لماذا لم تنجح الاحتجاجات الشعبية في إيران؟

تمرّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية بواحدة من أسوأ فتراتها منذ أكثر من أربعين عامًا، ترتفع وتيرة الاحتجاجات أكثر من مرة في البلاد حيث يرفع المحتجون شعارات تطالب بإسقاط النظام، وتندد بالظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها الإيرانيون.

في كل مرة تشهد فيها إيران احتجاجات كبيرة، يستنتج المعارضون وتميل وسائل الإعلام العربية والعالمية إلى اعتبار أن ما يحدث يمثل تهديداً جاداً وحقيقياً لاستقرار النظام، بل وينبؤ بسقوطه. هذا الاستنتاج يمكن وصفه بالسذاجة، بنظرة فاحصة على كل هذه الاحتجاجات، بداية من الحركة الخضراء وحتى مظاهرات البنزين عام 2019، نجد أن جميعها لا ترتقي لتكون ثورات تستطيع الإطاحة بالسلطة الحاكمة في البلاد.

السؤال الأكثر جدية: إلى أين ستؤدي هذه الاحتجاجات الشعبية الواسعة؟ وهل يمكن لهذه الحركات الاجتماعية أن تمهد الطريق لتغيير حقيقي في إيران أو أن تصبح تهديدًا فعليًا على الجمهورية الإسلامية؟

هزيمة “الحركة الخضراء”

شهدت إيران منذ تأسيسها عام 1979، عديد الاحتجاجات المناهضة للنظام الديني الجديد، لكنها كانت محدودة النطاق ومقتصرة على طبقة المعارضين السياسيين الذين شاركوا رجال الدين في الثورة. استطاع القادة الثوريون الجدد إخمادها وقمعها بكل الوسائل. ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية، لتنهي هذا الملف مؤقتاً. بعد أن تولى آية الله علي خامنئي مهام القيادة عام 1989، شهدت البلاد موجات من الاحتجاجات الطلابية والمظاهرات المطالبة بتحسين ظروف المعيشة، لكنها أيضًا كانت محدودة ولم تنجح في إحداث أي تغيير، وبالطبع تم قمعها على الفور.

ثم جاءت احتجاجات عام 2009، عقب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، لتصبح أول موجة احتجاجية كبيرة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، ورغم نزول الملايين من المحتجين إلى الشوارع بزعم تزوير الانتخابات الرئاسية التي منحت الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ولاية ثانية، ورغم استمرار “الحركة الخضراء” لأشهر طويلة، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها، حتى أن قادتها (موسوي، كروبي)، لا يزالون قيد الإقامة الجبرية.

امتازت “الحركة الخضراء” بخصائص قوية، كان لدى مؤيدي الاحتجاجات الدوافع والقدرة على التعبير عن مطالبهم، في الوقت ذاته، فقدت الحركة الخضراء أهم خاصية، وهي الاستقرار والاستمرارية، حيث شهدت تراجعًا حادًا لا ينكره أكثر مؤيدي الحركة تشددًا.

بالطبع، القمع الحكومي العنيف، والكلفة الباهظة التي دفعها المحتجون حينها، كانت سببًا مهماً في توقف الاحتجاجات، لكن هذا ليس كل شئ، اقتصرت الحركة الخضراء على طبقة اجتماعية معينة: الطبقة الوسطى المتعلمة المهتمة بيوميات السياسة، وقادت هذه الطبقة الاحتجاجات تحت شعار “أين تصويتي؟”، لكن هذا الحافز لم يأت بنتائج مع الطبقات الاجتماعية الأخرى، العمال، القرويون، الأقليات الدينية والعرقية والبسطاء في المدن الصغيرة، لأنهم ببساطة لم يقتنعوا بحافز الاحتجاجات، ولأنهم في الحقيقة صوتوا لمحمود أحمدي نجاد، وعليه، لا يوجد ما يجمعهم مع المحتجين ما يستحق الرهان عليه.

السبب الآخر لهزيمة الحركة الخضراء، وهو غياب القيادة والتخطيط، فقادة الحركة الخضراء (موسوي وكروبي) كانوا لا يملكون الأدوات الكافية لابقاء المظاهرات مشتعلة، اعتمدوا على مخاطبة المشاعر ولم يلجأوا إلى تنظيم المؤيدين والتخطيط للخطوات التالية، ولم يقدموا أي مستندات حقيقية تدل على تزوير الانتخابات لشحن طاقة المتظاهرين في الشوارع. لذلك، سرعان ما تبخرت طاقة المحتجين وانحسرت الاحتجاجات.

نجحت الحكومة الايرانية في قمع الحركة الخضراء، بل استفادت منها أيضًا، في الانتخابات الرئاسية التالية عام 2013، نزل المحتجون المؤيدون للحركة الخضراء بالملايين لاختيار حسن روحاني المعتدل، احتجاجًا على الانتخابات السابقة، مما ساعد الحكومة الإيرانية على تجديد شرعيتها من خلال المشاركة الانتخابية الهائلة.

عشوائية وعنف الاحتجاجات

بعد هزيمة الحركة الخضراء، تعرضت الجمهورية الإسلامية لموجتين من الاحتجاجات العنيفة، واحدة في نهاية عام 2017 والأخرى في نوفمبر 2019، قامت هذه المظاهرات احتجاجًا على سوء الأحوال المعيشية، وارتفاع أسعار البنزين لثلاثة أضعاف، على التوالي.

