هل فقدت إيران نفوذها في العراق؟

تستمرُ تقلبات الأزمة السياسية في العراق منذ صدور نتائج الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021. مشهدٌ فتح شهية المناوئين لطهران في الذهاب إلى أن نفوذ الأخيرة في بغداد بات يتراجع، وأنها اليوم الحلقة الأضعف في البلاد.

على الأرض، يبدو أن طهران قررت تغيير واحدة من أهم استراتيجياتها الفاعلة في العراق، والابتعاد عن التدخل المباشر في مجريات العملية السياسية الداخلية بما يشمل تشكيل الحكومات، وهو ما أسهم في التكهن بأن الأمر يمثل حالة عجز وقلة حيلة أكثر من كونه مجرد تغيير في استراتيجيات طهران.

على مدى عقدين، عززت إيران من نفوذها في العراق حد السيطرة على مجريات العملية السياسية. استثمرت طهران في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لاسقاط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين عام 2003 في توحيد الجماعات الشيعية حولها وإحكام سيطرتها. لكن ما حملته الأشهر الماضية من أحداث ومعطيات، كان عكس خطة التعامل الإيرانية تمامًا وبدا أن الجمهورية الإسلامية تفقد نفوذها في العراق، ولو تدريجياً.

حرب العراق ومد النفوذ

كان التخلص من صدام حسين الذي شنّ حربًا مدمرة ضد إيران دامت 8 سنوات أولى ثمرات حرب العراق. في الوقت ذاته، خلق تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان ثم العراق إحساسًا بالقلق لدى قادة إيران. مؤشرات عدة كانت تؤكد أن إيران هي المحطة المقبلة. عمد الإيرانيون إلى تشكيل شبكة قوية ومعقدة من الجماعات الشيعية العراقية الحليفة، بدأ الأمر بتشكيل جيش المهدي التابع لرجل الدين الشيعي المثير للجدل، السيد مقتدى الصدر (أبريل 2004)، ثم توالت عمليات دعم وتشكيل إيران لفصائل شيعية عراقية مسلحة، لمواجهة التواجد الأمريكي من جهة، ولتأسيس شبكة حلفاء تعزز من نفوذ طهران من جهة أخرى.

مع إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك اوباما، انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011، برزت فرصة ذهبية لإيران لتشدد قبضتها على بغداد، وكان ظهور تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” عام 2014 وسيطرته على أجزاء كبيرة من العراق المناسبة الاستراتيجية والفعالة لتوسع إيران من نفوذها بتشكيل فصائل مسلحة جديدة وتقوية القديمة منها، خاصة بعد دعوة الحكومة العراقية والمرجعية الدينية الشيعية العليا إلى حشد المواطنين وحمل السلاح لمواجهة تنظيم داعش. وهو الدور الذي تصدى له القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني.

بعد هزيمة “داعش” عام 2017، كللت إيران نجاحاتها من خلال الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2018، فشّكلت الفصائل الشيعية المسلحة العراقية والمتحالفة مع إيران تكتلأ سياسياً باسم “فتح”، وخاض التكتل الانتخابات محققًا انتصارًا كبيرًا ليكون ثاني أكبر كتلة في البرلمان بعد كتلة “التيار الصدري”. استطاع قاسم سليماني توحيد الصدريين مع الجماعات الشيعية الأخرى لتشكيل حكومة توافقية كما جرت العادة منذ عام 2005. كان لسليماني القدرة على توحيد صفوف السياسيين العراقيين الشيعة والسنة، ولا مبالغة في اعتبار اغتيال سليماني واحداً من أهم أسباب نشوء هذه الأزمة واستفحالها.

التحديات

شنّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران بعد انسحاب واشنطن من الإتفاق النووي الإيراني، ومع انشغال طهران بيوميات أزمتها الاقتصادية الجديدة، شحت أموالها لدى مختلف الفصائل الشيعية في العراق. بالنتيجة، بدأت الجماعات العراقية في توسيع علاقاتها السياسية ومصالحها الاقتصادية داخل العراق وخارجه لتأمين الدعم المالي والتخلص تدريجيًا من الاعتماد على إيران التي تعاني صعوبات مالية واضحة للعيان.

ولعبت الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العراق (أكتوبر 2019) دوراً وازناً مع إعلانها رفض النفوذ الإيراني في بلادهم، خاصة بعد ردود فعل طهران المناهضة للاحتجاجات واتهام المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، المحتجين الشباب بأنهم “مخربون وعملاء للولايات المتحدة واسرائيل والسعودية”.

