إبراهيم رئيسي: رجل المرحلة الثانية والتمهيد لمرشد الثورة الجديد

في السنوات الثلاث الماضية، كرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله علي خامنائي، مرارًا، حديثه عن بدء المرحلة الثانية من الثورة الإيرانية، وأبرز ملامح هذه المرحلة – بحسب خامنائي – هي الحكومة الثورية الشابة القوية. يمكن القول أنه ومع تقدم مرشد الثورة في العمر، والتقارير المقلقة عن صحته، يحاول المرشد رسم خارطة طريق للحكم في إيران بعد وفاته.

في 18 يونيو 2021، وبعد فوز رجل الدين ورئيس السلطة القضائية، إبراهيم رئيسي، في الإنتخابات الرئاسية، إستكمل المرشد الأعلى الكثير من النقاط البارزة فى المرحلة الثانية من الثورة، كما أسماها. برلمانٌ يُسيطر عليه مؤيدوه من الأصوليين، وقضاءٌ يرأسه رجلٌ من المخلصين لنظام الجمهورية، ورئاسة في قبضة التلميذ المخلص؛ إبراهيم رئيسي.

وبسيطرة المعسكر الأصولي على السلطات الثلاث (التشريعية-التنفيذية-القضائية)، تستقر القطع الأخيرة في مكانها. تبدو مناورة كبيرة تلك التي أقدم عليها المرشد الأعلى، وكان ولا يزال، من الممكن أن يفقد النظام السيطرة عليها، لكنها كانت تستحق التجربة بحسب اعتقاد حلفائه الأصوليين.

الإنتخابات الأسوأ في تاريخ الجمهورية

في الإنتخابات الرئاسية عام 2013، حين أعلنت وزارة الداخلية فوز المرشح المعتدل، حسن روحاني، خرج آلاف الإيرانيين إلى الشوارع والميادين للإحتفال، ليس حبًا في روحاني، لكن تشفيًا في الرئيس السابق أحمدي نجاد، الذي استمر في منصبه رغم المظاهرات والإحتجاجات واسعة النطاق عام 2009 ، إذ رافقت إعادة إنتخابه مزاعم بتزوير الإنتخابات. بعد 8 سنوات من حكم حسن روحاني والمشاكل التي أحاطت بفترة حكمه، غاب هذا المشهد الإحتفالي عن الإنتخابات الرئاسية عام 2021، حيث كان فوز رئيسي متوقعًا قبلها بأشهر.

حطمت الإنتخابات الرئاسية لهذا العام ثلاثة أرقام في تاريخ الإنتخابات منذ نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران. أولًا: أقل نسبة مشاركة إنتخابية للمواطنين بنسبة 48.8 في المائة، ثانيًا: فاز إبراهيم رئيسي بالمنصب بعدد أصوات يصل الى 18 مليون صوت، أي بنسبة 30.4 في المائة وهي أقل نسبة يحصل عليها رئيس للجمهورية الإسلامية، ثالثًا: كان المنافس لرئيسي هي نسبة الأصوات الباطلة التي بلغت بحسب الإحصاءات الرسمية نحو 12.9 في المئة. بالاضافة الى اختيار 30 مليون إيراني ممن يحق لهم التصويت، عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع. هذه الأرقام والنسب، جعلت البعض داخل إيران يصف الرئيس الجديد بأنه رئيس “أقلّية”، أو أن المنافس الوحيد له في هذه الإنتخابات كانت الأصوات الباطلة التي حققت نسبة لم يحققها أي من المرشحين المنافسين.

قبل الإنتخابات بأسابيع، كان هناك قلق كبير حتى داخل التيار الأصولي الداعم لإبراهيم رئيسي، من أن إنخفاض الإقبال على مراكز الإقتراع، سيؤثر بالسلب على شرعية النظام الذي لطالما استمد شرعيته من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وعلى ما يبدو فالقلق وصل إلى آية الله علي خامنائي نفسه، لذا وقبل موعد التصويت بأيام قليلة صرح مؤكدًا، على أن التصويت في الإنتخابات واجب ديني كما جاء في وصية مؤسس الجمهورية الإسلامية، روح الله الخميني.

ليس منصفًا القول أن الإنتخابات الرئاسية في إيران بلا معنى، ولئن كان المرشد ييهمن على مخرجاتها إلا أن المشاركة في الإنتخابات الإيرانية تحمل الكثير من المعاني والدلالات منذ أكثر من 40 عامًا. في الإنتخابات الرئاسية عام 1997 و 2017 وصلت نسب المشاركة ما بين 70 الى 85 في المائة، وشكلت النتائج نصرًا هائلًا للإصلاحيين والمعتدلين. في إنتخابات عام 2013 لم يتوقع أحد فوز الرئيس السابق المعتدل حسن روحاني،يستطيع الناخب الإيراني أن يقلب الموازين في أي لحظة، حتى وإن كان كارهًا للخيارات المحدودة التي تضعها القيادة أمامه. وعليه، يمكن القول أن فوز إبراهيم رئيسي، المعد سلفًا، ومقاطعة المواطنين وحالة اللامبالاة التي أحاطت بالعملية الإنتخابية، تؤثر بشكل كبير على استقرار الدولة وتضع النظام أمام خطر مواجهة مع الإيرانيين المرهقين في أي لحظة.