وعلى عكس الحركة الخضراء التي قادها المثقفون وشباب الطبقة الوسطى، كانت هذه الاحتجاجات عشوائية تمامًا، بلا قيادة أو تنظيم، بدأت من المدن الصغيرة، ولم تصل إلى العاصمة طهران إلا في مرات قليلة فقط، أبطالها هذه المرة من الطبقة العاملة والفقراء والعاطلين عن العمل.

لم تكن هذه الحركات الاحتجاجية قادرة على حشد الكثير من الناس، لم تتخط حاجز العشرة آلاف في كثير من الأحيان، لذلك فشلت الأعداد الصغيرة المحتجة في تقويض شرعية الحكومة أو حتى في إحراجها، لأن المشاركة الجماعية بأعداد كبيرة توفّر الأمن للمتظاهرين في الشوارع، وتكون دافع للمتظاهرين المحتملين في المنازل.

لجأ المتظاهرون في الحركات الاحتجاجية إلى استخدام العنف، وأضرموا النيران في المؤسسات الحكومية، والممتلكات العامة، كل هذه الأمور ساعدت الحكومة الإيرانية في قمع المظاهرات بشكل سريع. أعداد المتظاهرين واستخدامهم للعنف في بعض المناطق، جعل من السهل على القوات الأمنية عزلهم، كما أنها سياسة أضعفت امكانية انضمام المتظاهرين المحتملين إليهم، وجعل من النشطاء السياسيين عاجزين أمام تبرير الحكومة لاستخدامها العنف في مواجهة المتظاهرين الذين لجأوا الى العنف من البداية.

في المقابل، استخدمت طهران كل وسائلها لقمع هذه الاحتجاجات، وكان على المتظاهرين دفع كلفة باهظة لمشاركتهم فيها، من الاعتقال والتعذيب إلى السجن المشدد وحتى الإعدام. لجأت الحكومة إلى فصل الإيرانيين عن شبكة الانترنت التي يستخدمها المحتجون في نشر أخبار المظاهرات أو جمع المحتجين. في احتجاجات نوفمبر 2019، قطعت الحكومة خدمة الانترنت بشكل كامل لمدة اسبوع، ما زاد من صعوبة تنظيم المظاهرات.

تعلمت الحكومة الإيرانية الدرس جيدًا من مظاهرات الحركة الخضراء عام 2009، واستعدت بشكل كامل لمواجهة أي احتجاجات أخرى بكافة أنواع المواجهة والقمع بشكل سريع، لذلك لم تستمر المظاهرات الأخيرة أكثر من أسبوعين.

غياب القيادة والأهداف

تفتقر الحركات الاحتجاجية في إيران إلى القيادة المنظمة وغياب المشروع السياسي الذي يسهل عملية تعبئة الجماهير، ورغم استناد هذه الاحتجاجات الى استياء شعبي واسع النطاق من الظروف المعيشة ونظام الحكم في البلاد إلا أن غياب القيادة السياسية المثقفة الواعية لا يساعدها على الانتشار.

كذلك يجدر بنا التنبه إلى غياب الأهداف الواضحة، في احتجاجات 2018 و2019، رفع المتظاهرون شعارات تطالب بإسقاط النظام والترحم على الشاه الديكتاتور، وهذا يدل على عدم وعي المتظاهرين الكافي بضرورة وضع أهداف تدريجية لتحقيق مطالبهم، ويدل أيضا على غياب تام للمجتمع المدني. حتى تنمو حركة اجتماعية قوية تكون قادرة على إحداث التغيير، لابد من توحيد الأهداف والشعارات وأن تكون المطالب تدريجية وتعكس نوعًا من الفهم المجتمعي للمشاكل التي تمر بها البلاد، لتكون الاحتجاجات الشعبية قادرة على إحداث تغيير في النظام والوعي السياسي، ولا تجد الحكومة مبررًا لقمعها أو مواجهتها.

يجدر التنبه أيضاً إلى اتساع طبيعة النظام السياسي وتعدد مؤسساته وبالخصوص مؤسسات الجيش ووزارة الداخلية والحرس الثوري التي تضم عشرات الآلاف من الإيرانيين الذين يحملون للنظام ولاءً عقائدياً قبل أن يكون سياسياً. وعليه، يكون الحفاظ على هذا النظام بالنسبة لهم واجباً دينياً مقدسًا.

لجوء المحتجين في إيران إلى العنف كان عاملاً قويًا في إضعافهم وساعد السلطات الإيرانية على تبرير مواجهتها لهذه الاحتجاجات بالقوة. سيكولوجية الطبقة الوسطى تشكل عاملاً مهماً في هذا السياق، تلجأ السلطات إلى تشديد خطابها تجاه المتظاهرين العنيفين واتهامهم بتهم التمويل الخارجي ومحاولات هدم الدولة، وهو ما يساهم في تراجع الدعم الصامت لهذه الاحتجاجات. الايرانيون لا يريدون المزيد من المصاعب، بل يكفيهم ما يمرون به من أزمات.

تعيش إيران لحظات حرجة نتيجة انقسامات طبقية وفساد حكومي وضغوط دولية وزيادة معدلات السخط العام، لكن في المقابل تمتلك المنظومة الحاكمة شرعية دينية وسياسية صلبة. والحركات الاحتجاجية الأخيرة لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها، بل طورت الحكومة باقتدار أدوات مواجهتها. الآمال المعقودة على التغيير الجذري للنظام الحاكم في إيران تبدو بعيدة المنال، فالرهان الوحيد، والمتاح، هو تطور الحركات الاحتجاجية مع الوقت وعودة السياسيين المعتدلين للضغط على الحكومة لفتح الباب أمام عدد من الإصلاحات التي قد تصنع فارقاً حقيقياً مع الوقت.

منشورات أخرى للكاتب