إيران والقضية الفلسطينية: مصلحة وطنية أو مسار لصناعة البؤس

خلال المواجهات الأخيرة والهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة والاضطرابات والمظاهرات في الضفة الغربية، وما صاحبها من دعم عربي وعالمي واسع النطاق، كان رجال الدين والمسؤولون الإيرانيون يظهرون بشكل شبه يومي في البرامج التلفزيونية للحديث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وضرورة دعم الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال، وكيف أن مساندة ومساعدة المسلمين في نضالهم ضد العدو الإسرائيلي هو ضرورة وواجب على كل مسلم داخل أو خارج الجمهورية الإسلامية.

في الوقت ذاته، انتقلت هذه الأحاديث والمناقشات إلى وسائل التواصل الاجتماعي، الناطقة باللغة الفارسية، فظهرت العديد من الآراء المتباينة بشأن دعم طهران للجماعات الفلسطينية، واللافت للانتباه أن شريحة لا بأس بها من الإيرانيين كانت متحفظة على دعم بلادهم للجماعات الفلسطينية، ومنها الجهاد الإسلامي وحركة حماس. خاصة وأن الإيرانيين، في ذلك التوقيت، كانوا يعانون من مصاعب اقتصادية هائلة، زادها انتشار فيروس كوفيد-19 وما تلاه من اغلاقات وخسائر اقتصادية جسيمة.

هذه الانتقادات والآراء المناهضة لدعم إيران المادي والعسكري لجماعات المقاومة الفلسطينية، تذكرنا بشعار «لا غزة.. لا لبنان، روحي فداء لايران» الذي سمع لأول مرة بين محتجي الحركة الخضراء (المظاهرات التي أعقبت نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2009).

فلسطين: قبل الثورة وما بعدها

قبل الثورة الإيرانية في عام 1979م، كانت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية جيدة للغاية، واستمرت العلاقة الودية لثلاثين عامًا. فكانت طهران تستورد الأسلحة من تل أبيب بينما كانت الأخيرة تعتمد على استيراد النفط الإيراني. وتزايدت المصالح المتبادلة بين البلدين في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي حتى أن المثقفين والسياسيين الإيرانيين ظهر أغلبهم بمظهر الداعم لهذه الدولة حديثة النشأة. نرى ذلك بوضوح فى كتاب “السفر الى ولاية عزرائيل” للكاتب الإيراني البارز، جلال آل أحمد، الذي يصف فى هذا الكتاب شكل الحياة في إسرائيل من خلال رحلة فى عام 1963، وكيف أن أسرائيل دولة حديثة غير عربية في الشرق الاوسط الذي يحكمه عدد من المشايخ الدكتاتوريين، بحسب تعبيره. ذهب العديد من المثقفين الإيرانيين إلى التعبير عن افتتانهم بالتجربة الإسرائيلية الحديثة، متسائلين عن إمكانية أن تساعد العلاقة الجيدة بين إيران وإسرائيل على نهضة بلادهم.

لكن هذا الإفتتان بالدولة الإسرائيلية بدأ بالتلاشي مع حرب الأيام الستة العربية-الإسرائيلية عام 1967، خاصة مع تزايد القطاعات المعارضة للشاه وارتفاع أصوات رجال الدين المعارضين لحكمه وعلاقاته مع الغرب. ووصل العداء الإيراني لإسرائيل إلى ذروته مع نجاح الثورة الإيرانية والإطاحة بالنظام الملكي وسيطرة رجال الدين على الحكم في البلاد.

مع تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران ونشأة نظام إسلامي بدأت معاداة إسرائيل تزداد. أعلنت طهران عن دعم حركات المقاومة الفلسطينية علنًا من قبل قادة الجمهورية الإسلامية الحديثة. حينها، وفي عام 1979، كان الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، أول رئيس دولة أجنبي يزور إيران بعد نجاح الثورة وإعلان الجمهورية الإسلامية. وقتئذ، أعلن آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، دعم بلاده الكامل للقضية الفلسطينية والفلسطينين في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتم تسليم مبنى السفارة الاسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي انتشرت مكاتبها في أغلب المحافظات الإيرانية.

ذروة الحماس الثوري ساعدت الإيديولوجية الإيرانية الجديدة ودعمها للنضال الفلسطيني على الانتشار بين الإيرانيين الرافضين للولايات المتحدة وصديقتها إسرائيل، كما كانت الحركات اليسارية الإيرانية الداعمة للقضية الفلسطينية في أوجّ نشاطها بعد الثورة بسنوات قليلة. لذلك، استطاعت الجمهورية الإسلامية الوليدة تحديد “معاداة إسرائيل” كأحد المبادئ الأساسية لسياستها الدولية، وساندها معظم الشعب الإيراني في ذلك.

