لماذا يجب أن تبقى التجربة الديمقراطية في الكويت؟
تعرف الكويت باعتبارها النموذج الديموقراطي الأبرز خليجياً. رغم ذلك، تُساهم التخبطات والخلافات السياسية المتصاعدة والترهل التنموي الصارخ وضعف بنيتها التحتية في علو أصوات تنادي بضرورة الإجهاز على هذه الديموقراطية باعتبارها سبب تخلف البلاد في سباق الدول الخليجية المتأهبة نحو المزيد من النمو والتطور.
لا تلتفت هذه الأصوات وإن تبلورت الدلالات أكثر، إلى أن الممارسة الديموقراطية في حد ذاتها هي دلالة على التقدم والتنمية وأن الاجهاز عليها سينعكس بشكل سلبي لا على الكويت وحدها، بل على الخليج بأكمله، حين يفقدُ في منظومته نموذج الدولة الخليجية الوحيدة التي تتبنى الخيار الديموقراطي وتمكن مواطنيها من حق المشاركة السياسية وصنع القرار.
الأصح والأجدى من محاولة وأد التجربة الديمقراطية في الكويت هو تعزيز الفهم لممارساتها السياسية وفهم طبيعتها أكثر فأكثر، وصولاً إلى تطوير التجربة والانتقال من الديموقراطية المظهرية والشكلية إلى الديموقراطية الجوهرية الفاعلة والمساهمة في التنمية، الديمقراطية التي تتشكل فيها الكويت كصورة من صور السلام الذي تحملهُ الديموقراطية كمنظومة من خلال مبادئها الحريصة على المساواة بين الأفراد والانتصار لحقوق الأقليات متمثلةً في عقدٍ اجتماعي ما بين الشعب والسلطة.
ولا شك أن أداء الكثير من النواب وممارساتهم السياسية قد شكلت هذا الهاجس لدى الكثير من الكويتيين الذين بدأوا يستشعرون ثقل التجربة الديموقراطية على صدورهم وتطلعاتهم نحو المستقبل. وهكذا، تحولت الديمقراطية الكويتية إلى شماعة لدى الكثير من المواطنين في الآونة الأخيرة لتبرير جميع التخبطات في دائرة صنع القرار وتعطيل عجلة التطور.
بطبيعة الحال، يجب الالتفات إلى أن جميع التجارب السياسية، الوليدة والقديمة منها على حد سواء، تمر بفترات ثقيلة وصعبة. المهم هو فهم تعقيدات هذه اللحظة والمساهمة في تجاوزها والوصول بالتجربة إلى مناخات أكثر إيجابية.
أصاب الترهل في الكويت مختلف قطاعات الدولة بشكلٍ واضح وجلي، يشمل ذلك البيئة الخدمية وشتى القطاعات العامة في الدولة، كذلك القصور في البنية التحتية وفي تطوير أجهزة الدولة وفي تفعيل الحكومة الذكية. هذا الترهل والتراجع والتداعي هو في حقيقته صنيعة مشتركة ما بين الحكومة ومجلس الأمة جراء غياب التوافقات السياسية وتكريس المصالح الشخصية والفئوية فوق الأولويات الوطنية الواضحة للعيان. ولذلك، الأولى هو أن لا تُلام التجربة الديموقراطية في الكويت على توافق مفقود بين النخب الحكومية والمجتمعية، أو على منظومة سياسية لم تستطع استثمار هذا المشروع الديموقراطي كما يجب.
للحياة الديموقراطية وجهان، إما أن تُستخدم في وجهها الأول المتمثل في تكرس المساواة ما بين الأفراد وتعزيز الحريات وتكثيف المفاهيم التي تقوي من العقد الاجتماعي في الدولة وتنمية البلاد ورقيها، أو أن يبرز الوجه الأخر القائم على التناحر والمكايدة السياسية بالتوازي مع تعطيل التنمية واهدار الفرص.
