إيران وتركيا: لعبة المصالح المتشابكة وفن إدارة الخيانات

على مدى قرنين، كان التنافس الجيوسياسي بين إيران وتركيا من الشام والعراق حتى القوقاز محتدمًا. ورغم شراسة هذا التنافس وتضارب المصالح بين البلدين، إلا أنهما استطاعا إيجاد طرق للتعاون وصياغة التفاهمات دون الوصول إلى حد المسار التصادمي العنيف.

في إيران اليوم، يولي الرئيس إبراهيم رئيسي اهتمامًا كبيرًا لما أطلق عليه سياسية “الجيران أولًا” التي تهدف إلى تحسين علاقات إيران بدول الجوار. وبغض النظر عن تعاون أنقرة مع الولايات المتحدة في سبيل إحياء الإتفاق النووي المعطل، تبدو تركيا واحدة من الجيران التي تهتم إدارة رئيسي بتحسين وتقوية العلاقات معها، خاصةً فى ظل التطورات الجديدة التي تشهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ صعود جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة، والانسحاب الأمريكي الناعم من الشرق الأوسط.

كانت العلاقات التركية الإيرانية في أحسن حالاتها فى الفترة ما بين 2001 إلى 2009. دفعت الأحداث الاقليمية حينها، مثل حربي أفغانستان والعراق البلدين إلى محاولة إيجاد مسار للتعاون، ونجحوا بالفعل. لكن مع اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، بدأ المسار التصالحي بين أنقرة وطهران في الاتجاه نحو التنافس الجيوسياسي، خاصة مع تضارب المصالح بين البلدين في سوريا والعراق.

اليوم، تأمل طهران في تقوية العلاقات مع تركيا، آواخر العام 2021، التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنظيره الإيراني، على هامش القمة الخامسة عشر لمنظمة التعاون الاقتصادي، خلال اللقاء وقع الرئيسان على مذكرة تفاهم لتحسين العلاقات الثنائية على جميع الأصعدة. لكن خطوات أنقرة لتطبيع العلاقات مع كلّ من الإمارات والسعودية، أثارت مخاوف الإيرانيين والقلق بشأن استمرار التعاون بين طهران وأنقرة.

المصالحة التركية – السعودية

منذ اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا، بدأت أنقرة في توسيع دورها في المنطقة وتعزيز صورتها الإقليمية، فتمكنت من لعب دور الوسيط مما ساعدها على تحسين علاقاتها مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، كان تأييد إيران للغزو الروسي لأوكرانيا، وتعثر مفاوضات فيينا لإحياء الإتفاق النووي، يزيد قلق القادة الإيرانيين يشأن نوايا أنقرة في لعب دور إقليمي أكبر من ذي قبل، على حساب الجمهورية الإسلامية.

كذلك كان تطبيع العلاقات بين أنقرة ودول الخليج بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السعودية آواخر أبريل الفائت، ولقائه بولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، حيث حظيت الزيارة باهتمام واسع. وانعكس القلق الإيراني، على تغطية وسائل الاعلام الإيرانية لهذه الزيارة، والتحليلات المنتشرة في الصحف حينها، والتي أشارت إلى احتمالية أن تصبح المصالحة التركية السعودية، شوكة في ظهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

تخشى طهران من أن تكون الخطوات التركية تجاه تطبيع العلاقات مع دول الخليج، محاولة لعزلها إقليميًا أو تكوين تحالف ضدها. وفيما تخوض كل من السعودية وإيران مفاوضات ثنائية لاستعادة العلاقات بين البلدين، ولحلّ الكثير من القضايا الإقليمية العالقة بينهما، يخشى الإيرانيون من أن المصالحة التركية السعودية ستؤثر سلباً على المفاوضات بين الرياض وطهران، وخاصة فيما يخصّ مسألة اليمن، حيث أن تركيا ومع بداية الحرب، أيدت التحركات السعودية وساعدتها عسكريًا في كثير من الأوقات. إلا أنه وبعد فترة الانقطاع فى العلاقات بين الرياض وأنقرة، اختفى هذا التعاون والتأييد التركي للحرب في اليمن. الآن، بعد المصالحة، تخشى طهران من أن تعود انقرة إلى مساعدة الرياض عسكريًا مجددًا في اليمن، مما سيؤدي إلى تغيير توازن القوى لصالح السعودية والتأثير سلبيًا على جماعة أنصار الله الحوثيين.

