إيران وإسرائيل: العودة لقواعد الاشتباك أو الولوج إلى النار
في 14 أبريل 2024، شنت إيران هجومًا كبيرًا بإطلاق نحو 300 طائرة مسّيرة وصاروخ بعيد المدى في اتجاه إسرائيل من داخل الأراضي الإيرانية، وكان هذا الهجوم الذي جاء كرد على الغارة الجوية الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في سوريا التي انتهت بمقتل محمد رضا زاهدي القائد البارز في قوة القدس التابعة للحرس الثوري الايراني، هو الأول من نوعه بعد سنوات من حروب الظل بين البلدين.
ورغم أن الدفاعات الجوية الاسرائيلية استجابت، بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن، بقوة في اعتراض الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة، إلا أن مشاهد الصواريخ الإيرانية وهي تمر فوق قبة الصخرة، يُنذر بمستقبل جديد في العلاقة بين طهران وتل أبيب، ويُزيد من احتمالات نشوب صراع أوسع نطاقًا في الشرق الاوسط.
مسرحية أم نجاح ساحق؟
إذا كنت من منتقدي إيران فحتما سوف ترى أن الهجوم الإيراني كان مجرد استعراض للعضلات لم يصب شجرة في تل أبيب، بل ومسرحية لا قيمة لها، إما بالنسبة للمؤيدين للجمهورية الإسلامية والدور الإيراني في المنطقة، فاقد اعتبروا الهجوم ناجحًا، وأنه أظهر لإسرائيل وحلفائها قدرة إيران على استعادة قوة الردع.
في الواقع، لا تقاس الأمور بهذا الشكل. الأفضل هو تحليل الهجوم الإيراني من وجهة النظر الإيرانية والموقف الذي وجدت طهران نفسها فيه. انخرطت إيران واسرائيل في حرب الظل لسنوات وتحملت طهران في هذه الحرب الكثير من الاحراج، نجحت إسرائيل في تصفية قادة كبار من العسكريين الإيرانيين، سواءً في سوريا أو داخل إيران نفسها، واغتالت تل ابيب في عمليات دقيقة علماء نوويين إيرانيين واستهدفت المنشآت النووية الإيرانية في جميع أنحاء إيران، ناهيك عن الهجمات السيبرانية التي شلت الحياة في إيران مرات عديدة. ابتلع الإيرانيون كل ذلك انطلاقًا من سياسة الصبر الاستراتيجي الذي تمسك بها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنائي حتى آخر لحظة، وذلك لمنع تحول حرب الظل إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل. يرى خامنئي وأقرانه من جيل الثورة الاسلامية وقادة الصف الأول في الحرس الثوري الذين خاضوا حربًا قاسيةً مع العراق استمرت لثماني سنوات في الثمانينات، أن استقرار الجمهورية الإسلامية هو الأولوية الأولى للحكم، ومن أجل ذلك، تجنبت طهران المواجهة المباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، بالتوازي، قمعت السلطات الإيرانية بشتى الطرق أي احتجاجات جماهيرية تهدد استقرار البلاد.
يجب القول أن تغيير هذا النهج من خلال مهاجمة إسرائيل انطلاقًا من الأراضي الايرانية، حتى وإن كانت طهران قد منحت تل أبيب وحلفائها الوقت للاستعداد لهذا الهجوم، هو حدث مفاجئ ويدشن بدء مرحلة جديدة في السياسة الإيرانية. منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلا الهجوم من حرب إسرائيلية يمكن وصفها بالوحشية على غزة، حاولت طهران تجنب التدخل المباشر في هذه الحرب والاعتماد على حلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن لمساعدة حماس. رغم ذلك، تسببت الاستفزازات الاسرائيلية واستهدافها بشكل استراتيجي لكل الشخصيات المؤثرة والمحورية في محور المقاومة وصولاً إلى قصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، في إرباك حسابات الصبر الاستراتيجي الايرانية ودفعت بطهران إلى نقطة الانفجار.
