كيف تحول الحجاب إلى قضية أمن قومي في إيران؟

مرت نحو ٧ أشهر على بدء الاحتجاجات التي اندلعت في إيران عقب وفاة الشابة “مهسا أميني” بعد احتجازها من قبل إحدى دوريات الإرشاد (شرطة الأخلاق)، بزعم ارتدائها الحجاب بشكل لا يتناسب مع قوانين الدولة. وقتئذ، شهدت إيران حركة احتجاجية اتخذت لها شعاراً يصف مطالبها الأساسية (المرأة، الحياة، الحرية). جاءت هذه الحركة لمعارضة القوانين التمييزية، وعلى رأسها الحجاب الإلزامي، ضد النساء، وسرعان ما اتسع نطاق مطالب الحركة لتشمل مناهضة النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية بشكل كامل.

استطاعت السلطات الأمنية السيطرة على الاحتجاجات، لكن إيران بعد وفاة “مهسا أميني”، ليست كما كانت قبلها، فقد أصبح من المعتاد رؤية عشرات الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي لنساء إيرانيات يسرن في الشوارع ويتواجدن في الأماكن العامة دون حجاب. انتهت الاحتجاجات لكن تحدي النساء للحجاب لم يتوقف، ما دفع المؤسسة السياسية الإيرانية إلى ابتكار العديد من الأساليب لمواجهة هذا العصيان المدني النسائي لمظهر يعدّ من أهم مظاهر الحكم الإسلامي في إيران.

كانت السمة الأساسية للحركة الاحتجاجية (المرأة، الحياة، الحرية) هي خلع النساء للحجاب في الشوارع وإشعال النار فيه. في البداية تحاشى المسؤولون الإيرانيون تسليط الضوء على هذه الظاهرة تحديدًا، فهم من ناحية كانوا مشغولين بايجاد طريقة لقمع هذه الاحتجاجات، ومن ناحية أخرى، كان قادة البلاد في مرحلة إنكار لوجود حركة عصيان واسعة للحجاب الإلزامي.

ومع إعلان المدعي العام محمد جعفر منتظري تجميد عمل دوريات الإرشاد في الشوارع، زادت معارضة الحجاب الإلزامي، وكذلك التكهنات بأن السلطات قد تتراجع عن تنفيذ قانون الحجاب الإلزامي، وهو ما رفع سقف توقعات المعارضين وزاد من تحدي خلع الحجاب في الأماكن العامة. هذا التوقع لم يكن دقيقًا، عادت الحكومة لمواجهة تحدي الحجاب الإلزامي بشكل متطور معتمدةً على أساليب جديدة، أطلق عليها عدد من نواب البرلمان المتشددين مصطلح “أساليب ذكية”.

الحرمان من الخدمات العامة والنبذ المجتمعي

بعد أن نجحت السلطات الإيرانية في السيطرة على الاحتجاجات، بدأت الحكومة في تنفيذ حزمة من الإجراءات لمواجهة هذا العصيان. مؤخرًا، تتوارد الأخبار عن إقالة مسؤولين محليين وإغلاق مقاهي ومطاعم ومراكز تجارية ومئات الأماكن التي تقدم الخدمات العامة، والسبب واحد: استقبال نساء غير محجبات وتقديم الخدمات لهن.

مع هذه الاغلاقات والتهديدات المستمرة، لجأ أصحاب المتاجر والمقاهي إلى تعليق لافتة على أبواب محلاتهم تطلب من زوارها احترام قانون الحجاب الإلزامي حتى وإن كانوا غير راضين عن هذا القانون. هذه واحدة من الأساليب “الذكية” التي تحدث عنها نواب البرلمان لمواجهة العصيان المدني للحجاب التي لا تكلف الحكومة الكثير من الجهد، بعبارة أخرى، إذا أرادت النساء خلع الحجاب فسيتم حرمانهن من الخدمات العامة، دون مواجهة عنيفة مع القوات الأمنية.

