هل وصل العراق إلى حافة الانهيار السياسي؟

اجتاحت العراق موجة من الإحتجاجات منذ أكتوبر 2019، وطالبت الحركة الإحتجاجية التي انتشرت في جميع أنحاء البلاد، وخصوصاً في المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، بمطالب إصلاحية في مقدمتها اجراء انتخابات برلمانية مبكرة وإصلاح قانون الانتخابات.

وفيما أطاحت “حركة تشرين” بالحكومة انتخابات عام 2018 وحلّ مصطفى الكاظمي، رئيس جهاز المخابرات العراقية، مكان عادل عبد المهدي، إستطاع الكاظمي الخروج بقانون انتخابي جديد واجراء انتخابات برلمانية مبكرة قبل موعدها الرسمي بأربع شهور.

الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي الخامسة بعد حرب العراق عام 2003، لكن هذه الانتخابات كانت مختلفة عن التصويت السابق، حيث واصلت نسبة الإقبال في التراجع إلى نحو 41%، في ظلّ دعوات للمقاطعة، ما يشير إلى أن العراقيين فقدوا ثقتهم في أن تجلب صناديق الاقتراع أي جديد.

ما يميز هذه الانتخابات، هو حجم التأمين الهائل الذي أحاط بها، للمرة الأولى لا تشهد الانتخابات قطعاً للطرق أو انتشار المسلحين في الشوارع أو حرق صناديق الاقتراع.

قانون الانتخابات الجديد ساعد في زيادة حدة التنافس بين الأحزاب السياسية، خاصة وأنه جعل نظام التصويت فرديًا غير قابل للتحويل، ليختار الناخبون مرشحاً واحداً فقط، وهو ما خلق منافسة جدّية بين أفراد الحزب الواحد. كما وقسّم القانون المحافظات الثمانية عشرة إلى 83 دائرة انتخابية بدلاً من 18، مع توزيع المقاعد البرلمانية، البالغ عددها 329 مقعداً، وفقًا لإجمالي عدد الأصوات التي فاز بها الحزب وليس المرشحين الفرديين.

نتائج الانتخابات: صدمة

مثّلت النتائج الأولية وشبه النهائية، التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلّة للانتخابات صدمة للكثيرين. تلقى تحالف فتح بزعامة هادي العامري، هزيمة موجعة، وهو الجناح السياسي للفصائل المسلحة المقربة من إيران تحت مظلة هيئة الحشد الشعبي. حصد تحالف فتح 17 مقعدًا مقابل 48 مقعدا في انتخابات 2018، كما حصلت حركة «حقوق» التابعة لفصيل كتائب حزب الله، وهو فصيل مسلح شيعي على مقعد واحد فقط.

لعب القانون الانتخابي الجديد دوراً كبيراً في هذه الهزيمة إذ قدّم تحالف فتح الكثير من المرشحين ضد بعضهم البعض في نفس الدوائر الانتخابية، وبالتالي تشتت الأصوات. كما أن القاعدة الجماهيرية لهذه الفصائل يبدو أنها تآكلت بسبب ما ارتكبته من انتهاكات على مدار العامين الماضيين. ناهيك عن الفساد داخل مؤسسة الحشد الشعبي، الذي جلب سخط أنصارها الذين فضّلوا التصويت لإتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي فاز تحالفه بـ 33 مقعدًا محققًا انتصاراً كبيراً يضمن للمالكي العودة إلى الساحة السياسية بقوة.

في المقابل، استطاع التيار الصدري، بزعامة رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، اكتساح الانتخابات بنجاح، فقد حصد حزبه حوالي 73 مقعداً، ليصبح الكتلة البرلمانية الأكبر.

استطاع التيار الصدري فهم قواعد اللعبة الجديدة، خاصة مع امتلاكه قاعدة شعبية عريضة، وتجنّب الوقوع في خطأ تحالف فتح، فقدّم عدداً قليلاً من المرشحين في كل دائرة لتجنب تشتيت الأصوات.

كان فوز التيار الصدري متوقعاً خاصة وأن نوابه في البرلمان السابق قد دفعوا إلى التصديق على قانون الانتخابات الجديد، لثقتهم في تحقيق الفوز اعتمادًا على قواعدهم الجماهيرية في بغداد والمحافظات الجنوبية.