اختارت إيران التخلي عن صبرها الاستراتيجي الذي أضعف موقفها داخليًا وخارجيًا. اعتقد قادة الحرس الثوري أن عدم الرد سيجعل من إيران الحلقة الأضعف داخل محور المقاومة. داخليًا، في إيران نفسها، تعرضت القيادة الإيرانية لانتقادات مسموعة وكثيرة من القاعدة الجماهيرية المؤيدة لها التي اعتبرت أي سيناريو لا يشمل ردًا عسكريًا مباشرًا دلالة على الخوف والضعف. لم يكن أمام إيران سوى تنفيذ ضربة استعراضية، محدودة ومدروسة بعناية. تبادلت طهران العديد من الرسائل مع واشنطن من خلال القنوات الخلفية، وأعلمتها ببعض تفاصيل الهجوم. لم تكن إيران في صدد البحث عن تحقيق إصابات مادية أو بشرية كبيرة داخل إسرائيل، كانت الضربة مجرد وسيلة لحفظ ماء الوجه وانتقامًا محدودًا جراء الاستفزازات الإسرائيلية التي لم يعد السكوت عليها ممكنًا. أثبتت طهران حسن النية وأنها لا تريد توسيع دائرة الصراع إقليميًا، وكشفت لواشنطن موعد الهجوم وانتهكت مبدأ أساسيًا في العمليات العسكرية وهو عنصر المفاجأة. لو رغبت طهران في توسيع الصراع وإيذاء إسرائيل لكانت ستفعل نقيض ما فعلته تمامًا، ستمتنع عن التنسيق مع واشنطن وستلجأ إلى استخدام صواريخها الباليستية الأكثر سرعة ودقة، كانت ستقوم باستهداف أهداف حيوية وأحياء سكنية تكبد إسرائيل خسائر مادية وبشرية أكبر، ولعمدت إلى إشراك حلفائها الاقليميين مثل حزب الله اللبناني والفصائل المسلحة العراقية مستفيدة من القرب الجغرافي الذي سيجعل الإصابات شبه مؤكدة.
يمكن القول إن الهجوم الإيراني كان ناجحًا وحقق هدفه الاستراتيجي من وجهة نظر طهران: تعزيز قوة الردع وكتابة فصل جديد في قواعد الاشتباك مع إسرائيل وإظهار جانب من قدرات إيران العسكرية، يضاف إلى ذلك، تكبيد تل أبيب وحلفائها مليار دولار لمواجهة الهجوم. هناك أيضا نقطة لا يمكن إغفالها، رغم تصدي الدفاعات الجوية الاسرائيلية للهجوم الإيراني بنجاح إلا أن هذا التصدي كشف لطهران معلومات مفيدة تتعلق بتقييم الدفاعات الاسرائيلية بما يشمل عناصر قوتها وضعفها.
من ناحية أخرى، خسرت إيران في هذا الهجوم حين منحت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شريان حياة سياسي جديد بعد أن كانت الأخير قد دخل بإسرائيل في عزلة دولية، أتاح الهجوم لنتنياهو حشد بلاده ضد التهديد الإيراني واستمالة الحلفاء التقليديين وشُغل الرأي العام العالمي عما يحدث في غزة. ارتكبت إيران خطئًا حذر منه نابليون بونبارت حين قال “عليك إلا تقاطع عدوك أبدًا أثناء ارتكابه الأخطاء”، وإسرائيل كانت ترتكب أفظع الأخطاء في غزة. بالنسبة للسؤال الأهم عما بعد الرد الإيراني؟ بالنسبة لإيران، تريد طهران العودة إلى حرب الظل ما خلا أن تغامر تل أبيب بأن تتجه إلى تصعيد الصراع مع طهران.
تبدو الكرة في ملعب الحكومة الإسرائيلية مع عدد من الخيارات: الاستماع إلى نصيحة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمنع تدهور الأمور أكثر أو العودة إلى الوضع السابق وخوض حرب غير مباشرة ضد إيران وحلفائها أو القيام بعمليات انتقامية داخل الأراضي الإيرانية. الخيار الأخير سيدخل المنطقة في دائرة من الانتقام والانتقام المضاد، إيران لن تقف صامتةً وستقوم باستهداف إسرائيل، وسيشعر القادة الإيرانيون، أن التهديد الاسرائيلي الذي لطالما حاولوا تجنبه، أصبح واقعًا ولابد من التعامل معه. اليوم، يبدو أن الأولى بحلفاء إسرائيل هو محاولة احتواء هذا الصراع والسيطرة على ردود الفعل الإسرائيلية منعًا لانزلاق الأمور إلى ما هو أشد وأخطر.