ومع تورط الفصائل الشيعية الموالية لإيران في قمع الاحتجاجات المُطالبة بالإصلاح، اعتبر المحتجون أن ثمة تدخلاً إيرانياً في شؤون العراق، واتسع الأمر ليصل حد إحراق القنصليات الإيرانية في محافظات الجنوب (معقل الشارع الشيعي).

كانت مشاعر الاستياء بين العراقيين من زيادة النفوذ الإيراني في بلادهم تظهر على استحياء، لكنها تحولت بعد احتجاجات 2019، إلى تصريحات ومواقف معلنة وقوية، وكانت تلك هي الضربة الثانية التي تلقتها طهران في العراق.

اغتيال سليماني: الضربة الأقوى

في ديسمبر 2019، وجهت الولايات المتحدة ضربة جوية إلى أحد المواقع التابعة للفصائل الشيعية العراقية المتحالفة مع إيران، وهو ما أثار غضب قادة الفصائل وغضب سليماني أيضًا. ارتكبت الفصائل خطأً فادحاً بمحاصرة السفارة الأمريكية والتهديد باقتحامها. كان هذا الفعل متهوراً، لكنه أيضاً يحقق لسليماني هدفه الأهم، وهو التخلص من أي تواجد أمريكي في العراق.

في يناير 2020 قامت الولايات المتحدة باغتيال الجنرال قاسم سليماني ورفيقه العراقي، نائب رئيس وحدات الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، عبر هجوم بطائرة دون طيار قرب مطار بغداد. كان سليماني ضابط الإيقاع في تنفيذ استراتيجيات طهران الإقليمية، وباغتياله خسرت إيران الكثير، وبدأ طيف جديد من التحديات يتصاعد بقوة أمام الإيرانيين في العراق.

فكّرت طهران في تغيير استراتيجيتها، ولجأ خليفته القائد الحالي لفيلق القدس، اسماعيل قاآني، إلى اتباع نهج عدم التدخل الصريح في الشؤون الداخلية للعراقيين. الواضح للعيان هو أن هذه الاستراتيجية الجديدة أتت بنتائج عكسية، وبخسارة حلفاء إيران في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وعليه، زادت التحديات أمام طهران بشكل أكبر. غياب إيران سمح لقائد التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، وهو الذي حسم الانتخابات الأخيرة بنيله الكتلة الشيعية الأكبر، للتفكير في لعب دور أكبر في بلاده. وجدت مختلف الأحزاب والجماعات الشيعية الأخرى نفسها وحيدة في مواجهة مقتدى الصدر وطموحاته الواسعة. النتيجة كانت زيادة الأمور تعقيدًا ليدخل العراق أسوأ أزمة سياسية له منذ عام 2005.

إيران: تتراجع لكن لا تنتهي

منذ انقلاب عام 1968 وحتى حرب العراق عام 2003، لم تتمتع طهران بعلاقة طيبة مع بغداد. يدرك قادةُ إيران أن السيطرة على العراق مسألة هامة تتعلق بضمان أمن إيران الإستراتيجي، ولذلك، دعمت طهران عدة جماعات شيعية عراقية تتماشى أيديولوجياً مع إيران. للعراق أهمية جيوسياسية كبيرة لإيران، فهو خزان بشري من أبناء الطائفة الشيعية ويؤمن لطهران الوصول البري مع حلفائها في لبنان وسوريا، ويتمتع العراق بمزايا اقتصادية وازنة، فهو سوق هائل للمنتجات وسوق الطاقة الإيرانية وطريق عبور مضمون الى سوريا والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا.

على الرغم من ضعف حلفاء إيران في العراق وفقدانهم السيطرة على السلطة أو الحكومة، بل وفشل ايران مؤقتا في تحقيق العديد من أهدافها في العراق، ومن بينها توحيد صفوف النخب الشيعية، يبقى الإيرانيون قادرين على صنع الكثير في العراق، وهو ما ظهر في توجيههم ضربتهم الأخيرة للتيار الصدري بسلاح المرجعية، وكذلك نجاحهم في إفشال مساعي الصدر لتشكيل حكومة أغلبية، وهو ما يدل على أن أدوات إيران وتكتيكاتها لا تزال فاعلة وحاسمة.

منشورات أخرى للكاتب