سقوط الليبرالية في الكويت: لماذا؟
لاتزال مصطلحات مثل “الليبرالية” و”التيار الليبرالي” تمثل أزمة مفاهيمية لدى الكثيرين في مجتمعاتنا العربية؛ وبالأخص الخليجية منها، حيث تقترن الليبرالية في أذهان هؤلاء بالفساد الأخلاقي أو الانحلال أو الانسلاخ من التقاليد وإفساد المجتمع.
تُشتق كلمة ليبرالي من الكلمة الفرنسية Libre وتعني الحرية، وهي أفكار وآراء ارتبطت بدعم المساواة وحرية الفرد وحرية التفكير وحرية التنقل وحرية الرأي والتعبير وحرية السكن وحرية المرأة، كذلك حرية الانتخاب والتصويت في النظم السياسية والإيمان المطلق بالديموقراطية والمساواة. وبالتوازي -المثير للاستغراب- لدى شرائح واسعة في مجتمعاتنا المقيدة فكريًا وثقافيًا، هي جريمة، إذ أنها تأسيسًا، نظم ومجتمعات تعتبر كثيراً من هذه الحريات، بمفهوميها العام والخاص، جرائم!
كان لمفهوم الليبرالية في القرن السابع عشر توظيفات عامة، تقتصر على حق الإنسان الطبيعي في الحياة، بعيدًا عن القيود والأفكار التي تقيد أفكار الناس، تطور المفهوم لاحقاً ليشكل حقوقاً أشمل وأكثر تفصيلاً، منها التأكيد على عدم انتهاك حقوق المواطنين والمطالبة باستقلال الفرد والمجتمع عن المؤسسات الدينية. وقفت الدعاوى الليبرالية ضد توجهات الحكومات المتشددة بعد اندلاع الثورة الفرنسية تحديدًا، وهو ما ساهم في انتشار التوجه الليبرالي وتبنيه عالميًا.
من الصعود إلى القاع
كان من الطبيعي أن تصل الليبرالية إلى المجتمعات العربية والخليجية، ومنها الكويت التي كانت في بدايات تأسيس الدولة. بعد استقلال الكويت وتأسيس المجلس التشريعي (مجلس الأمة) ظهرت التحالفات والكتل المجتمعية التي أصبحت تشكل قوى سياسية صاعدة في البلاد.
كان لمختلف هذه القوى والجماعات رؤيتها الخاصة وعملها المنتظم من خلال تعداد سكاني قليل لا يزيد عن ربع مليون من المواطنين. نجحت بعض التيارات السياسية من تكوين رؤيتها وتنظيم عملها كالتيار الإسلامي – السلف والإخوان – حيث سيطر الإسلاميون على المشهد وكون السلف والإخوان قاعدة عريضة من الناخبين والمؤيدين والداعمين. استطاعت كتلة التجار أيضاً أن تجعل من صوتها مسموعًا مُنطلقةً من قوة اقتصادية وغطاء شعبي معقول.
لم يكن للتيار الليبرالي أي بوصلة ووجهة ورؤية حقيقية منظمة منذ تأسيسه، خصوصاً أنه لطالما كان عرضة للانقسام ومعارك الاقتتال الداخلي مع مشاريع القوميين العرب. كان الليبراليون من الكويتيين الحلقة الأضعف بين قوى التيارات السياسية الأخرى، كان مشتتا رغم وجود شريحة مجتمعية مؤيدة وداعمة لهذا المسار، بعض المراقبين يراهنون على أن هذه الشريحة كانت تمثل أغلبية المجتمع الكويتي آنذاك، لكنها أغلبية غير منظمة أو منتظمة.
واجه الليبراليون صعوبة في إيصال أفكارهم للمجتمع أو العمل بما يوازي برمجيات وآليات التيارات الأخرى التي كانت أكثر تماسكًا وفاعلية وقدرة على شحذ الإمكانيات. أسباب هذا التراجع الكبير والفجوة ودلالاتها عدة، قد يكون أولها وأهمها هو فشل التيار ككثير من التيارات المشابهة له في عدة تجارب عربية، في التعريف بالليبرالية كمصطلح ومفهوم ورؤية، لم تكن الليبرالية الكويتية واضحة منذ البداية للجميع. كانت مهمة التيارات المناوئة لليبرالية والليبراليين في تسميم الليبرالية الكويتية، أفرادًا ومؤسسات وليدة، سهلة للغاية.
