الصّندوق السّيادي الكويتي خارج الأزمة الماليّة

تمرّ الكويت بأزمة ماليّة رغم أنّها تمتلك أحد أكبر الصّناديق السّياديّة في العالم. لا يسهم هذا الصّندوق في ماليّة الدّولة إلّا بصورة سلبيّة. لذلك بات من اللّازم إعادة النّظر في تنظيمه كي يشارك بفاعليّة في تخفيف هذه الأزمة.

صندوق الأجيال القادمة أوّل صندوق سيادي في العالم تأسّس في عام 1953. بلغت أصوله 533.6 مليار دولار (الرّقم مذكور في موقع معهد صندوق الثروة السيادية). وبذلك يحتل المرتبة العالميّة الخامسة والعربية الثّانية بعد صندوق أبو ظبي. وهذا المبلغ يعادل أربعة أضعاف النّاتج المحلي الإجمالي للكويت. الأمر الذي يشير إلى مدى أهمّيته في ماليّة البلد.

يتضمن القانون رقم 106 لسنة 1976 المنظّم لاحتياطي هذا الصّندوق أمرين: الأمر الأول يتعلّق باقتطاع جزء من الإيرادات العامة السنوية للدولة لصالح احتياطي الصندوق. ويرتبط الأمر الثاني بعدم جواز سحب أيّ مبلغ من هذا الاحتياطي.

شرّع هذا القانون بعد تحسّن أسعار النّفط في الأسواق العالميّة وظهور ما يسمّى في بلدان الخليج بالفوائض الماليّة التّي تقرّر استثمار قسط منها في صناديقها السّياديّة.

ومن خصوصيّات الصّندوق الكويتي أنّه لم يؤسّس للحصول على إيرادات إضافيّة لماليّة الدّولة يمكن استخدامها في حالة العجز. بل تنحصر مهمته بضمان حقوق الأجيال القادمة في الحصول على نسبة من ثروة البلاد الناضبة. لذلك نصّت المادّة الثّالثة من القانون المذكور على منع السّحب منه.

تحويل الأموال للصندوق ممكن

يعاني هذا التّنظيم من عدّة مثالب: ما هو المعيار الذّي استند إليه لتحديد نسبة 10% دون غيرها؟ في الواقع لا يوجد معيار، كما لا تقبل هذه النّسبة الهبوط بل تقبل الزّيادة، وهذا أمر غير منطقي.

كما تقتطع النّسبة من إيرادات الدّولة وليس فقط من عوائدها النّفطيّة. فمن المعلوم أنّ إيرادات الدّولة تتكوّن من العوائد النّفطية والإيرادات غير النفطية. وإذا كان من المقبول تخصيص حصّة للأجيال القادمة من هذه العوائد باعتبار النّفط ثروة طبيعيّة مملوكة لجميع المواطنين وقابلة للنّضوب، فأنه من غير المنطقي منحها حصّة في الإيرادات الأخرى. فلا توجد حكمة من أن يدفع الجيل الحالي 10% من الضرائب والغرامات لصالح الأجيال القادمة. قد تكون هذه النسبة مناسبة تحت ظل ماليّة عامّة تتسم بالفائض كما كان الوضع في السّبعينيات من القرن المنصرم، لكنها غير ملائمة في حالات العجز المالي الذي تعيشه الكويت منذ سبع سنوات. يستوجب العجز المالي السّحب من أموال المؤسسات الماليّة والاستثمارية التّابعة للدّولة وليس العكس.

خلال سنوات 2012 و 2015، لم تكتف الحكومة بتلك النّسبة المذكورة في القانون بل أضافت إليها نسبة أخرى قدرها 15%، وهكذا أصبح ربع إيرادات الدّولة مخصّص للصّندوق السّيادي. جاء هذا القرار بسبب ظهور فائض في ميزانية الدّولة لتلك السّنوات. لكنّ الحكومة اقتصرت منذ السّنة الماليّة 2016/2017 على النّسبة المذكورة في القانون بسبب العجز.

وبالنّظر لتداعيات كورونا التي أدت إلى هبوط حاد لأسعار النّفط وبالتّالي للإيرادات العامّة في العام الماضي وما ترتّب على ذلك من تدهور ماليّة الدّولة، قرّرت الكويت في 13 سبتمبر/أيلول 2020 تعديل القانون بالقانون رقم 18 لسنة 2020.

ينصّ التّعديل الجديد على ما يلي “في حال زيادة الإيرادات السّنوية عن المصروفات تقتطع نسبة من الفائض الفعلي من نتائج الحساب الختامي للدولة. تحدّد بناء على اقتراح وزير المالية وموافقة مجلس الوزراء…”.