لا غزة.. لا لبنان، روحي فداء لايران

لاحقاً، لا يمكن تجاهل حقيقة أن بعض السياسيين والمثقفين الإيرانيين بدأوا مبكراً في إعادة النظر والتفكير في مبادئ الثورة ومسلماتها. على سبيل المثال، نتذكر دعوة رجل الدين والرئيس السابق لإيران (1989:1997)، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إلى إعادة النظر في مبادئ الجمهورية الإسلامية، والنجاحات والإخفاقات التي حققها النظام الإسلامي خلال السنوات التالية للثورة، وكان من ضمن ما أشار إليه، هو مسالة تطبيع العلاقات مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة، ومعاداة إسرائيل.

لم يكن رفسنجاني وحده الذي أشار إلى هذا الأمر، كذلك عدد من السياسيين الإيرانيين في المعسكر الإصلاحي، ما فسره البعض بأنه محاولة للعودة إلى القومية الإيرانية في مواجهة القومية الإسلامية والحكومة الدينية التي خرجت عن المسار الذي كان متفقًا عليه في بداية الثورة. زادت هذه النبرة وانتشرت بين عدد من قطاعات الشعب، كما زادت محاولات الإصلاحيين تهدئة السياسة الخارجية المعادية لإسرائيل، خاصة بعد تصاعد وتيرة البرنامج النووي الإيراني وما تلاها من زيادة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والدولية، وارتفاع شعارات “الموت لاسرائيل، ومحو إسرائيل”، فى عهد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد (2005:2013).

في الحقيقة، يعكس ظهور شعار مثل “لا غزة.. لا لبنان.. روحي فداء لإيران” في أغلب الاحتجاجات الإيرانية سخط الشعب الإيراني من مساعدات حكومته المادية والعسكرية لجماعات المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني. على سبيل المثال، في المظاهرات التي اندلعت (نوفمبر 2019) احتجاجاً على رفع أسعار الوقود، وتزايد المصاعب الاقتصادية، تداول عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطعاً مصوراً (قديم نسبيًا) يعود إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني، السيد حسن نصر الله، وهو يتحدث عن الدعم المادي الكبير للحزب، والذي يحصل عليه من الجمهورية الإسلامية الايرانية، مما أثار سخط العديد من الإيرانيين الذين مرّوا بأوقات اقتصادية عصيبة خلال السنوات الماضية.

دفع استهداف اسرائيل للعلماء النوويين الإيرانيين والمنشآت النووية الإيرانية في كثير من الأحيان على مدار العقد الماضي، إلى زيادة نسب الرفض لدى الشعب الإيراني، لموقف بلادهم من القضية الفلسطينية ودعمها للحركات الفلسطينية. إذ يرى البعض داخل ايران أن هذا الدعم المالي والعسكري للفصائل الفلسطينية دفع إسرائيل إلى استهداف بلادهم، وأن اقتتطاع جزء من أموالهم وميزانية حكومتهم لمساعدة الفلسطينيين لم يزيدهم إلا فقراً، وترك إيران منبوذة على الساحة الدولية.

القضية الفلسطينية والمصالح الوطنية

قبالة ذلك، هناك من يرى أن دعم الجمهورية الاسلامية للقضية الفلسطينية نابع من مبدأ الدفاع عن المصالح الوطنية الإيرانية، ووفقا لمؤيدي هذا الرأي من الإيرانيين، فإن إسرائيل هى العدو المحوري لإيران، وهي لن تترك أى فرصة لمهاجمة الجمهورية الإسلامية، لذلك تقوم الأخيرة بدعم الفلسطينيين في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، لسببين: الأول هو دعم المسلمين الفلسطينيين ضد دولة محتلة غير مسلمة، والسبب الثاني هو جر أرض المعركة إلى حدود إسرائيل لمنعها من مهاجمة إيران. وعليه، فإن دعم الحكومة الإيرانية للفصائل الفلسطينية وتوسيع النفوذ الإيراني هو في مصلحة إيران الوطنية، ويجب أن يستمر.

هناك أيضاً من ينتقد هذه النظرية، مستدلين بالعلاقة الجيدة التي كانت تربط طهران وتل أبيب قبل الثورة، مؤكدين أن إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام تمتلك مصالح متضاربة مع إيران كدولة، لكن تغيير النظام، وتبنى قادة الجمهورية الاسلامية لمبادئ تدمير ومحو اسرائيل هو من دفع الأخيرة الى استهداف إيران.

تتملك مشاعر السخط والغضب الكثير من الإيرانيين لرؤية النساء والاطفال والمدن الفلسطينية التي تتعرض للقصف والاستهداف. وفي العموم، لا يمكن إنكار التعاطف الواسع في الأوساط الإيرانية مع القضية الفلسطينية، لكن في الوقت ذاته، ثمة انتقادات داخلية لقادة الجمهورية الإسلامية بسبب تورطهم في الأزمات الإقليمية، وما يخلفه هذا التورط من كلفة على الإيرانيين الذين يعيشون منذ سنوات تحت وطأة عقوبات اقتصادية خانقة.

منشورات أخرى للكاتب