هناك خسائر أخرى فادحة، تلقاها التحالف بين عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة، ورئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، وهما الذين يُنظر إليهما على أنهما من القادة الشيعية المعتدلة، فحصل التحالف على مقعدين فقط لكل منهما.

المفاجأة الأكثر أهمية، كانت تحقيق الأحزاب المعارضة والمستقلين نجاحاً ملحوظاً، ورغم مقاطعة أغلب الأحزاب السياسية المعارضة المنبثقة من الحركة الإحتجاجية، تمكن حزب “امتداد” الذي يقوده زعماء الحركة الإحتجاجية من حصد 9 مقاعد برلمانية، ووصل عدد المقاعد التي حصدتها الأحزاب المعارضة الحديثة والمستقلين 40 مقعداً، ما يؤهلها لأن تصبح في المرتبة الثانية بعد التيار الصدري، في تشكيل البرلمان الجديد.

بالنسبة للمكون السني، حصد تحالف “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان الحالي 37 مقعداً متقدماً على غريمه رجل الأعمال خميس الخنجر الذي فاز تحالفه “عزم” بـ 14 مقعداً. كان فوز الحلبوسي متوقعاً، نظراً لما تمر به النخب السياسية السنية من تغيير في الأونة الأخيرة، إذ استطاع الحلبوسي صاحب التوجه العلماني، القفز على القادة السنة التقليديين الذين مازالوا يستندون إلى بطاقة الطائفية في الدعاية الانتخابية، كما أن نجاحه منقطع النظير في محافظة الأنبار السنية بفعل جهود إعادة إعمار المحافظة التي تضررت جراء القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

بالنسبة إلى المكون الكردي، فكانت النتائج شبه تقليدية، فحصد الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يستحوذ على جزء كبير من السلطة في إقليم كردستان، على 32 مقعداً، متقدماً على غريمه السياسي الإتحاد الوطني الكردستاني الذي حصل على 16 مقعداً.

وكما حققت المعارضة فى العراق انتصاراً، استطاع نظيره الكردي وهو حزب “الجيل الجديد” الفوز بتسعة مقاعد، ما يعتبر انتصاراً على الأحزاب الكردية التقليدية المهيمنة على السلطة، ومن الممكن أن تتم ترجمة هذا الانتصار في انتخابات البرلمان الإقليمي الكردي العام المقبل.

المعسكر الشيعي: جدل القبول الهزيمة

لم يتقبل المعسكر الشيعي الهزيمة، وأعلن ما يسمى بـ “الإطار التنسيقي الشيعي”، وهو مؤسسة تم الإعلان عنها لأول مرة بعد احتجاجات أكتوبر 2019 وتضم كافة الأحزاب السياسية الشيعية (ماعدا التيار الصدري)، رفضه قبول نتائج الانتخابات، بل والطعن بها ووصفها بأنها مزورة. ورغم النجاح الذي حققه إئتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، إلا أن الأخير إنضم إلى مطالب الإطار التنسيقي الشيعي، المتمثلة في إعادة فرز الأصوات يدوياً.

كان هذا الأمر شبه مستحيل بالنسبة للمفوضية العليا للانتخابات بداية، لكنها قررت في النهاية إعادة الفرز اليدوي بشكل جزئي، بالاضافة إلى التحقيق فى الطعون التي قدمتها الأحزاب الشيعية الخاسرة، وكما قيل، فإن مسؤولي المفوضية، لم يجدوا أي أهمية لغالبية الطعون المقدمة.

المعسكر الشيعي الخاسر، دعا أنصاره إلى التظاهر والإعتصام أمام المنطقة الخضراء، وفي 5 نوفمبر، إشتبك أنصار الأحزاب الشيعية مع قوات الأمن ما أسفر عن عشرات الجرحى في صفوف القوات الأمنية، وقتيلين من فصيل عصائب أهل الحق.

رسالة إلى الكاظمي

بعد ليلة واحدة من الإشتباكات بين القوات الأمنية وأنصار الأحزاب الشيعية، تعرض رئيس الحكومة العراقية لمحاولة اغتيال بواسطة ثلاث طائرة مسيرة محملة بالمتفجرات استهدفت منزله داخل المنطقة الخضراء. لم يصب رئيس الوزراء بأي أذى، لكن الإستهداف حمل الكثير من الرسائل التي كانت بمثابة إنذار بأن المعسكر الشيعي لن يقبل بهزيمته. إستهداف الكاظمي زاد من شعبيته محلياً ودولياً، وزاد من سخط العراقيين على الفصائل المسلحة التي ارسلت رسالة للجميع أنها على استعداد لتعريض البلاد لحرب أهلية، إذا مس أحد – أي أحد – نفوذها السياسي والمالي.

