البحرين: مآلات الإصلاح أحادي الجانب

منذ أواخر العام الفائت، تتوالى سلسلة من الأحداث والتطورات الحقوقية في البحرين بعد نحو عشر سنوات من الظلامية السياسية والحقوقية في البلاد. أطلقت  السلطات الحكومية سراح العشرات من المحكومين المحسوبين على شارع المعارضة بأغلبيته الشيعية، كما التقى عاهل البلاد الملك حمد بن عيسى آل خليفة بالعلامة السيد عبدالله الغريفي مرتين، والأخير هو شخصية دينية بارزة والرجل الثاني في أوساط الشارع الشيعي المُعارض.

وفيما لا تزال أوساط النخب السياسية والاجتماعية في المعارضة، داخل البحرين وخارجها، تتأرجح في الركون إلى تفسير واضح أو توقع صلب حول ما ستؤول إليه مبادرات بيت الحكم في البلاد سياسيًا. لا تقدم خطابات عاهل البلاد ولا تصريحات المسؤولين الحكوميين ولا وسائل الإعلام الرسمية، أية اشارات أو تلميحات عن ما إذا كانت هذه الإصلاحات والمبادرات الحقوقية هي تمهيد لإصلاحات سياسية مقبلة.

وفيما تميل غالبية أوساط المعارضة إلى تفسير ما يحدث باعتباره استجابة غير طوعية من بيت الحكم لمتطلبات مرحلة جديدة كانت قد بدأت مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة في البيت الأبيض ومجمل المتغيرات الإقليمية الجديدة، ومن أهمها الحوار السعودي الإيراني، يذهبُ آخرون، وبالخصوص القوى المتشددة في المعارضة، إلى توظيف ما يحدث في تعزيز الدعاية السياسية للمعارضة وتسجيل النقاط لصالحها.

بيت الحكم والمعارضة: تكتيكات متكاملة

وخلاف العادة في البحرين المملكة الصغيرة المهووسة بالدعايات السياسية الكبيرة مع أي متغيراتٍ جديدة، لا يُبدي بيت الحكم الحماسة أو الاهتمام المعتاد في ترويج أو تقديم اصلاحاته الحقوقية الأخيرة تحت عنوان مشروع سياسي جديد. يميل بيت الحكم، كما هو مُلاحظ، إلى الحذر من أن تبني أو أن تتبنى جماعات المعارضة أي فهمٍ أو استنتاج بأن ملك البلاد مُلزمٌ بالاستجابة لأي صيغة إصلاح سياسي تفرضهُ المعارضةُ عليه، يشملُ ذلك القبول بدعوات الحوار مع المعارضة أو مشاركة الأخيرة في صياغة هذه الإصلاحات أو هندستها.

اللافت، هو أن قوى المعارضة التي عادت لها شهية التصريحات السياسية مؤخرًا، وعبر سلسلة من المواقف، تستجيبُ لهذا التكتيك الحكومي طواعية عبر التقليل من أهمية الإصلاحات الأخيرة واعتبارها مجرد وفاء بالتزامات الدولة الحقوقية والتأكيد على لسان الشيخ عيسى قاسم – المرجعية الدينية الكبرى للشارع الشيعي المعارض – على محورية الإصلاح السياسي وأن ايجاد “دستور من وضع الإرادة الشعبية المحضة من خلال مؤسسة تشريعية تنتجها انتخابات عادلة حرّة” هو ما يمكن التعويل عليه. الأوضح من موقف الشيخ قاسم هو ما نُقل من تصريحات مسربة لعبدالوهاب حسين، مؤسس تيار الوفاء الإسلامي والمحكوم بالسجن المؤبد منذ عام 2011، الذي حذر من الاستعجال أو العودة إلى الوراء عبر القبول بحلول قد تتحول لكارثة، وفق تعبيره.

بناءًا على تكامل هذين الموقفين وعلى مستوى النتائج، تُؤمن الإصلاحات والمبادرات الحكومية الأخيرة نقاط تقدم معتبرة لصالح الحكومة البحرينية في العواصم الغربية التي بادر وشارك بعض منها في صياغة وصناعة برامج الإصلاح الحقوقي في البلاد.

في الجهة المقابلة، تضع قوى المعارضة على نفسها ثقلًا والتزامًا سياسيًا جديدًا يتمثل في مطلب “الدستور العقدي الجديد” دون أن يكون لهذا المطلب رافعة سياسية وازنة في الداخل أو حتى داعمون دولييون يضغطون من أجله. كان الأولى بالمعارضة – ولا يزال –  تحديد أولوياتها في هذا التوقيت الإيجابي، رصد منافذ اعادة الثقة مع بيت الحكم والعودة للعملية السياسية والدخول فيها أكثر من خلق المزيد من الالتزامات الشعبية والتعقيدات السياسية أمامها.