تركيا وزيادة النفوذ الإسرائيلي

في نفس الوقت الذي تحاول فيه تركيا تحسين علاقاتها بدول الخليج، تذهب أنقرة إلى تحسين العلاقة مع إسرائيل. وترى إيران أن أي محاولة من دول الجوار لدمج إسرائيل في المنطقة، يُعرض أمنها القومي للخطر. وعليه، تتبنى إيران مواقف عدائية حيال ذلك. في منتصف مارس الماضي، استهدف طهران منزل رجل أعمال كردي يعمل في مجال النفط والغاز بزعم أنه كان يجتمع ودبلوماسيين ورجال أعمال أتراك وإسرائيليين، كانوا يخططون لاستهداف الأراضي الإيراني.

لا تقبل إيران بالتعاون التركي مع حكومة إقليم كردستان العراق وخطط تصدير الغاز عبر تركيا إلى أوروبا وإسرائيل، وهو ما يهدد بلجوء الإيرانيين إلى المزيد من الأعمال العدائية داخل إقليم كردستان العراق لمواجهة النفوذ التركي.

لا تقتصر مخاوف إيران على النفوذ التركي في إقليم كردستان العراق، بل يصل إلى المناطق العراقية الأخرى. وعبّر السفير الإيراني السابق ببغداد عن هذه المخاوف علانية، حين أكد أن إيران تراقب النفوذ التركي المتزايد في العراق، داعيًا إلى انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية التي تزعم محاربة حزب العمال الكردستاني.

مؤخراً، تم توثيق مجموعة من الحوادث بين القوات التركية التي لها عدة قواعد عسكرية داخل الأراضي العراقية خاصة في منطقة سنجار، وبين الفصائل الشيعية العراقية المتحالفة مع طهران التي استهدفت القوات التركية بشكل متزايد في الأونة الأخيرة، وفي المقابل ردت أنقرة على هذا الاستهداف بالمثل.

مخاوف إيران من النفوذ التركي في العراق ليس محصورًا فقط في العمليات العسكرية بل يمتد إلى المجال السياسي أيضاً، لعبت أنقرة دورًا وازنًا في توحيد صفوف السياسيين السنة العراقيين قبل وبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، خاصة دورها في إصلاح الخلاف بين محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان العراقي الحالي، والسياسي السني ورجل الأعمال خميس الخنجر. وترى طهران، أن دور تركيا في دعم السياسيين السنة خاصة بعد الأزمة السياسية الحالية في العراق، تهديدًا لمصالحها هناك، كما وأنه تهديد للبيت الشيعي العراقي الذي تدعمه طهران منذ سنوات، لذلك شهدنا فى الفترة الاخيرة تهديدات إيرانية غير مباشرة لمحمد الحلبوسي بسبب علاقته بأنقرة.

من الممكن، أن يؤدي التنافس الحالي بين تركيا وإيران في العراق، إلى حرب بالوكالة حتى وإن كانت على نطاق ضيق. فإيران تريد لحلفائها الشيعة في العراق توطيد سيطرتهم في المناطق التي تتواجد بها القوات التركية لمواجهة تمدد النفوذ التركي، في المقابل تتّهم تركيا حلفاء إيران في العراق بمساعدة حزب العمال الكردستاني وتقويض مصالحها.

سوريا: مربط الفرس

منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، كان الأراضي السورية مسرحاً عملياتياً لتضارب المصالح التركية والإيرانية وأثّر هذا الخلاف على مسار التعاون الإيراني التركي لسنوات. ولا تزال سوريا موضع خلاف بين البلدين، خاصة بعد اشتباكات عام 2020 بين الفصائل المدعومة من إيران والقوات المتحالفة مع تركيا في محافظة إدلب.

من المتوقع أن يتصاعد الخلاف التركي الإيراني شمال سوريا خاصة بعد الانسحاب الروسي من بعض المناطق، ومحاولة كلّ من أنقرة وطهران ملء الفراغ الروسي. وقد تدفع هذه المحاولة البلدان إلى تجديد التنافس بينهما.

وفي مختلف ملفات الصراع بين أنقرة وطهران، نجح البلدان في إدارة خلافاتهما بشكل مقبول وفي العمل على تعزيز مصالحهما المشتركة، حتى وإن ظلوا في تنافس دائم. اليوم، ومع عديد التطورات التي تشهدها المنطقة والرغبة الإيرانية والتركية في قيادة الشرق الاوسط، وكما أنه لا مفر من أن يصطدم البلدان في مشاريع النفوذ والهيمنة يجيد الطرفان بمرونة تجديد استراتيجيات التعاون والتفاهم لتجنب أي مواجهة مباشرة بينهما.

منشورات أخرى للكاتب