الرئيس رئيسي والإتجاهات الجديدة

إبراهيم رئيسي الذي عاش أغلب مراحل حياته المهنية في مؤسسات القضاء، هو اليوم رئيس للجمهورية الاسلامية. ويبدأ رئيسي الفصل الأول في المرحلة السياسية الجديدة في إيران الثورة الإسلامية مع سيطرة فصيل واحد على جميع أركان السلطة. وحتى نفهم أكثر ملامح هذه المرحلة، يجدر بنا تفسير السلوك السياسي لإبراهيم رئيسي.

يُنتقد إبراهيم رئيسي لورود إسمه مع المتورطين في “لجنة الموت” التي قررت إعدام آلاف السجناء السياسين المعارضين للجمهورية، لكنه في السنوات الأخيرة من توليه منصب رئيس السلطة القضائية حاول محو هذه السيرة السيئة، فشرع في عدد من الإصلاحات القضائية مثل تخفيف العقوبات على عدد من الجرائم ذات الصلة بالمخدرات وإصدار الشيكات دون رصيد، فى محاولة لتعزيز شعبيته وكخطوة لإعداده وتسويقه في منصب الرئيس، أو المرشد الأعلى مستقبلًا.

ويتردد اسم رئيسي في وسائل الإعلام الإيرانية كمحارب للفساد داخل مؤسسة القضاء والحكومة. تبنى الرئيس الجديد خلال حملته الإنتخابية لهجة ليبرالية إلى حد ما، لم يرفض الإتفاق النووي الإيراني كما فعل أنصاره من الأصوليين، صحيح أنه يرفض تمامًا سياسية الإنفتاح على الغرب والتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة، لكنه لم يدعو إلى تمزيق خطة العمل الشاملة المشتركة وأكد أنه سيعود إلى مفاوضات فيينا الهادفة لإحياء الإتفاق النووي بشروط حازمة، وفقًا لمعايير المرشد الأعلى.

يقدم رئيسي لهجة ناعمة تجاه بعض القضايا الاجتماعية التي يهتم لها الإيرانيون، مثل الحجاب الإلزامي بجانب تبنيه خطة اقتصادية تبدو شعبوية كسلفه محمود أحمدي نجاد، خطة بدون تفسيرات واضحة لكنه يركز كل برنامجه الإنتخابي على الاقتصاد وهو فى حقيقة الأمر ما يهمّ الشعب الإيراني الآن أكثر من أي شيء أخر.

انتصار “الدولة العميقة”

على مدى عقدين، نشاهد صراعًا بين الرئيس المنتخب والمرشد الأعلى الذي يترأس ما يطلق عليه في إيران بـ “الحكومة الخفية”، وهي حكومة موازية لها اليد العليا في أغلب قرارات الدولة. في عهد روح الله الخميني، كان هناك أيضا الكثير من الصدامات، واستمرت هذه الثنائية في عهد آية الله خامنائي، هذا الصراعات كانت تؤججها المؤسسات الأخرى التي تقود الحكومة الخفية، وعلى رأسها الحرس الثوري والمؤسسات الأمنية، حتى إن كان الرئيس المنتخب متوافقًا أيديولوجيًا وسياسيًا مع المرشد.

وبالنظر إلى تولي إبراهيم رئيسي المنصب، يبدو أن هذا الصراع سيتم حسمه أخيرًا لصالح المرشد وحكومته الخفية. الرجل الذي كان أول كلمة ينطق بها في مراسم تنصيبه هي اعتذاره لعدم قدرته على تقبيل يد آية الله علي خامنائي (وهو تقليد متعارف عليه)، بسبب قيود فيروس كورونا، نستطيع توقع أن رئيسي سيكون مخلصًا للمرشد.

يبدو أن أهم أهداف المرحلة الثانية من الثورة هو ترسيخ سلطة الدولة العميقة في إيران، وتمهيد الطريق لإحكام قبضتها على السلطة حتى بعد وفاة المرشد. تمر الجمهورية الإسلامية بمرحلة دقيقة، ثمة عقوبات قاسية أطاحت بالاقتصاد الإيراني وخطر الإنتفاضات الجماهيرية وتوتر يزداد يومًا بعد يوم مع العدو الأكبر لها “إسرائيل”. وعليه، كانت هندسة الإنتخابات الرئاسية بهذا الشكل رغم ما تحمله من مخاطرة، الضمان الوحيد لمرحلة إنتقالية أكثر سلاسة وأقل خطورة، سواء تم اختيار إبراهيم رئيسي نفسه كخليفة لخامنائي أو لا.

من المتوقع أن تقوم الحكومة الخفية بتمهيد كافة الطرق أمام الرئيس الجديد وتوسيع قاعدته الشعبية لتشمل الإيرانيين كافة، وبما يشمل القوميين وغير المتدينين من الجماعات العلمانية. سيحاول إبراهيم رئيسي، الذي هو جزء من مشروع خامنائي، توطيد سلطة الدولة العميقة، وأن يعيد الإزدهار الاقتصادي إلى إيران، وسيلعب الحرس الثوري، الذي يسيطر على أغلب القطاعات الاقتصادية في البلاد، دورًا كبيرًا في مساعدته.

بالتوازي؛ تحمل هذه المرحلة الكثير من المخاطر، منها الانقسامات الداخلية بين الأصوليين أنفسهم، ومن الممكن أن نشهد صراعًا على السلطة داخل المعسكر الأصولي، وانتخابات عمدة طهران الأخيرة كانت مؤشرًا حين تحدث أعضاء مجلس المدينة – وغالبيتهم من الأصوليين – عن تهديدات تعرضوا لها لإجبارهم على التصويت لشخصية معينة.

منشورات أخرى للكاتب