السياسة الخارجية في إيران: من تصدير الثورة إلى استثمار الحالة الشيعية

مرت السياسة الخارجية الإيرانية بعد الثورة الإسلامية عام 1979 بالعديد من التغييرات، ولعبت العوامل الداخلية والخارجية بجانب العوامل الاقتصادية والثقافية في إيران دوراً مفصلياً في تطور سياسات الدولة. قبل انتصار الثورة الإسلامية، خاضت الامبراطورية الإيرانية مسارًا للاستقلال والسيادة خلال الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية عام 1917. وبعد وصول الشاه محمد رضا بهلوي إلى السلطة، نظرت إيران إلى الاتحاد السوفيتي باعتباره التهديد الأهم ما جعلها تفضل الكتلة الغربية، ويظهر ذلك بوضوح في السياسية الخارجية الإيرانية حينها وفي سياسات التغريب الداخلية التي اعتمدها الشاه محمد رضا بهلوي.

بعد الاطاحة بالشاه الموالي للغرب، الذي كان ينظر إليه على أنه الجندي المخلص للولايات المتحدة في المنطقة، ذهب الثوار الإيرانيون إلى مسار مختلف لسياساتهم الخارجية، وهو تطبيق سياسات ترفض كلا من الشيوعية والرأسمالية على حد سواء، بالاضافة إلى مبدأ تصدير الثورة.

منذ انتصار الثورة وتولي آية الله روح الله الخميني السلطة وتأسيسه لحكومة إسلامية واعتماد مبدأ “ولاية الفقيه”، وصولاً لتولي آية الله علي خامنئي السلطة منذ ما يزيد عن الثلاثين عامًا، حتى الآن، تطورت السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، رغم النظرة الضيقة لتحليلها في كثير من الأحيان.

لا شرقية ولا غربية

أحدثت الثورة الإسلامية في إيران تغييرًا جذريًا في جميع المجالات، وأسس الزعيم الجديد للجمهورية، آية الله الخميني، النظام الجديد للسياسة الخارجية الإيرانية وهوية الثورة على شعار واضح ومحدد “لا شرقية ولا غربية، فقط الجمهورية الإسلامية”.

في الأيام الأولى بعد انتصار الثورة، كان تفسير هذا الشعار يحمل معنى واحداً تقريباً، وهو عدم السماح للقوى الأجنبية بالتدخل في الشؤون الداخلية لإيران، بالإضافة إلى اعتماد الجمهورية الإسلامية سياسة الحياد في تعاملها مع العالم العربي والغربي، لكن ما تم بعد ذلك، ذهب بالسياسة الخارجية الإيرانية إلى حد التطرف في بعض الأحيان.

كان اقتحام مجموعة من الطلاب الإيرانيين المؤيدين للخميني للسفارة الأمريكية بالعاصمة طهران، واحتجاز موظفي السفارة لمدة 444 يوماً، تداعيات خطيرة، يقول الكاتب الإيراني، عماد الدين باقي، في كتابه عن تاريخ الثورة الإسلامية “لم يكن الخميني ينوي مواجهة الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بالطريقة التي أدت بها أزمة اقتحام السفارة الأمريكية”، لكن ذلك ما حدث فعلاً.

قبل عودة الخميني إلى إيران، وفي أثناء تواجده من منفاه في فرنسا، التقى الخميني العديد من المسؤولين الأمريكيين، وتوصل -بحسب تسريبات موثقة – إلى اتفاقات عديدة معهم، كما تحصل على ضمانات أمريكية بعدم دعم أي محاولة للانقلاب على ثورته أو مساعدة الشاه، وهو ما يثبت ما ذهب إليه عماد الدين باقي، فيما يخص عدم رغبة الخميني لمواجهة الولايات المتحدة. بعد وصول الثوار إلى الحكم، تواجد عدد من اليساريين بينهم كما كان بعض رجال الدين من أصحاب الميل اليساري أيضاً بجوار آية الله الخميني. اكتشف الأخير حينها قوة وتأثير اليسارين والماركسيين على الشعب الإيراني في ذلك الوقت. ولذلك، ذهب العديد من المحللين الإيرانيين إلى أن اقتحام السفارة الأمريكية وأزمة احتجاز الرهائن تمت بمباركة الخميني لانتزاع السيطرة من اليساريين، ويبرهنون على ذلك، برفض الخميني ورفاقه مطالب الحكومة المؤقتة حينها بإطلاق سراح الأمريكيين وانهاء الأزمة تجنباً لتداعياتها السلبية.

