمد على هذه الضريبة، وعلى خلاف تصريحات بعض المسؤولين بات من الصعب تخفيض هذا السعر دون إحداث خلل مالي.في الكويت، هو البلد الخليجي الوحيد الذي لا يطبق الضرائب على السلع والخدمات، لا توجد فيه ضرائب غير مباشرة باستثناء الرسوم الجمركية. ارتفعت لشكل محدود للغاية حصيلة الرسوم الجمركية من 328.6 مليون دينار في 2017/2018 إلى 340.5 مليون دينار في 2023/2024، كما أن مساهمتها في مالية الدولة متدنية وتتجه نحو الهبوط حيث انتقلت خلال هذه الفترة من 2.0% من الإيرادات العامة إلى 1.7%. ورغم هذا الضعف الشديد فإن الرسوم الجمركية أهم مصدر غير نفطي للإيرادات العامة.
ينجم ذلك هذا الوضع جراء المكانة المهمة للعوائد النفطية ومعارضة مجلس الأمة للضريبة على القيمة المضافة.تعاني الكويت مقارنة بدول الخليج الأخرى من العجز المالي بشدة، ولا ينجح الإصلاح الاقتصادي إلا بمعالجة هذا العجز. وتستوجب هذه المعالجة إعادة النظر في النظام الضريبي بإدخال الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية.في الإمارات، للضرائب غير المباشرة أهمية كبيرة في الميزانية الاتحادية. فقد ازدادت حصيلتها من 9653 مليون درهم في 2023 إلى 11267 مليون درهم في 2024، كما تحسنت مساهمتها في الإيرادات العامة من 15.1% إلى 17.5%. في عُمان، ارتفعت الضرائب غير المباشرة من 280 مليون ريال في 2022 إلى 876 مليون ريال في 2024. ويعود هذا الارتفاع إلى إدخال ضريبة القيمة المضافة اعتباراً من أبريل 2021. وهكذا، أسهمت هذه الضرائب مساهمة فاعلة في تقليص العجز المالي وباتت تشكل حصيلتها 7.9% من إيرادات الدولة.في البحرين، ولأسباب ترتبط بالعجز المالي المزمن والمفرط قررت المنامة اعتباراً من 2022 رفع سعر ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 10%. ترتب على ذلك زيادة حصيلتها من 247.0 مليون دينار في 2021 إلى 547.1 مليون دينار في 2022. أي بنسبة قدرها 121.4%. لذلك ازدادت حصيلة الضرائب غير المباشرة خلال سنة واحدة فقط من 413.9 مليون دينار إلى 711.4 مليون دينار. كما ازدادت مساهمتها في تمويل الإنفاق العام من 11.6% إلى 19.0%.في قطر، لا يجد القطريون حاجة لفرض ضريبة جديدة لتمويل الإنفاق العام. إذ أن ميزانية الدولة غالباً ما تنظم بفائض. لا يعرف البلد ضريبة على القيمة المضافة أما الرسوم الجمركيةفيقتضيها الاتحاد الجمركي الخليجي. أما الضريبة الانتقائية فقد أدرجت لأسباب صحية بالمقام الأول.
علاقة الضرائب بالتضخم
تقود الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات الخاضعة لها بالضرورة. ويتحمل المستهلك النهائي عبء هذه الضرائب فيتراجع مستوى معيشته. ويتوقف معدل التضخم على أمرين، هما سعر الضريبة والمواد الخاضعة له، كلما كان السعر مرتفعاً وكلما كان وعاء الضريبة واسعاً تصاعد معدل التضخم.يفترض أن يقود هذا الاستنتاج المبدئي إلى تزايد معدل التضخم في السعودية مقارنة بالدول الخليجية الأخرى لأن سعر ضريبة القيمة المضافة فيها وقدرها 15% أعلى بكثير من الأسعار السائدة في الدول الخليجية الأخرى. ومن باب أولى يفترض أن يكون معدل التضخم في الكويت منخفضاً قياساً بالدول الأخرى لأن الكويت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لا تفرض الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية.
لكن الواقع لا يؤيد هذه الافتراضات. تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن التضخم في السعودية بلغ نحو 1.5% في ديسمبر 2023 في حين بلغ في الكويت 3.4%.هنالك إذن عوامل أخرى غير ضريبية تلعب دوراً بارزاً في معدلات التضخم في الخليج أهمها ما يلي:
أولاً: سعر الفائدة: من المعلوم أن رفع سعر الفائدة على العملة المحلية يقود إلى تراجع التضخم. وهكذا قررت دول الخليج رفعه في يوليو 2023. وهي بذلك تتبع السياسة النقدية الأمريكية في هذا الميدان. كلما رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة تبعته البنوك المركزية الخليجية.أصبح سعر الفائدة حالياً 6.4% في البحرين و6.2% في قطر و6.0% في عمان و5.7% في السعودية و5.4% في الإمارات. وأضعف سعر هو في الكويت عند 4.2%.
ثانياً: حالة الميزانية: كلما زاد العجز ارتفع التضخم. وهذه الحالة من أهم أسباب تصاعد التضخم في الكويت مقارنة بدول الخليج الأخرى، إذ يصل عجز ميزانية الكويت إلى حوالي سبعة مليارات دينار أي 12% من الناتج المحلي الإجمالي وهذا من المعدلات العالية.
ثالثاً: النمو: كلما ارتفع النمو انخفض التضخم، في عام 2023 سجلت الكويت نمواً هو الأضعف في الخليج ويقترب من الصفر (0.1%) مقابل 3.7% في السعودية.وعلى هذا الأساس، تسهم الضرائب غير المباشرة في التضخم بلا شك. فإذا كانت الكويت تسجل معدلاً عاليا للتضخم مقارنة بدول الخليج الأخرى فأن هذا المعدل سيرتفع أكثر لو تبنت الضريبة على القيمة المضافة. كما لو قررت السعودية العودة إلى السعر السابق للضريبة على القيمة المضافة وهو 5% فسوف ينخفض معدل التضخم فيها. ولكن في جميع الحالات لا يجوز إغفال العوامل الأخرى.
في المحصلة، تحتل الضرائب غير المباشرة مكانة مرموقة في مالية غالبية بلدان مجلس التعاون. وباتت تسهم بفاعلية في تمويل الإنفاق العام المتزايد. لكنها تفضي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات. لذلك تستوجب السياسة المالية الرشيدة التوفيق بين هذين المؤشرين.