وفيما أنكرت جميع الفصائل المسلحة الشيعية صلتها بالهجوم، استنكرت ايران، الداعمة لهذه الفصائل، محاولة الاغتيال وأرسلت الجنرال اسماعيل قاآني، قائد قوة القدس، لدعم الكاظمي وتوبيخ حلفائها الشيعة الذين أقدموا على هذه الخطوة. وفيما يبدو أن الهجوم بالطائرات المسيرة، يدخل ضمن نطاق نفوذ الفصائل المسلحة الشيعية، لكن هذا لا يعني موافقة جميع الفصائل على استهداف رئيس الوزراء، وإذا كان استهداف الكاظمي ضمن الخطوط الحمراء التي يجب أن لا يتخطاها أحد إلاأن هذا لا يمنع عدم الإلتزام بها من قبل قلة منهم.

تشكيل الحكومة: توافقية أم أغلبية

من المفترض أن تنتهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية من الفرز اليدوي الجزئي، لتقوم بعدها المحكمة العليا الإتحادية بالتصديق على نتائج الانتخابات النهائية.

وفيما جرت العادة على تشكيل حكومات توافقية تشارك فيها جميع الأحزاب التقليدية المهيمنة، أعلن مقتدى الصدر، صاحب أكبر كتلة برلمانية، والذي يحق لحزبه تشكيل الحكومة المقبلة وتسمية رئيس الوزراء الجديد، أنه سيشكل حكومة أغلبية حتى يتحمل حزبه المسؤولية الكاملة أمام الشعب، وهو ما يعني الإطاحة بباقي الأحزاب الشيعية من الحكم.

الأحزاب الشيعية قررت تنصيب نوري المالكي لتمثيلها في المفاوضات مع الصدر للعدول عن قراره وتشكيل حكومة توافقية تضمن للجميع نصيبهم من السلطة، خاصة وأن الصدر كان قد أعلن مرارًا وتكرارًا أن أولى قرارات حكومته ستكون حصر سلاح الفصائل الشيعية بيد الدولة، وإعادة النظر في الميزانية الحكومية الممنوحة للحشد الشعبي. وهو ما لن يقبل به المالكي ولا الأحزاب الشيعية.

يجدر الإشارة إلى أنه وبالنظر إلى المزاج المتقلب لمقتدى الصدر والتصريحات النارية التي يعلنها من وقت لآخر ثم يتراجع عنها، فمن غير المتوقع أن يتحمل التيار الصدري مسؤولية الحكومة بأكملها على عاتقه وهو ما سيعرض مستقبل مقتدى الصدر السياسي للخطر. من جانب آخر، ثمة تحالفات أخرى تلوح في الأفق، خصوصاً أن المالكي يسعى لتشكيل كتلة برلمانية أكبر بالتحالف مع الأحزاب السنية والكردية الفائزة. ومن المتوقع هنا أن تلعب طهران دوراً في استمالة الأحزاب الكردية والسنية للتحالف مع نوري المالكي.

يعلم الصدر أن إصراره على تشكيل حكومة أغلبية واستحواذ حزبه على السلطة، يعني تعريض الحياة السياسية في العراق لخطر الإنهيار، الأمر الذي من الممكن أن يحرم الجميع بما فيهم الصدر من أي مكاسب. لذلك، سيلجأ الجميع في النهاية إلى اتباع قانون تقاسم السلطة الذي جرى العمل به منذ سنوات.

لكن هل يعني هذا تحقيق استقرار سياسي مضمون؟

الإجابة: لا. حتى لو توصل مختلف الأطراف إلى إتفاق، فلا تزال الاحتجاجات الشعبية تلوح في الأفق، كما أن سيطرة الأحزاب السياسية التقليدية على الحكومة تعني المزيد من الفساد المالي والإداري، ما سيؤدي إلى حرمان العراقيين من الخدمات العامة وتوفير حياة اقتصادية ملائمة، ما يعني أن عودة الغليان إلى الشارع العراقي هي أمر أكثر من متوقع.

منشورات أخرى للكاتب