تصدير الثورة: سياسة أكثر عدوانية

دفعت تطورات أزمة السفارة الأمريكية وتقديم الجمهورية الإسلامية الجديدة في إيران باعتبارها دولة متطرفة، مسار السياسة الخارجية لتصبح أيديولوجية بشكل عدواني، فتحولت السياسية الخارجية الإيرانية حينها إلى مواجهة الولايات المتحدة والغرب. بمرور الوقت، وبناء على آراء الخميني، تبني القادة الإيرانيون الثوريون، مبدأ تصدير الثورة كجزء من السياسة الخارجية لإيران، وكان دعم الجماعات الإسلامية والحركات الثورية في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، على رأس جدول أعمال الخارجية الإيرانية. وأصبح تصدير الثورة أولوية مهمة للسياسة الخارجية الإيرانية.

بعد الحرب العراقية الإيرانية، تطور مبدأ تصدير الثورة. حينها، أدركت الحكومة الإيرانية إن كلفة تصدير الثورة الإسلامية مرتفعة للغاية، ما دفع المسؤولين الإيرانيين إلى التفكير والنظر إلى أن مبدأ تصدير الثورة جعل منها دولة سيئة السمعة ومعزولة، إقليمياً وعالمياً. أدرك آية الله الخميني أن السياسية الخارجية القائمة كلفت بلاده الكثير، ولجأ ببراغماتية إلى إعلان القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لوقف إطلاق النار بين البلدين، ووصف هذا القبول بأنه يشبه شرب “كأس من السم”. هذا الكأس كان بداية تحول فارق في السياسية الخارجية لإيران.

ما بين خامنئي ورفسنجاني

بعد وفاة الخميني عام 1989، وتولى آية الله علي خامنئي منصب الولي الفقيه ووصول الشيخ هاشمي رفسنجاني إلى منصب الرئيس، أصبحت العلاقة بين الرجلين، الأقوى في إيران، أهم أداة في تشكيل مسار الجمهورية الإسلامية وفي تحديد الأطر العامة للسياسة الخارجية للبلاد. بمرور الوقت، تحول هاشمي رفسنجاني، رفيق الخميني في ثورته وأحد أنصار السياسة الخارجية المتطرفة، إلى المعسكر الأكثر اعتدالاً، خاصة بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وحاجة البلاد إلى إعادة الإعمار وتعزيز اقتصادها المتهالك. أسس رفسنجاني سياسة خارجية قوامها المصالحة والتسامح وإقامة علاقات مع الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة، بما يضمن استقرار الجمهورية الإسلامية.

ورغم خطابات خامنئي المناهضة للغرب والولايات المتحدة، وافق خامنئي على رؤية رفسنجاني للسياسة الخارجية، ومنح عقد نفط قيمته مليارات الدولارات لشركة امريكية في عهد بيل كلينتون، كان هذا هو أكبر عقد نفطي إيراني في ذلك الوقت، واستخدم رفسنجاني العقد لتمهيد الطريق للمصالحة مع واشنطن. لم تفهم الولايات المتحدة حينها، رسالة رفسنجاني، التي كانت تفيد بتحول كبير في السياسة الخارجية الإيرانية، ورفضت إدارة كلينتون قبول العرض النفطي، ما أدى إلى مهاجمة خامنئي لرفسنجاني وفكرته في تحول السياسة الخارجية إلى خيار الانفتاح مع الغرب.

ومع بدء عهد محمد خاتمي عام 1997 اتبع خاتمي سياسة خارجية أكثر تصالحاً وانفتاحًا، ليس مع الغرب فقط، ولكن مع جيرانه العرب أيضاً، قبالة ذلك، كانت أفكار الخميني وشعاراته ما تزال مسيطرة على صانعي السياسة الخارجية، ما تسبب في جدل داخلي عميق وانتقاد جهود خاتمي وسياساته، لكن ذلك لم يمنع من تحقيق العديد من الانجازات مثل وقف تخصيب اليورانيوم بين عامي 2003 و 2005.

