إيران وأذربيجان: الشيعة الأعداء
من المفترض أن تجمع القواسم الثقافية والدينية المشتركة بين إيران وأذربيجان ذات الأغلبية الشيعية البلدان إلى أبعد حد، خاصة وأن إيران تضم أكبر أقلّية للعرق الأذري، حتى أن المرشد الأعلى للثورة آية الله علي خامنئي ينتمي إلى هذا العرق، لكن على أرض الواقع، يحدث العكس تمامًا، إذ لم تتسم العلاقة بين إيران وأذربيجان في أي وقت من الأوقات بالهدوء، بل إنها مع مرور السنوات تزداد تعقيداً، ما قد يهدد بنشوب صراع مسلح بين البلدين في أي وقت.
حتى عام 1828 كانت أذربيجان تحت سيطرة الامبراطورية الفارسية قبل أن تتنازل عنها لروسيا القيصرية بموجب معاهدتي تركمانشاي وجولستان، بقى الكثير من الأذريين في شمال غرب إيران ليصل تعدداهم اليوم إلى نحو 4 ملايين نسمة، وهي أكبر أقلية عرقية في إيران. أثناء حكم الإتحاد السوفيتي، لم يستطع الأذريون الإيرانيون الهجرة إلى أذربيجان السوفيتية نظرًا للقيود التي فرضتها موسكو على حركة الأذريين من إيران، بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، أعلنت أذربيجان استقلالها وتشكيل الجمهورية الأذربيجانية العلمانية الجديدة.
شعرت إيران بخطورة الدولة المستقلة الجديدة عندما أعلن رئيسها الجديد آنذاك، أبو الفضل الشيبي، أنه يهدف إلى تشكيل ما أطلق عليه “أذربيجان الكبرى”، أي ضم الأراضي الأذربيجانية المعترف بها من أرمينيا وإيران، هذه التصريحات والنزعة الانفصالية لدى الشيبي، جعلت إيران تُعيد النظر في علاقتها مع أذربيجان الحديثة، ولم تقدم أيّ دعم للبلد ذو الأغلبية الشيعية في حرب ناغورنو كاراباخ الأولى.
إسرائيل وتركيا
بجانب النزعة الوحدوية التي قررت أذربيجان تحديد علاقاتها مع إيران من خلالها، كان تطوير باكو لعلاقاتها مع إسرائيل العدو اللدود لإيران أولاً، وتركيا المنافس الإقليمي ثانيًا، آثار سلبية مضاعفة في مسار العلاقة بين باكو وطهران.
تُقيم إسرائيل وأذربيجان علاقات دبلوماسية منذ أبريل 1992، أي بعد نحو 6 أشهر فقط من إعلان أذربيجان استقلالها. ساعد تبني باكو للعلمانية ومحاربتها للإسلام السياسي في توسيع علاقاتها مع تل أبيب، أصبحت أذربيجان المورد الرئيسي للنفط إلى إسرائيل، كما أصبحت الأخيرة مصدرًا مهما لبيع الأسلحة المتقدمة إلى باكو، ووفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت إسرائيل ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى أذربيجان ما بين عامي 2011 و2020.
يعتقد الإيرانيون أن إسرائيل تستخدم علاقاتها مع أذربيجان للتجسس على إيران، خاصة مع تزايد عدد الهجمات على البنية التحتية النووية الإيرانية واغتيال العلماء النوويين وعلى رأسهم محسن فخري زاده في عام 2020. ورغم نفي اذربيجان للمزاعم الإيرانية وتأكيدها على أنها لن تسمح باستخدام أراضيها لمهاجمة جارتها إيران، إلا أن المسؤولين الايرانيين دائماَ ما يتحدثون عن سماح أذربيجان لإسرائيل باستخدام مطاراتها العسكرية لشن الهجمات على إيران، وزادت هذه الشكوك الإيرانية بعد الانتصار الكبير الذي حققته أذربيجان في حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في عام 2020، ويعود الفضل في انتصار أذربيجان إلى ترسانة الأسلحة الإسرائيلية والتركية في المقام الأول.
