نحو إصلاح الإنفاق العام في العراق

يمرّ العراق بأزمة مالية خطيرة، لم تقد الإجراءات الحكومية إلى الحدّ منها بل أدت إلى مفاقمتها. حصل العراق في السنوات المنصرمة على إيرادات نفطية هائلة لكنها لم توصل إلى تقدم تكنولوجي وتطوير صناعي أو تنمية زراعية، ولم تسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين، ولم تتطور الخدمات الصحية والتعليمية، ولم يحصل المواطنون حتى على الطاقة الكهربائية بصورة مقبولة، بل على العكس أسهمت هذه الإيرادات بفاعلية في تفشي الفساد المالي وإهدار المال العام.

والأزمة في العراق متعددة الوجوه: بدايةً بارتفاع معدل البطالة ومستوى الفقر وصولًا إلى عجز مالي مزمن وكبير، ونفقات عديمة الجدوى ذات طابع عسكري وطائفي ونظام فيدرالي فاشل أنهك إقتصاد البلد خاصة بوجود إقليم كردستان، فضلًا عن التدهور المستمر لمعيشة جميع المواطنين وتصنيفات دولية متدنية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية والعلمية.

يدلّ هذا الوضع بشكل  واضح على أن المشكلة لا تكمن فقط في الإيرادات بل كذلك في النفقات. والإجراءات الرامية إلى إصلاح النفقات العامة لن يُكتب لها النجاح إلا وفق  ثلاثة شروط:

الشرط الأول: ألّا تقود إلى تدهور الحالة الاقتصادية بل يتعين أن تفضي إلى العكس.

الشرط الثاني: القضاء على الفساد المالي كليًّا، فالعراق أصبح يحتل المرتبة العالمية رقم 162 وفق ترتيب منظمة الشفافية الدولية ولا يضاهيه في العالم العربي سوى السودان وليبيا وسوريا واليمن.

الشرط الثالث: تخلي الأحزاب والمليشيات عن تدخّلها المباشر في الشأن الاقتصادي الذي أدى إلى تدهور مالية البلاد، فهي تعارض أية خطوة إصلاحية تؤثر على امتيازاتها، لذلك فأن القرارات الحكومية ليست سوى حلول توافقية ناجمة عن محاصصة طائفية وقومية لا تعالج الأزمة بل تقود إلى تفاقمها. وتدخل الورقة البيضاء التي تعتبر البرنامج الإصلاحي الحكومي في نطاق هذه الحلول.

من خلال هذه الشروط يتبين مدى صعوبة إصلاح الإنفاق العام، وهذه الصعوبة تعكس ببساطة ووضوح الحجم الضخم للأزمة المالية.

أدى فشل السياسة الاقتصادية المعتمدة منذ عدة عقود إلى تدهور المالية العامة التي أصبحت تختلف كليًّاً عن مالية البلدان العربية النفطية  وغير النفطية. فهي لا تملك المؤشرات الإيجابية لهاتين المجموعتين، إذ تفتقر للصناديق السيادية التي تلعب دوراً بارزًاً في اقتصاديات دول الخليج، بل أن البيئة الاقتصادية العراقية والعوامل السياسية والأمنية طاردة للإستثمارات الأجنبية. وتختلف مالية العراق عن مالية البلدان العربية الأخرى من عدة جوانب: فالسياحة تقتصر على الزيارات الدينية رغم كونه مهد الحضارات القديمة، ولا توجد فيه إيرادات تتأتى من تحويلات العراقيين المقيمين بالخارج رغم كثرتهم.

السمة الأساسية للنفقات العامة العراقية إفتقارها للرؤية السليمة، فهي بالدرجة الأولى تشغيلية، وتعتمد بصورة شبه كلّيّة على إيرادات النفط من جهة،  وموزعة بموجب توافقات حزبية من جهة أخرى، وهي المصدر الوحيد لمعيشة أكثر من ستة ملايين موظف إضافة إلى عائلاتهم، لكنّها ضعيفة الجدوى. ولا يعود السبب إلى كونها تشغيلية فحسب بل كذلك لأن إنتاجية الموظف متدنية،  ونلاحظ هذا التدني عند المقارنة مع البلدان الأخرى المماثلة وعند المقارنة مع العقود السابقة. ولا تقتصر هذه الملاحظة على الموظف الحكومي بل تشمل أيضاً جميع العاملين في مختلف الميادين وفي القطاعين العام والخاص. وعلى هذا الأساس لا تترتب على تقليص المرتبات تداعيات اقتصادية سلبية بل العكس. ولكن يقود هذا التقليص بالضرورة إلى نتائج اجتماعية وخيمة تمسّ الملايين من المواطنين، ما يتطلب أن تستوجب السياسة المالية السليمة التوفيق بين هذين المؤشرين.