المرونة البطولية

في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مرّت السياسة الخارجية الإيرانية بواحدة من أصعب فتراتها، اتخذ الرئيس نهجًا عدائيًا في التعامل مع العالم الخارجي، ما أدى إلى فرض أقسى العقوبات الاقتصادية على البلاد. فرض العقوبات كان نقطة تحول أخرى في السياسة الخارجية الإيرانية وصولأ إلى عهد الرئيس حسن روحاني المعتدل إلى الحكم فى عام 2013. مرت الجمهورية الإسلامية قبل عام 2013، بالكثير من المخاوف والتهديدات خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وقيام الولايات المتحدة للإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان وحرب العراق، حينها شعر قادة الجمهورية الإسلامية أن المرونة والبراغماتية في التعامل مع العالم الغربي هو الخيار المناسب لتجنب الكثير من المتاعب. كان من الضروري في ذلك التوقيت إحداث تغيير استراتيجي للسياسة الخارجية الإيرانية للتعامل مع الولايات المتحدة وضبط إيقاع الصراع في المنطقة.

في عام 2015، وافق آية الله خامنئي على المفاوضات النووية المباشرة بين واشنطن وطهران، هذا الموقف ساهم في الوصول إلى الاتفاق النووي وفي موافقة البرلمان الإيراني عليه، خامنئي وصف الموافقة على الإتفاق بين بلاده والولايات المتحدة بأنها مرونة بطولية، تشبه تلك التي اتخذها الخميني بالموافقة على وقف إطلاق النار بين العراق وإيران.

بعد موافقة خامنئي على التفاوض مع الولايات المتحدة والقوى الغربية يمكن القول بأن السياسة الخارجية الإيرانية بدأت في تغيير اتجاهاتها بشكل جدي.

التشيع في السياسة الخارجية الإيرانية

في خضم الحديث عن تطور السياسة الخارجية في إيران، لا يمكن اغفال تأثير الحالة “الشيعية” في سياسات طهران الخارجية، لطالما كانت إيران “الشيعية” في صراع مع العالم السني. وعليه، هي حالة تاريخية قبل الثورة. لطالما كانت إيران فترة حكم الصفويين ترى في الامبراطورية العثمانية السنية تهديداً وجودياً لها، كانت أهم الحلول أمام الصفويين لمواجهة هذا التهديد هو اللجوء إلى تعزيز الحالة الشيعية وخلق خلافات أيديولوجية دينية مع الإمبراطورية السنية العثمانية.

نتيجة لذلك، وبعد أن استعان إسماعيل الصفوي بعلماء شيعة من جبل عامل فى لبنان لنشر التشيع فى بلاد فارس، أصبح هؤلاء العلماء ومن بعدهم رجال الدين الشيعة الإيرانيون قوة مهيمنة سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية لإيران.

على سبيل المثال، كانت أكبر انتفاضة داخلية لمواجهة سياسة ناصر الدين قاجار التابعة للغرب، هي ثورة التبغ، التي قادها رجال الدين الشيعة بناء على فتوى من آية الله الشيرازي بحظر زراعة التبغ عام 1890 ضد منح امتياز بيعه لشركة تالبوت الانجليزية لمدة 50 عامًا. وما تلا ذلك في الثورة الدستورية والتواجد القوي لرجال الدين الشيعة. لكن كانت نقطة التحول في النفوذ الشيعي في السياسة الإيرانية خلال الثورة الإسلامية عام 1979، منذ ذلك الحين وحتى اليوم، بذلت الجمهورية الإسلامية قصارى جهدها لقيادة الشيعة في العالم الإسلامي، ونجحت بالطبع في بعض البلدان مثل لبنان والعراق من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي للجماعات الشيعية التي في بعض الأحيان تكون أقلية في بلادها. وكانت النتيجة الأبرز لاتباع هذه السياسة هو تأسيس حزب الله اللبناني في الثمانينات والذي أصبح فيما بعد قوة أساسية في الحياة السياسية اللبنانية.

منذ الحرب العراقية الإيرانية، تستخدم إيران التشيع في سياستها الخارجية بشكل مكثف لخلق مؤيدين ووكلاء لها في بلدان المنطقة، ويستخدم قادة إيران مبررات مثل ضمان العمق الاستراتيجي والحفاظ على الأمن القومي لتبرير دعمهم للجماعات الشيعية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، ولا يمكن انكار أن استخدام إيران للقوة الناعمة للتشيع في السياسة الخارجية، خلق لها ثقلا كبيرًا في المنطقة. في ذات الوقت، كان هذا الخيار سلاحاً ذو حدين، فيما كسبت طهران الوكلاء في العديد من البلدان، وجدت نفسها أيضاً أمام صراعات ومواجهات عدة مع دول الخليج ودول الغرب التي اعتبرت سياسات طهران تهديداً جدياً ومحاولة توسيع نفوذ لا يمكن السكوت عنها.

منشورات أخرى للكاتب