ما بعد حرب 2020
بعد انتصار أذربيجان في حرب ناغورنو كاراباخ الثانية واتفاق وقف إطلاق النار، ازدادت وتيرة الصراع بين باكو وطهران التي دعمت أذربيجان في هذه الحرب على حساب علاقتها الجيدة مع أرمينيا، حيث فضّلت الجمهورية الإسلامية عدم إثارة مشاعر الأقلية الأذرية في إيران.
تُمكن المادة السادسة من إتفاق وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا من بناء طريق جديد عبر ممر لاتشين، لربط جمهورية ناخيتشيفان الاذربيجانية المتمتعة بالحكم الذاتي (غرب البلاد) مع باقي الأراضي الأذربيجانية عبر ممر زانجيزور، وهو ممر ضيق يمتد على الحدود الأرمينية الإيرانية. هذا الأمر أغضب طهران خاصة وأن هذا الممر الذي تسعى باكو لإنشائه، سيقطع نقطة الوصول البرية الوحيدة من إيران إلى أرمينيا. كما تؤيد تركيا وتدعم إنشاء هذا الممر، لأنه سيمكنها من ربط الدول التركية ببعضها البعض، ويمنحها وصولاً إضافياً إلى تركمنستان والدول الأسيوية الأخرى عبر بحر قزوين متجاوزة إيران بالكامل، ما يلغي حاجة تركيا لإيران في هذه المسألة.
وفي العام الماضي، منعت أذربيجان الشاحنات الإيرانية من الوصول إلى أرمينيا، كما قامت بزيادة الضرائب على مرور الشاحنات الإيرانية عبر الأراضي التي استعادتها أذربيجان في حرب عام 2020. شعر القادة الإيرانيون بأن هناك مؤامرة يتم تدبيرها من قبل كل من أذربيجان وإسرائيل وتركيا وأن الهدف هو منع طهران من الوصول إلى دول القوقاز، وهو ما يعرضها لفقدان نفوذها في هذه المنطقة. بالطبع، تؤثر هذه الاجراءات سلبًا على اقتصاد إيران الواقع تحت وطأة العقوبات الأمريكية. تستخدم إيران هذه الطرق الحدودية في إيصال بضائعها إلى الدول الأسيوية وجنوب القوقاز، كما يتم تهريب النفط الإيراني أيضًا عبر هذه الطرق.
إصرار أذربيجان على استكمال إنشاء ممر زانجيزور وإقصاء إيران من مسار النقل البري، كما صرح إلهام علييف الرئيس الأذربيجاني بأن إنشاء هذا الممر ضرورة وحماية لأرض الأجداد الأذريين، زاد من العناد الإيراني، فلجأ الحرس الثوري الإيراني إلى إجراء تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود الأذربيجانية في عامي 2021 و2022.
أجرت القوات البرية في الحرس الثوري تدريبًا تكتيكيًا على الحدود من خلال إرسال مئات الكتائب القتالية بما في ذلك المشاة والمدفعية ووحدات الحرب الإلكترونية والمدرعات، وخلال أقل من 48 ساعة انتشرت القوات الإيرانية بسرعة. أعاد الإيرانيون الكرة مرة أخرى خلال عام 2022، لكن المثير للتساؤل هنا، أنه لم يتم نشر أي خبر عن انسحاب هذه القوات من على الحدود مع أذربيجان، ما دفع أذربيجان إلى التفكير في أن التدريبات العسكرية الإيرانية بالقرب من حدودها لم تكن لغرض التدريب فقط بل أنها كانت تمهيدًا لصراع مسلح، فأجرت باكو مناورات عسكرية مع تركيا للرد على التهديدات الإيرانية.