وهكذا ألغي النّص الذّي يخصّص 10% من إيرادات الدّولة للصّندوق، وأصبح تحويل الأموال العامّة للصّندوق خاضعاً إذن لأربعة شروط:

الشّرط الأوّل: وجود فائض في الحساب الختامي للميزانية. بمعنى لا يعتد بالحالة الماليّة للميزانية خلال السّنة التّقديرية، بل يجب ظهور حسابها الختامي لمعرفة الحالة الحقيقيّة لماليّة الدّولة. ويفترض تقديم الحساب الختامي إلى مجلس النواب خلال أربعة أشهر من انتهاء السّنة التّقديرية (المادة 149 من الدستور).

الشّرط الثّاني: تُحوّل نسبة معيّنة من هذا الفائض إلى صندوق الأجيال القادمة. ولا يوجد في القانون المعدّل تحديد لهذه النّسبة.

الشّرط الثّالث: ينبغي أن تسمح أحوال الاحتياطي العام باقتطاع هذه النّسبة لصالح صندوق الأجيال القادمة.

الشّرط الرّابع: يختصّ وزير الماليّة باقتراح تلك النّسبة على أن يوافق عليها مجلس الوزراء،

بمعنى آخر لا تحويل للصّندوق في حالة العجز، ولا تحويل له في حالة الفائض إلا إذا كان الاحتياطي العام في حالة جيّدة تختلف تماماً عن حالته الحاليّة.

للوهلة الأولى يبدو أن هذا التّعديل سليم من الزّاوية الماليّة، فهو يعطي نفساً جديداً للماليّة المختنقة لأنه وفّر لها 770 مليون دينار في عام 2020/2021 و1092 مليون دينار في عام 2021/2022. ولكن الصّناديق السّيادية سواء كانت موجّهة للأجيال القادمة أم لدعم الأوضاع الماليّة الحاليّة، إنّما هي مؤسّسات إستثماريّة تدرّ أرباحا من عمليّاتها المختلفة داخل وخارج بلدانها، والإستثمار لا يتوقّف حتى في حالة العجز، بل تفترض السّياسة الإقتصاديّة السّليمة العكس تماما، إذ أنّ الاستثمارات العامّة تقود إلى تحسن الأداء الاقتصادي، وهذا التّحسن ينعكس إيجابياً على العجز المالي. لذلك يفترض في حالة العجز تقليص الإنفاق الاعتيادي وزيادة الإنفاق الإستثماري، أي زيادة تحويل الأموال إلى الصّندوق السّيادي شريطة أن يستفيد الجيل الحالي من هذه الزّيادة.

السّحب من الصّندوق ممنوع

يرى نوّاب أنّ السّحب من صندوق الأجيال القادمة لتغطية عجز الميزانية العامّة خسارة فادحة لماليّة الدولة. إذ يدرّ هذا الصّندوق أرباحاً تزيد عن 6% من قيمة أصوله. في حين يقلّ سعر الفائدة في القروض عن 2%، وبالتّالي يستحسن الاقتراض بدلاً من السحب من الصّندوق.

لا شكّ أنّها وجهة نظر سليمة شريطة أن تستند إلى أسس صحيحة. ففي الواقع أدّى وباء كورونا إلى تدهور قيم الأسهم وحجم الأرباح، وبسبب ارتفاع الطّلب على القروض إرتفعت أسعار الفائدة، كما ارتفعت تكلفة الاقتراض الخارجيّ في الكويت بسبب هبوط التّصنيف الائتماني من قبل الوكالات الدولية الثلاث: موديز وفيتش وستاندرد آند بورز.

ومن زاوية أخرى، فقسط من أصول الصّندوق (السّيولة النّقدية) تدرّ أرباحاً تعادل أسعار الفائدة، وعلى هذا الأساس يمكن السّحب منها بدلاً من الاقتراض الخارجي.

ولكن لابدّ من التّفرقة بين أمرين بهذا الشّأن:

الأمر الأوّل: قدّمت الحكومة مشروع قانون إلى مجلس النّواب يتضمّن سحب مبلغ لا يزيد عن خمسة مليارات دينار سنوياً من صندوق الأجيال القادمة. رفض البرلمان رفضاً قاطعاً هذا المشروع.