لم تجد الحكومة في الورقة البيضاء حلاً للأزمة المالية بصورة عامة ودفع مرتبات الموظفين بصورة خاصة سوى تخفيض سعر الصرف من 1182 ديناراً إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد اعتبارًاً من 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، أي بنسبة عالية قدرها 22.6%، وبهذه الطريقة يتم إصدار النقود لتمويل الإنفاق العام. والإصدارهنا ليس وسيلة لمعالجة الأزمة بل دليل على عدم إمكانية التصدي لها.

في المقابل، يقع البعض في خطأ فادح آخر عندما يختزل الأزمة بضخامة مصروفات الرئاسات الثلاثة، فالواقع أن مجموع نفقات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب هي 790 مليار دينار أي 0.6% فقط من نفقات الدولة. وهي لا شك مخصّصات مرتفعة بمختلف المقاييس وتثير تذمّرًاً لدى الشعب، لكنها ليست المشكلة الأساسية قياسًاً بالمشاكل الأخرى كارتفاع الإنفاق العسكري.

خفض النفقات العسكرية

المؤسسة العسكرية في العراق غير منتجة بل مستهلكة، وبالتالي ينبغي تقليص مصروفاتها إلى أقصى حدود. ففي عام 2021، بلغت هذه المصروفات 27.6 تريليون دينار أي ما يعادل 21.2% من الإنفاق الكلي، وهذا ما يمتصّ ثلث الإيرادات النفطية.

انطلاقًا من هنا، يتعيّن تقليص الإنفاق إلى النصف على الأقل. ويتحقق ذلك بتسريح عدد من المنتسبين بجميع المراتب خاصة كبار الضباط الذين أصبح عددهم يفوق العدد المماثل في جيوش الدول الكبرى. فـ 94% من المبلغ المذكور عبارة عن مرتّبات للقوات المسلحة. وتجدر الإشارة إلى أن عدد العسكريين يزيد على المليون شخص لذلك لابدّ من تحويل المُسرّحين إلى القطاع الإنتاجي.

كانت الإيرادات النفطية العامل الأساس الذي أدى إلى ارتفاع النفقات العسكرية، وبسبب تباطؤ الطلب على الخام وتراجع الأسعارهبطت هذه الإيرادات بشدّة، فأصبح من اللازم تقليص المصروفات.المشكلة أنّ الدولة لا تجد سوى هذه المؤسسة غير المنتجة لتشغيل العاطلين عن العمل، في حين كان من المفروض أن يتولّى التشغيل القطاع الإنتاجي.

إنّ ضرورة تقليص الإنفاق العسكري لا تقتصر على طبيعته غير المنتجة، إذ يعاني هذا القطاع بشدة من الفساد المالي الذي يتضمن جانبين: الجانب الأول يتعلق بالعدد الكبير للأشخاص الذين يتقاضون مرتبات عسكرية  دون أن يكون لهم عمل وظيفي حقيقي. ولا شك أن هذه الظاهرة منتشرة في جميع الوزارات، لكنها تزداد في مرافق الدفاع والأمن. أما الجانب الثاني فيرتبط بعقود استيراد الأسلحة.

من بين الإجراءات الرامية إلى تقليص المصروفات العسكرية، ضرورة إلغاء هيئة الحشد الشعبي البالغة نفقاته 3727 مليار دينار (اعتمادات ميزانية العام الجاري).

ولا يقتصر الجانب العسكري على السلطة المركزية بل يشمل أيضاً القوات الكردية.

إلغاء إقليم كردستان

تستوجب السياسة المالية السليمة إلغاء هذا الكيان الذي تأسّس للإنفصال عن العراق وليس لاعتبارات إدارية ترتبط بالتنظيم الإتّحادي للدولة.

فميزانية عام 2021 رصدت مبلغاً قدره 11482 مليار دينار للإقليم، في حين حصلت بغداد على ثلث هذا المبلغ علماً بأن عدد نفوس العاصمة أكبر بكثير من عدد نفوس كردستان، بل أنّ مخصّصات الأنبار ونينوى لا تتعدى عُشر الإعتمادات المخصصة لكردستان رغم تساوي عدد النفوس ورغم الدمار الذي لحق بهاتين المحافظتين.

إضافة إلى كونه عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة، يمثّل إقليم كردستان خطورة على السياسة الاقتصادية بصورة عامة والسياسة النفطية بصورة خاصة.

خلال العام المنصرم 2020 اتخذت منظمة أوبك+ قرارات بخفض الإنتاج لمواجهة تدهور الأسعار الناجم عن وباء كورونا، وبطبيعة الحال العراق مشمول بهذه القرارات.

من الزاوية الرسمية تصدّر الحكومة المركزية خاصة من حقول البصرة 2.6 مليون ب/ي. ويصدر كردستان 250 ألف ب/ي.