الاصلاحات وميزان المكاسب

يؤمنُ ما تقوم به مؤسسة بيت الحكم في البحرين ثلاثة مكاسب رئيسية. يرتبطُ المكسب الأول بأن تخفيف حالة الصدام السياسي والأمني مع غالبية المكون الشيعي منذ عشر سنوات هو حاجة استراتيجية وملحة لاستقرار الدولة ونموها. وإذ تطوي البحرين نحو ثلاثة أعوام في ظل استقرار أمني ملحوظ، لا تقدم سياسات المواجهة والتصادم إلا أثارًا سلبية وكراهيات مرشحة للانفلات يجدر بالدولة تجنبًها وتجاوزها، يأتي ذلك بالتزامن مع تولي ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة – المرحب به لدى غالبية المكون الشيعي – رئاسة الوزراء والبدء في تغييرات جوهرية في هياكل الدولة ومؤسساتها.

المكسبُ الثاني هو الاستفادة من ما يمثلهُ ملف المحكومين من أهمية مجتمعية بالغة في تقسيم قوى المعارضة وتشظيها. كانت حساسية هذا الملف، ولا تزال، كافية لإعمال المزيد من الانقسامات الحادة داخل قوى المعارضة التي تخضع لاختبار جهد صعب؛ بين الاستجابة لهذه الاصلاحات المقرونة بخروج المئات من المحكومين من جهة، وبين التفاعل السلبي الذي قد يُعطل مثل هذه الاجراءات المرحب بها مجتمعيًا من جهة أخرى.

المكسب الثالث يرتبطُ بادراك مجسات مؤسسة بيت الحكم بأن ما يشهدهُ الإقليم من مستجدات ومتغيرات يتطلبُ منها أن تبادر إلى استباق القوى الإقليمية والدولية – بل وقوى المعارضة ذاتها – عبر المضي في اجراء إصلاحات حقوقية تُناسب مقاساتها وتُحافظ على التوازنات الداخلية في الدولة. خلاف ذلك، قد تؤول الأمور إلى تعرض الدولة إلى ضغوط مستقبلية قد تضيف إلى الإصلاحات الحقوقية المطلوبة اصلاحات سياسية موجعة. وهو بالتحديد ما يفسر حرص مؤسسة بيت الحكم على أن لا ترتبط الاصلاحات الراهنة بأي مشروع سياسي يفتح شهية قوى المعارضة أو غيرها على أي عناوين سياسية أوسع.

الإصلاح أحادي الجانب: هل ينجح؟

لا شك أن الإصلاحات التي تبادر بها السلطة الحاكمة من تلقاء نفسها هي أحد آليات الإصلاح السياسي المعمول بها تاريخيًا. وهو ما قد ينطبق على الحالة البحرينية اليوم وصولاً إلى الانتخابات النيابية المقررة آواخر عام 2022 التي قد تشهد تعديلات قانونية توسع المُشاركة السياسية عبر تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية وتجميد مواد العزل السياسي. رغم ذلك، لا يبدو أن هذه التعديلات منفردة، رغم أهميتها، كافية لتذويب كتلة المعارضة الشيعية التي تتصف بقوة تكوينها الداخلي واختلاط الديني والسياسي في ممارستها السياسية.

تتحرك المكونات الشيعية في مجتمعاتها باعتبارها كُتلًا ثقيلة تستند إلى قيادة مرجعيات دينية وسياسية كاريزماتية ومؤثرة. وعليه، مهما كانت الاصلاحات أحادية الجانب فاعلة ومنتجة إلا أن بيت الحكم في البحرين لن يكون قادرًا على اختراق شارع المعارضة أو تغيير معادلاته دون وجود شريك سياسي حقيقي وفاعل من داخل بيت المعارضة. وفي الوقت الذي قد يبدو فيه السيد عبدالله الغريفي المرشح المثالي للعب مثل هذا الدور – وربما كان هذا ما تراهن الدولة عليه – إلا أن شخصية السيد الغريفي السياسية أولًا، وطبيعة المكون الشيعي ثانيًا، تجعل من هذا الرهان بعيدًا عن الواقع وتعقيداته، وهو ما يعيد الأمين العام لجمعية الوفاق الشيخ علي سلمان إلى الواجهة باعتباره الشخصية الأقدر على لعب مثل هذا الدور وتسويقه بين قيادات المعارضة وشارعها، على حد سواء. 

ولئن كان الإصلاح الحقوقي أو السياسي أحاديُ الجانب هو إصلاح قاصر في العديد من جوانبه وزواياه، إلا أنه أيضًا، آلية ناجحة وقادرة على تعزيز استقرار نمط الحكم والدولة من جهة، وعلى تحجيم مشاريع المعارضة من جهة أخرى.

وفيما يتطلبُ استقرار الدولة الاهتمام بملفات محورية مثل انهاء التمييز الطائفي وتوسيع الحريات السياسية وحرية الرأي والتعبير، فإن فرص نجاح الإصلاح أحادي الجانب يعززها عجزُ المعارضة عن فهم طبيعة الصراع داخل المجتمع الذي تعيش فيه، وفي ترتيب أولوياتها وفق مصالح واضحة ومفهومة. وهو في المحصلة ما يبقيها على ما هي عليه اليوم: معارضةٌ تمثل مكونًا اجتماعيًا عريضًا، صلبًا ومتماسكًا، لكنها في المقابل معارضة فقيرة على مستوى إدارة نفسها ووضع سياسات ناجعة لتأمين مصالح من تمثلهم.

منشورات أخرى للكاتب