البرلمان الإيراني أعلن بدوره عن مقترح لحرمان معارضي الحجاب الإلزامي من الوصول إلى خدمة الإنترنت وحجز سياراتهن الخاصة، كذلك عدم تجديد جوازات السفر وإلغاء التراخيص والحرمان من خدمات الطيران، بالإضافة إلى فرض غرامات مالية كبيرة قد تصل إلى آلاف الدولارات.

في الوقت عينه، أعلن قائد الشرطة العامة الإيرانية، عن استخدام البلاد لكاميرات تقنية وكاميرات مراقبة المرور للتعرف على وجوه النساء اللواتي ينتهكن قانون الحجاب الإلزامي وإرسال رسائل نصية لهن عبر الهاتف المحمول.

بالإضافة إلى هذه الأساليب الجديدة في مواجهة انتهاك قانون الحجاب الإلزامي، لعب رجال الدين المؤيدون للقانون والمحسوبون على السلطة دوراً محورياً في تحريض الناس ضد النساء غير المحجبات، رجل الدين أحمد علم الهدى إمام صلاة جمعة مدينة مشهد وصهر الرئيس إبراهيم رئيسي، قال في إحدى خطبه، أنه من الواجب على الناس التحرك لمنع النساء من انتهاك قانون الحجاب الإلزامي، وهذا ما ترتب عليه وقوع حوادث اشتباك بين مواطنين محافظين والنساء المخالفات، في حين وصفت الشرطة هذه الحوادث على أنها “مشاجرات شخصية”.

الحجاب كقضية سياسية

تُثار قضية الحجاب في إيران داخل كل دائرة اجتماعية وسياسية تقريباً، لم يعد الحجاب مجرد قضية اختلاف في الرأي بل صراعاً جديدًا بين القوى الاجتماعية المختلفة. دخل قانون الحجاب الإلزامي في إيران إلى الدوائر السياسية في حياة الإيرانيين منذ ثورة 1979، وتحول من ضرورة دينية إلى قضية سياسية بمرور الوقت.

بعد سنوات حكومة بهلوي، وتحركها لمنع الحجاب، جاء آية الله روح الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية، ليعارض قوانين منع الحجاب قائلاً “لا يجب أن تأتي النساء عاريات إلى الوزارات الاسلامية، من حق المرأة العمل لكن لابد وأن تذهب للعمل وهي ترتدي الحجاب الإسلامي”.

من هنا بدأ ربط ارتداء المرأة للحجاب بالحفاظ على قيم الأسرة الإسلامية وفقًا لرؤية الحكومة الإسلامية الجديدة. لكن لم يتم فرض الحجاب الإلزامي بسرعة، إلى حين دخلت إيران في حرب الثماني سنوات مع العراق، حينها، ظهرت قضية الحجاب مرة أخرى من خلال الدعاية الحكومية المكثفة له. استغلت الحكومة الإسلامية الحرب لتشديد الدعاية على أهمية ارتداء النساء للحجاب، واستغلت الحكومة تضحيات الشهداء والمقاتلين ونشر مذاكرتهم التي تفيد بأنهم كانوا يحبون رؤية النساء ترتدين الحجاب والزي الإسلامي. كما ونُشرت العديد من المقالات لرجال الدين الحكوميين، يتحدثون فيها عن أهمية حجاب المرأة الذي يتساوى مع دماء الشهداء في الحرب، مما أعطى الحكومة شرعية قوية لفرض الحجاب في عام 1983.

في السنوات التي تلت الحرب مع العراق، لم تلق الدعاية الحكومية المكثفة للحجاب ولا حتى قانون الحجاب الإلزامي، صدى كبيرًا لدى شرائح المجتمع، لذلك، لجأت الحكومة إلى دوريات الإرشاد لضمان تنفيذ القانون والتشديد على مواجهة ما يطلق عليه “الحجاب السيء”، أو “الحجاب الفضفاض” الذي يظهر الكثير من شعر المرأة.

