الكويت: ثنائية التطرف
عُرفت الكويت في مطلع الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي باعتبارها عروس الخليج من خلال تميزها في المسرح ومختلف الفنون كأول نموذج خليجي منفتح في وقتها، وصولاً إلى دخول المد الديني مطلع الثمانينات وتغلغله في عروق المجتمع.
اختارت الغالبية العظمى من الكويتيين الدخول في حالة من التوافق مع المد الجديد عبر إلغاء صبغتها القائمة على الانفتاح والتحرر، وصولاً إلى الألفية الثالثة، حيث أصبح المجتمع الكويتي خليطاً ما بين المدين، ومع امتزاج الأفكار ورد لنا مصطلح جديد وهو “المجتمع المحافظ”.
ما بين حالة المراوحة المجتمعية ما بين الانفتاح والانغلاق بابٌ واسع بإمكان الساسة والنظام وحتى الأفراد الدخول من خلاله وممارسة صراعاتهم حيث تبرز مظاهر التطرف والحدة في النزاع. ما يحدث ليس ببعيدٍ عن سياق التاريخ، فقد صَور لنا مُفكرو النهضة والتنوير بأن كثرة الأفكار في مكانٍ واحد أمر صحي، وذلك بلا شك كلام صحيح، لكن عمليًاً يبدو من الصعب مشاهدة أي تطبيقٍ واقعي لحالة من التجانس ما بين أطيافٍ عدة في مجتمعٍ واحد ولو كان حُراً في آليات إنتاجه وتفاعلاته.
ورغم تبني الكويت لنظام ديموقراطي يكفل حرية الأفراد في المعتقد وما إلى ذلك، تعاني الكويت من ثنائية متطرفة ما بين الانغلاق والانفتاح. على ما يبدو فأن كثرة الأفكار والتيارات أمر صحي لتشكيل حالة من العصف الذهني في المجتمع لكن يجب أن يشمل ذلك الجميع دون تسييس، ما يحصل في الكويت وتتردد أصداؤه عبر محطات الأثير أو مواقع التواصل الاجتماعي، هو أن الساسة ووسائل الإعلام المُسيسة تبعاً لمصالحها الخاصة، لا تنفك عن طرح كل ما يثير الجدل والنزاع بشكلٍ شعبوي مبالغ فيه وغالباً ما يؤدي إلى استفزاز النُخب ليتناحروا فيما بينهم على مستوى الخطابات ما يصل إلى تداول السباب والشتائم، بعيداً عن أي نقاشات فكرية أو علمية تنتهي برأيٍ يُحترم وبأفكارٍ تتجدد أو تتبلور لخدمة المجتمع وتعزيز مستوى وعيه وتطوره.
في الحالة الكويتية، ينمُ ذلك عن تناقضٍ فج، يستغلهُ من يعاملون منصات الإعلام والتواصل الاجتماعي باعتبارها أشبه بسرك روماني مهمته أن يكون حاضناً لشتى مظاهر “البلبلة” و”الشوشره”، قد يكون الهدف من كل هذا، هو أن يبقى المجتمع بعيداً عما هو أكثر أهمية، خوفاً من أن تطأهُ آذان الناس وأقلامهم.
بالنتيجة، يدخل المجتمع في حالة من الصراع اللامتناهي لدرجة التشكيك في إنسانيته ومدى قابليته للتعايش والتجاور. يتهم الناس الليبرالي بأنه شخص تافه يدعوا للفحش والانحطاط دون أن يعوا بأن الليبرالية بعيدة عن كل ذلك، قبالة ذلك، لا يتردد كثيرون في وصم الإسلاميين بالإرهاب مع أن غالبيتهم بعيدون عن الإرهاب والتطرف كُل البعد.كثير ممن يخوضون في المناقشات العامة لا يعرفون الفقه والفقهاء، وهم أيضاً، لا يطلعوا على مختلف المدارس الفكرية أو أطروحات المفكرين والفلاسفة، فلو عرفوا وعلموا عن التنوع الموجود في كلا القطبين لما كان الاشتباك الفكري بهذا المستوى من الجهل
.سواءً أكُنت ليبرالياً أو إسلامياً، مسلماً أم مسيحياً، تستطيع الخوض في الحوار بمنطقك، والتسلح بالعلم فيما تعتقد. في المجتمع الكويتي أو حتى غيره من المجتمعات، لا يحتاج ذلك إلى أن تتحول المناقشات الفكرية إلى حروب وصراعات قاتلة أو مسمومة.