زادت حادثة السفارة الأذربيجانية في طهران، عندما قام مسلح بقتل رئيس أمن السفارة وجرح إثنين أخرين، الأمور تعقيدا بين البلدين، فأغلقت باكو سفارتها في طهران وأجلت موظفيها الدبلوماسيين، خاصة وأن التفسير الإيراني لهذه الحادثة التي وقعت في يناير 2023، كان غير مقنع بالنسبة لأذربيجان، حيث أكدت السلطات الإيرانية أن الهجوم كان لخلافات شخصية.
تصاعد التهديدات
في حين أن التوتر الحدودي بين طهران وباكو ليست جديدًا، لكن يمكن ملاحظة أن التهديدات بين الجارين تزداد سخونة، من بين التصريحات التي أثارت غضب إيران، الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، بمناسبة ذكرى الانتصار على أرمينيا في حرب 2020، في العام الماضي، حين قال إن “الدول التي تجري مناورات عسكرية لدعم أرمينيا بالقرب من حدودنا يجب أن تعلم أننا القوة الرئيسية في المنطقة، وإذا لزم الأمر يمكننا إظهار ذلك مرة أخرى”.
هناك تجاوز للخطوط الحمراء مؤخرًا، تحتضن باكو بطريقة متزايدة المطالبات الحدودية بالمناطق الشمالية الغربية ذات الأغلبية الأذرية والتي يشير اليها القوميون الأذريون باسم أذربيجان الجنوبية، جدير بالذكر أنه حتى وقت قريب كانت الحكومة الأذربيجانية حذرة في تناول مثل هذه المطالب بالتعليق خوفًا من إثارة غضب طهران. لقد تخلت أذربيجان عن هذا الحذر مؤخرًا، ما آثار مخاوف اندلاع حمى الحركات الانفصالية في إيران مرة أخرى، وهو ما يمثل للقادة الإيرانيين مساسًا بالأمن القومي لبلادهم، وأنه من غير المعقول التهاون معه.
علي الجانب الإيراني، تلمح طهران إلى تورط أذربيجان المحتمل في الهجوم الإرهابي الذي وقع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 على ضريح شيعي في مدينة شيراز جنوب ايران، واتهمت وزارة الاستخبارات الإيرانية أن العقل المدبر وراء هذا الهجوم الذي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عنه، هو مواطن أذربيجاني سافر من باكو إلى طهران.
وفي مواجهة المطالب الوحدوية التي ظهرت في خطابات القادة الاذربيجانيين ووسائل الإعلام الاذربيجانية المقربة من الحكومة، بدأت أصوات إيرانية تنادي بضرورة مراجعة معاهدتي تركمانشاي وجولستان، كما أن هناك نبرة متزايدة بين بعض المسؤولين الإيرانيين، بضرورة توجيه ضربة عسكرية محدودة لأذربيجان، لرد اعتبار إيران وإعطاء درس لباكو في عدم تخطي حدودها مع طهران.
تبدو الصورة الأكبر لمستقبل العلاقة بين أذربيجان وإيران قاتمة، ومع كل خطوة للتصعيد بين البلدين نرى سهولة خروجهم عن المسار بسهولة. إذا اعتقدت باكو أن الوقت مناسب لمحاصرة طهران التي تعاني من العقوبات الامريكية والاضطرابات الداخلية، خاصة مع استغلال باكو لعلاقاتها الجيدة مع تل ابيب وأنقرة، فإن هذا الاعتقاد قد يكون خاطئًا، يعتقد الايرانيون في كثير من الأحيان بأن الحل الأفضل والأمثل لوقف التصعيد هو في زيادة التصعيد نفسه، وهو التكتيك الذي نجحت من خلاله في تحسين علاقاتها مع دول الخليج مؤخرًا. مع تدهور العلاقات الثنائية بشكل متزايد بين البلدين، لا يبدو أن طهران أو باكو تفكران في الحرب، على الأغلب، سيكتفي الطرفان باستخدام أدوات الضغط ضد بعضهما البعض، ستحاول إيران التركيز علي الجماعات الشيعية المتدينة داخل أذربيجان، وستمضي باكو قدما في إنشاء ممر زانجيزور مع التلويح من وقت