الأمر الثاني: السّحب بالمبادلة. إن تفاقم العجز المالي وهبوط الإيرادات النّفطية وعدم الرّغبة في تقليص النّفقات العامّة أدّت إلى استمرار السّحب من سيولة الاحتياطي العام، كما هبط بشدة فائض ميزان المدفوعات. وحسب بعض المسؤولين لم يبق من السّيولة النّقدية سوى 3.6 مليار دولار، وبالتّالي لا يغطي هذا المبلغ سوى مرتّبات الموظفين لمدة شهر واحد فقط. لكن الاحتياطي العام يتكون أيضاً من أصول غير سائلة، قدرتها وكالة موديز بنحو 17% من النّاتج المحلّي الإجمالي. أي أن حجم هذه الأصول غير السّائلة يزيد عن عشرين مليار دولار،وتستطيع الحكومة بيع هذه الأصول إلى صندوق الأجيال القادمة للحصول على أموال نقدية. وحصل أن لجأت الحكومة عدة مرات إلى هذه العملية التي لا تستوجب موافقة برلمانيّة.

إنّ هذه المبادلات تعالج بلا شك الأزمة الماليّة بصورة مؤقّتة كدفع المرتبات والوفاء ببعض الالتزامات الماليّة، لكن سلبياتها عديدة:

فهي تفضي إلى هبوط السّيولة النّقدية لصندوق الأجيال القادمة، وهذا وضع غير مريح له.

كما تمثل الأصول غير السّائلة المملوكة للإحتياطي العام أموالاً مستثمرة في مؤسسات عديدة كمؤسسة البترول الكويتية، وتحويل هذه الأموال إلى نقود لدفع الرواتب وتمويل الدّعم يعني تحويل الاستثمار إلى استهلاك، ويترتب عليه بالضرورة تداعيات اقتصادية واجتماعية سلبيّة في بلد ريعي.

أضف إلى ذلك أن حجم العجز المالي للسّنة الجارية يتجاوز 12 مليار دينار، في حين أنّ جميع الأصول غير السّائلة للإحتياطي العام تبلغ بتطبيق النّسبة المذكورة أعلاه (17%) أقل من سبعة مليارات دينار.

ما العمل؟

يتعيّن إعادة النّظر في القانون المنظّم لاحتياطي صندوق الأجيال القادمة وفق التّطورات الجديدة على الصّعيدين الكويتي والعالمي، ولابد من التّوفيق بين رغبة الكويتيّين في الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة من جهة والمؤشرات التّجارية والماليّة والاستثماريّة للبلد من جهة أخرى.

انطلاقاً من هذه الإعتبارات تقترح هذه السّطور التّنظيم التّالي الذّي يعتمد على تجارب الصّناديق السّيادية الأخرى خاصّة الصّندوق البحريني والصّندوق النّرويجي.

يجب أن يقتصر حساب تحويل الأموال على النفط فقط، وبهذا الصّدد لابدّ من أن يتناسب التّحويل مع سعر أو إيرادات النّفط. كلّما ارتفع السّعر أو الإيراد، إزداد التّحويل للصّندوق، والعكس بالعكس.

 وهذه العلاقة بين سعر النفط وحجم التّحويل للصّندوق السّيادي معروفة في البحرين وينظّمها القانون رقم 28 لسنة 2006. علماً بأن البحرين تمنح صلاحيّات واسعة لرئيس الدّولة بإيقاف العمل بالقانون، وهذا ما حدث فعلا في منتصف العام الماضي 2020 بسبب تداعيات كورونا وبهدف الحدّ من عجز الميزانيّة، كما قررت المنامة سحب 450 مليون دولار من صندوقها السّيادي.

ولكن يجب أن تخضع عمليّات السّحب لمعايير دقيقة في الكويت، فمن جهة ينبغي السّماح للحكومة بالسّحب شريطة تحديد نسبة معينة كما هو الحال في النّرويج، أو أن لا يتجاوز السّحب حجم الأرباح السّنوية الصّافية. علماً بأن الحكومة الكويتية اقترحت على مجلس النواب تعديلات أخرى على قانون احتياطي الصّندوق يتضمّن إمكانيّة سحب خمسة مليارات دينار سنويا كحدّ أقصى، ورفض البرلمان كما ذكرنا.

لذلك يتعيّن إجراء تعديلات جوهريّة على القانون تأخذ بعين الإعتبار معايير التّحويل والسّحب، كما يجب إعادة النظر في القانون رقم 47 لسنة 1982 المنظّم للهيئة العامّة للإستثمار المشرفة على الصّندوق، إذ يمنع هذا القانون منعاً باتاً نشر معلومات عن عمليّات الصّندوق وعن أرباحه وخسائره. لذلك تتسم جميع أنشطته بالسّرية وعدم الشّفافية.

إنّ الدّفاع الحقيقي عن مستقبل ومصلحة الأجيال القادمة لا يتمثّل في دفع الأموال بل في تهيئة اقتصاد سليم وبناء ماليّة رشيدة، وهذه هي الوظيفة الأهم للجيل الحالي تجاه الأجيال القادمة.

منشورات أخرى للكاتب