علينا التفريق بين التعددية التي هي أداة من أدوات بناء الأوطان وتعميرها وبين فتنة التعددية، التي هي مزلق سهل لتفتيت المجتمع وتحطيمه، خصوصاً في زمن الانفتاح الذي يخول أي شخص من أي بقعةٍ أن يقتحم شؤون الأفراد والمجتمعات.يمكن ملاحظة تراجع مستوى الوعي الفكري في الكويت نتيجةً لهذه العوامل التي تزامنت مع صعود ورواج الخطاب الشعبوي عوضاً عن الخطاب العلمي والمدروس. وينعكس هذا التناقض على عالم السياسة أيضاً، فنجد المجتمع منفتحاً حينًا ووهابياً في حينٍ آخر، هنا تحديداً، تصبح الظواهر المجتمعية وخياراته وقراراته غير مفهومة أو غير سائغة لمن يتابعها، فتضيع الأمور ما بين إفراطٍ وتفريط.
يحدث هذا التناقض نتيجةً لغياب النخب وانحسار دورها أمام الموجة الجديدة من صناع الرأي العام، الشواهد عدة، في موضوع الهوية الكويتية على سبيل المثال، وحين نقرأ في تاريخ الهوية الكويتية بتدقيقٍ وتمحيص، نجد بأن الهوية الكويتية لم تكن يوماً ما صناعة لون واحد أو حالة اجتماعية واحدة بل كانت على الدوام هوية متعددة بالدرجة التي كان فيها كثير من الكويتيين المسلمين يمرون على دكان اليهودي كل سبت ليبادروه بتحيته (سبت مبارك).
المفاهيم أو الروئ الجديدة التي نتجت في السنوات العشرين الأخيرة، ومنها مفهوم “المجتمع المحافظ” الذي هو بلونٍ واحدٍ ورؤية واحدة وفهم واحد فقط، هي روئ وتفسيرات واجتهادات لا تكشف حقيقة التنوع في هذا المجتمع ولا سند تاريخي لها. هي مجرد أوهام أدخلت المجتمع في حالة من النزاع الجبري.
وهو ما أدى ويؤدي إلى تفشي حالة يمكن تلخيصها في أن “القوم في السر غير القوم في العلن”.
وهذه التركيبة المتناقضة أدت إلى حالة من الدوران في حلقة مفرغة على كل الأصعدة، بسبب هذا التضارب تتضح ملامحه في صناديق الاقتراع ما يؤدي إلى مخرجات لا تعكس الرغبة الحقيقية والقابعة في نفوس الناس. يمكن رصد شاهد على هذه الحالة من التناقض في ردة الفعل الشعبية على مقترح قانون تجريم السحر الذي قدمه مجموعة من النواب الذي قوبِلَ بالتهكم والسخرية وكأن الناس لم يكونوا هم أنفسهم من انتخبوا هؤلاء النواب قبل أيام.
بالنتيجة تتوجه البلاد إلى تخبط سياسي بالدرجة الأولى وتخبط اجتماعي بالدرجة الثانية.
يبدو المجتمع الكويتي في هذه المرحلة الدقيقة مشتتًا. وتقع على الدولة ومؤسساتها مسؤولية إبراز دور النخب المجتمعية ورعاية نشوء وبناء تعددية وطنية متصالحة مع نفسها، غير متناقضة أو منقلبة على نفسها.