حتى اليوم، لا يملك المنتمون لهذا التيار فهمًا صلباً أو مستقرًا للنظرية التي يؤمنون بها، هل الليبرالية في نسختها الكويتية ترتكز على الحرية المطلقة أو أنها حرية شبه مطلقة مشروطة باحترام العادات والتقاليد. هناك من يفسرها بأنها المساواة الكاملة بين الجنسين، وهناك من يرى أنه يجب أن تكون حرية مقيدة بحدود ما هو ممكن في المجتمع بواقعية لا تتجاوز الواقع بخفة وطوباوية. ما هي المعالجة التي يتبناها الليبراليون في الكويت لتطبيقات مفهوم السوق الحر المفتوح للاقتصاد؟ يمكن القول باطمئنان، أن انتقال الليبرالية من تجارب المركز إلى الكويت كان انتقالاً نظريًا ودعائيًا أكثر من أي شيء آخر.
نكبة الدوائر الانتخابية: شاهد ملك
مرت الكويت بتقلبات وصراعات سياسية حادة بعد تعديل النظام الانتخابي عام 2008. شمل التعديل توزيع الدوائر الانتخابية الذي قسم البلاد إلى 5 دوائر يترشح عن كل منها عشرة أعضاء في مجلس الأمة وفق قاعدة (مرشح واحد لكل ناخب).
وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا التعديل في تعزيز الحالتين القبلية والطائفية مقلصًا فرص بقية المكونات الاجتماعية، كان التعديل اختبار جهد وتحدٍ حقيقي لإثبات التيار الليبرالي قدرته على أن يخوض منافسة صعبة في حشد قواعده الشعبية وفي إدارة وتمويل الحملات الانتخابية. وهو التحدي الذي فشل فيه حيث كان خيار شريحة واسعة من الليبراليين في الكويت مقاطعة الانتخابات.
توارى التيار الليبرالي عن المشهد السياسي ما بين 2008 و2021 أي لنحو 14 عامًا. بعض المناوشات، ومنها تأسيس الكتلة الليبرالية لم تكن قادرة على تغيير الواقع. خيارات الليبراليين ساهمت وساعدت في فقدان النخب لبريقها وتراجع حضورهم الاجتماعي والسياسي، بالتوازي، ازداد حضور العصبيات القبلية ومد التيار الإسلامي بأذرعه كلها -السلف والاخوان والشيعة- نفوذهم على مجلس الأمة. كان في إمكان القوى القبلية والإسلامية تقاسم الغنائم والاستحواذ على مقاعد قبة عبدالله السالم بجدارة بالتوازي مع أفول التيار الليبرالي وغياب ممثليه.
لم يواكب التيار الليبرالي كل هذه المتغيرات في الكويت واكتفى بالفرجة على المشهد السياسي، فعليًا، لم يكن هناك من حضور سوى بعض التصريحات الإعلامية المكررة والناقمة.
حتى اليوم، لا يتدارس المنتمون والمتحمسون للتيار الليبرالي أسباب اخفاقاته، وفيما يمتنع عن إجراء أي مراجعة داخلية، يتساقط مرشحوه في الاستحقاقات الانتخابية تباعًا. فعلياً، يصعب على الناخب الكويتي اليوم أن يرى المرشح الليبرالي أو أن يراهن عليه.
كان لقرار مقاطعة الانتخابات تبعات مدمرة على القوى الليبرالية في الكويت، فالغياب عن الساحة السياسية والعزوف عن دخول المعترك السياسي ومخاصمة السلطة، ساهم في سقوطهم سياسيًا ونيابيًا. لم يكن أدائهم مقنعا عندما كانوا نوابًا وهم اليوم في أزمة بقاء ووجود.
يمر الإصلاح في هذه الظروف بطريق صعبة، يحتاج الليبراليون في الكويت لمراجعة شاملة ولإعادة ترتيب أولوياتهم، عليهم العمل بشكل منظم ودراسة وتحليل تاريخ الحركة ومكامن ضعفها وقوتها. هناك حاجة ملحة لدراسة المشهد السياسي الكويتي الراهن والتوافق على طريق عودة تدريجية إلى المشهد السياسي من جديد. خلاف ذلك، ستبقى الليبرالية في مجموعة من الظواهر الصوتية المتفرقة، هنا وهناك.