انشغال أروقة مجلس الأمة بالتشريعات والمقترحات غير المجدية أو المدروسة هو صورة من صور الاستبداد ضد الديمقراطية، وهو أيضًا تعطيل متعمد – بقصد أو دون قصد – لمسارات التنمية والعمران والتطوير في الدولة. في المقابل، إن التذرع أو الزعم بأن تفعيل أدوات المحاسبة والمراقبة والتدقيق على أعمال الحكومة ووزاراتها هو مدعاة لتعطيل التنمية، هو في حد ذاته هروب من حقيقة غياب خطط التنمية الحكومية وتواضع قدرات القائمين على إدارة وزارات الدولة ومؤسساتها.
اليوم، بات الصراع السياسي الدائر في الكويت من قِبل بعض الأقطاب السياسية يؤثر وبوضوح على التعيينات للمناصب الوزارية والعليا في الدولة، تفتقد الكويت لجهود العديد من النخب السياسية والأكاديمية التي لا محل لها في هذه الصراعات أو أنها تجد النأي بالنفس عن العمل في هذه البيئة السياسية المضطربة خير وأسلم من البناء في بيئة يتسابق الفاعلون فيها لهدم كل شيء.
أدى تقديم الوجه الثاني للديمقراطية في الكويت إلى خروج الأصوات الكافرة بالتجربة الديموقراطية ومخرجاتها. رغم ذلك، لا تخلو هذه الإشارات والمطالبات، أيًا كان مصدرها، من محاولة للتملص من مسؤولية الجميع عن هذه اللحظة بكل تفاصيلها وبؤسها. يشمل ذلك (جزء) من المجتمع ذاته الذي هو أكثر الحانقين والمتذمرين من التجربة الديمقراطية ومخرجاتها رغم أنه أهم الفاعلين فيها عبر خياراته وقراراته في صندوق الاقتراع. غنيٌ عن القول إن الشعوب التي لا تنتصر لمعاركها، أساسية كانت أو هامشية، ستركن في رفوف الساسة والتجار.
الديموقراطية التي يريد بعض الكويتيين التبرؤ منها والإجهاز عليها هي الأداة الأقدر على إنصاف مواطنيها وضمان مواطنتهم المتساوية، وهي الضمانة الفاعلة والقاطعة في الدفاع عن حقوق الانسان وتحقيق التنمية المستدامة التي تحفظ للوطن نهضته وتنميته. وعليه، يصبح تضييع هذه المكاسب الوطنية ومحاولة الدعوة للإجهاز عليها جريمة في حق الوطن كله.
تصحيح مسار العملية السياسية في الكويت لن يتأتى إلا من خلال جهد حقيقي وصادق من مختلف المستويات، كما أن المجتمع الكويتي يحتاج إلى مغادرة هذه المقايضة غير المسؤولة بين الديمقراطية والتنمية لكي يتسع الأفق الذي يُبصر عالم السياسة من خلاله، حين كانت أوروبا تحتضر من سطوة الكنيسة والطبقية في عصور الظلام التي مورس فيها على شهادة التاريخ ومؤرخيه، أبشع صور الاستبداد وأكثرها كراهةً، خرج عصر الأنوار كولادةٍ جديدة تقدم مفهومًا مغايرًا لطبيعة التعامل ما بين القوة والفرد في الإطار السياسي، وذلك عبر تكريس مبادئ المشاركة السياسية للأفراد في دائرة صنع القرار، ما أدى إلى حالةٍ توافقيةٍ في شؤون الحياة السياسية، لقد كانت الديموقراطية في هذا الحقل الجديد، البريق الوحيد الذي يدل على التقدم والتنمية واحترام الإنسان.
ينعم الكويتيون بنظام ديموقراطي سباقٍ بين أقرانها من دول الخليج، وهذا النظام دلالة واضحة على تقدم هذه البلاد، ولئن كان بث جلسات مجلس الأمة لتكون مجرياتها شفافةً وواضحةً أمام الناس بشكلٍ صادق ومباشر، قد يمثل كشفًا لأزمات الدولة وصراعات أقطابها كما يريد البعض أن يختزل المشهد، إلا أنها أيضاً دليل على أن أزمات هذا البلاد ماثلة على السطح، وعليه، إن علاجها وتجاوزها هو أسهل بكثير لوضوحها كما إنها تدل على رقي التجربة وتصالحها مع نفسها أمام الحكومة والشعب.