نستنتج من البيانات الشهرية لوزارة النفط أن تخفيض الإنتاج ينصب في كل مرة على حقول البصرة، إذ يرفض الإقليم إجراء أي تخفيض على إنتاجه وكأن قرارات المنظمة لا تعنيه، علماً بأن الإتفاق المبرم بين بغداد واربيل يقضي بشمول حقول كردستان بالتخفيض.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020 صدر بيان من حكومة كردستان ينص على الموافقة على التخفيض بشروط محددة أهمها أن يكون بنسبة لا تزيد على 10% من الإنتاج الرسمي للإقليم. أي 25 ألف ب/ي كحد أقصى، علمًاً بأن التقارير تؤكد على أن الإقليم يصدر من الناحية العملية أكثر من 600 ألف ب/ي، كما يشترط البيان على الحكومة العراقية تقديم تعويض مقابل التخفيض.

ولا تقتصر المشاكل على النفط بل تشمل أيضاً الضرائب، خاصة الرسوم الجمركية. فسعي الإقليم إلى الإستقلال يتطلب السيطرة العسكرية والجمركية على المنافذ الحدودية التي تربط كردستان بإيران وتركيا، وهذا ما يجري فعلا. الأمر الذي يؤثّر تأثيرًاً سلبيًاً على المالية المركزية، ناهيك عن تعارضه مع النصوص الدستورية، لا سيما المادة 110 التي تنص فقرتها الثالثة على حصر السياسات المالية والجمركية والنقدية والتجارية بيد السلطة المركزية.

يجب معاملة السليمانية كالبصرة وأربيل كالموصل وهكذا. كما يتعيّن إلغاء مبدأ توزيع الثروات حسب عدد النفوس، فهو توزيع بدائي لا يمتّ للتنظيم المالي السليم بصلة، إذ ينبغي أن يخضع الإنفاق العام لمبدأ الحاجة بالدرجة الأولى.

ولا تتوقف السياسة المالية المنشودة عند المؤسسات العسكرية المركزية والمحلية، بل تهتم أيضاً بالمؤسسات المدنية عديمة الجدوى خاصة هيئات الأوقاف.

تصفية هيئات الأوقاف

تستحوذ المرتّبات في هذه الهيئات على القسط الأكبر من الإعتمادات المخصّصة لها، أما صيانة دور العبادة والأعمال الخيرية فلا تشكّل سوى القليل. كما تشير التقارير إلى وجود أنشطة تجارية بحتة لهذه المؤسسات وإلى تفشي الفساد المالي في عمليّاتها.

تستوجب الحكمة حصر صيانة هذه الدور بيد الدولة شريطة أن يقتصر الصرف على العمليات الضرورية فقط. إذن ينبغي إلغاء جميع هيئات الأوقاف، ما يمكن أن يوفّر 1147 مليار دينار.

يتعين استخدام الأموال التي يمكن توفيرها من الإجراءات المذكورة أعلاه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وليس من أجل تحقيق التوازن المالي، وفي مقدمة أوجه الصرف التطوير الصناعي بمفهومه الواسع.

زيادة الإنفاق على البحث العلمي

لا يتطور الإقتصاد، أي لا تتحسن مالية الدولة، إلا بالإهتمام بالبحث العلمي والتطوير الصناعي. في الوقت الحاضر لا يختلف العراق عن الدول الأقل نموًاً في العالم من حيث مستواه التكنولوجي: فهناك قلة في عدد البحوث والباحثين وندرة في الإختراعات وانعدام وجود لصادرات صناعية متطورة. وهذا الوضع ينجم عن عدة أسباب في مقدمتها ضآلة الإعتمادات المخصصة للبحث العلمي.

لذلك لابد من زيادة هذه الإعتمادات في جميع الميادين المدنية والعسكرية. ويتعيّن إحداث مؤسسة بحثية عملاقة تستقطب أصحاب الخبرات والشهادات العليا وتهتم بالدراسات التي لها علاقة بتطوير المشاريع الإنتاجية والاختراعات التي تستخدم في الصناعات.

سينجم عن تقليص الإنفاق العسكري بنسبة 50% وإلغاء الكيان القانوني لإقليم كردستان وتصفية هيئات الأوقاف لجميع المذاهب والأديان توفير مبلغ قدره 28.8 ترليون دينار أي حوالي عشرين مليار دولار سنويا. يكفي هذا المبلغ لإقامة مشاريع خلال فترة قصيرة تقود إلى معالجة الوضع المتردي للبلد كـ: تلبية الحاجات الكهربائية وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية، وتطوير الصناعة والقضاء على البطالة والفقر، ومواجهة هبوط مستوى المعيشة. كما يقود هذا المبلغ إلى تحسن الوضع الحسابي لميزانية الدولة فتهبط الديون العامة ويرتفع الاحتياطي النقدي. أضف إلى ذلك أنّ إصلاح الإنفاق بالمفهوم الوارد أعلاه سيقود بالضرورة إلى زيادة الإيرادات غير النفطية. ولكنّ هذه المقترحات تتطلب إرادة سياسية تتولى تطويرها وتنفيذها.

منشورات أخرى للكاتب