وفي مواجهة الحجاب “السيء” وأي رفض محتمل لقانون الحجاب الإلزامي، بدأت الحكومة نوعًا جديدًا من الدعاية للحجاب، بربطه بالتاريخ الإيراني وليس الشريعة الإسلامية فقط، فأصبح عدم ارتداء الحجاب ليس انحرافاً عن قيم المجتمع الإسلامي وحسب بل انحرافاً عن تاريخ الشعب الإيراني، نتج عن هذه الدعاية محاولات كثيرة للقول أن المرأة الإيرانية ارتدت الحجاب منذ عصر الخميني.

الحجاب كقضية أمن قومي

بعد الاحتجاجات الأخيرة، أضافت المؤسسة الإيرانية بُعدًا جديدًا للحجاب الإلزامي في خطاب الدولة. في فبراير 2023 علق المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي على معارضي الحجاب قائلاً “الحجاب مسألة شرعية وقانونية، وخلع الحجاب محرم دينياً وجريمة سياسية”. كما أكد على أن أجهزة تجسس العدو هي من تقف وراء معارضي الحجاب الإلزامي. وبعيداً عن أنه وضع معارضة الحجاب الإلزامي كجريمة سياسية وربطه بالسياسة الداخلية للمرة الأولى، ذهب الخامنئي بعيدًا إلى حد ربطه مسألة الحجاب بالسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية وأمنها القومي.

هذا البعد الجديد لقى تفاعلًا ملحوظًا من المؤسسات الرسمية من خلال تصريحات العديدين من أنصار وممثلي المؤسسة السياسية في إيران. صرح عبدالنبي موسى فرد، وهو ممثل عن المرشد الأعلى علي خامنئي في محافظة خوزستان، قائلاً “العدو يفكر بالانتقام من الجمهورية الإسلامية من خلال تحريض المرأة الإيرانية على خلع حجابها”. ولأن مسألة ربط الحجاب بالأمن القومي للبلاد والمحرمات السياسية تبدو مسألة غريبة نوعاً ما على الإيرانيين، انتشرت تفسيرات كثيرة في وسائل الإعلام الموالية للحكومة عن ربط العدو الخارجي بمعارضة الحجاب الإلزامي داخل إيران.

يفتح ربط معارضة الحجاب الإلزامي بقضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية الباب لصراع جديد بين معارضي الحجاب والمؤسسات السياسية والأمنية في إيران، يمكن القول بأنه سيكون بمثابة بداية لاعتماد الكثير من القوانين الجديدة ضد منتهكات الحجاب الإلزامي، ليس هذا فحسب، بل هو مؤشر واضح على نية الحكومة الإيرانية التمسك بالحجاب الإلزامي كرمز على الطابع الإسلامي للمجتمع الثوري في إيران.

ختامًا، إن حشد الكيانات الحكومية وغير الحكومية لتحويل الحجاب من مسألة شرعية إلى مسألة سياسية تمس الأمن القومي، سيزيد من إحكام سيطرة السلطات الإيرانية علي معارضي الحجاب الإلزامي، وسيؤدي إلى المزيد من العنف المجتمعي ضد النساء غير المحجبات، لكنه في النهاية لا يعني تماماً أن زيادة الكلفة التي سيدفعها معارضي الحجاب الإلزامي سوف تتسبب في توقف حركات الاحتجاج ومظاهر العصيان، خاصة وأن العامل الاقتصادي وتراجع مستويات المعيشة تقف في صالح المحتجين. من الممكن أن تؤدي محاولات مواجهة غير المحجبات إلى سخط شعبي أكبر على الحكومة التي تهتم بأمور تافهة من وجهة نظر البعض، في حين أنها تدير ظهرها لأوضاع الإيرانيين ومعاناتهم الاقتصادية والمعيشية.

منشورات أخرى للكاتب