أسرار “بيت القائد” في إيران: ميزان الدولة وصناعة السياسات

على الرّغم من كون الهيكل السّياسي في إيران يبدو معقدّا إلى حدّ ما بسبب تعدّد المؤسسات والمنظّمات الحكوميّة والدّينية، وتشارك رجال السّياسة والدّين في الحكم، إلّا أن الكلمة الأخيرة في جميع شؤون البلاد الدّاخلية والخارجيّة تبقى للمرشد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي؛ رأس هذا الهرم السّياسي؛ والذّي يتمتّع بسلطة مطلقة.

بطبيعة الحال؛ لا يدير آية الله خامنئي مئات المؤسّسات بمفرده، هناك بالتأكيد معاونون ومستشارون يساعدونه فى كافّة الشّؤون. من هنا، أتت مكانة “بيت رهبرى” أو “بيت القائد” أي مكتب الزّعيم الأعلى للبلاد، وتستخدم المفردة العربية “بيت” بدلا من “خانه” بالفارسيّة، استنادا إلى القرآن في إشارة الى الكعبة باسم البيت أو البيت الحرام، وأيضا إلى دلالاتها ومعانيها الرّوحيّة في الثّقافة الشّيعية بحيث يشار الى الدائرة المقربة من الرّسول محمد باسم “أهل البيت”.

بيت آية الله الخميني

بعد أشهر من انتصار الثّورة الاسلاميّة في إيران عام 1979، اختار مؤسّس الجمهوريّة الاسلاميّة، آية الله روح الله الخميني، الاستقرار في حيّ جماران شمال العاصمة طهران، هناك أسّس «بيت رهبري»، أو مكتبه، وبحسب كتاب ” في ظل الشمس” للسّيد محمد حسين رحيميان؛ أحد المقربين من الخميني فى ذلك الوقت، كان مكتب الخميني في جماران صغيرا ولا يزيد عن أربعة غرف، أعلى “حسينية جماران”.

اقتصر مكتب الخميني وقتها، على عدد قليل من الموظّفين لا يتجاوزون العشرة أشخاص، جميعهم من الدّائرة المقربة له، ولم يكون العاملون في المكتب يتقاضون أجرا باستثناء بعض الإداريّين، وكانت مهامهم ترتيب اجتماعات الخميني والرّد على الاتصالات الهاتفية، والاجابة على الاسئلة الدينية، وكان السيد أحمد الخميني من يدير المكتب، وهو أهله ليتمتع بنفوذ هائل.

لا يمكن إنكار تدخل أحمد الخميني في إدارة الحكومة الايرانيّة بواسطة مكتب أبيه في ذلك الوقت، ولكن هذا التّدخل لم يكن واسع النّطاق كما يحدث الآن. فبعد وفاة الخميني، تحول المكتب الى معهد لحفظ ونشر أعمال مؤسّس الجمهوريّة الاسلاميّة، يديره حفيده حسن الخميني، وتوسع ليضمّ الآلاف من الموظّفين بعد أن تم رصد ميزانيّة سنويّة كبرى له.

في عام 2009، وفي أثناء موجة الاحتجاج الكبيرة التي أعقبت نتائج الانتخابات الرئاسيّة، عاد مكتب الخميني في حيّ جماران الى الأنظار مرّة أخرى كرمز للاحتجاج، فذهب أنصار “الحركة الخضراء” للاعتصام أمامه، متّخذين من رمزيّة المكان منصّة لاحتجاجهم، وبالطّبع لم تسمح القوّات الامنيّة الايرانيّة بتكرار الأمر أو بتحويل مكتب الخميني الى رمز للاحتجاج.

من البيت الصغير إلى البيت الكبير

على عكس “بيت القائد” فى عهد آية الله الخميني، يأتي “بيت القائد” الخاص بآية الله علي خامنئي، على مدار ثلاثين عاما من الحكم، وسّع السيد خامنئي مشاركة نوّابه والمقرّبين منه في كافّة مؤسّسات الدّولة، وأصبح مكتبه أو “بيت القائد” بشكله الحالي، مجمعا من المباني الادارية المركزية، تقع فى العاصمة طهران، بالتحديد في شارع  فلسطين، ولها ايضا فروع أخرى داخل وخارج إيران.

يضم مكتب القائد العديد من الإدارات السّياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية والدينية، حيث يعمل الآلاف من الموظفين الذّين يتقاضون رواتبهم من ميزانيّة الدّولة. وللمرشد الاعلى أيضا ممثّلون فى كافّة المؤسّسات والمنظّمات الحكوميّة وفي الجامعات والحوزات العلمية.

من هنا، يلعب مكتب القائد دورا هاما في إدارة شؤون البلاد الدّاخلية والخارجيّة رغم وجود الحكومة، إذ يمتلك صلاحيّات وتأثيرا فعّالا على القوى الثّلاث في البلاد (الحكومة، البرلمان، والقضاء)، ويمكن اعتباره حكومة الظّل داخل الجمهورية الاسلامية الايرانية، بعبارة أوضح.

الاستعانة برجال المخابرات والحرس الثوري

بعد تولّي آية الله خامنئي قيادة البلاد لم يستعن القائد الجديد بأحد أبنائه، ولا برجال الدّين الذي هو واحد منهم، بل فضّل الاستعانة بعدد من رجال المخابرات والحرس الثوري لادارة “بيت القائد”.

يضم “بيت القائد” الحالي العديد من الخبراء العسكريين والأمنيين في المقام الأول، بجانب الخبراء الاقتصاديين والسياسيين، إلا أنّ شيئا  من الغموض يحيط بالمكتب، يجعل من الصعب دراسة او حتى تخيل ما يدور بداخله، أو كيفية صنع القرارات السّياسية والاقتصادية والأمنية، أو حتّى تسلسل وترتيب المناصب والشّخصيات المتواجدة داخله. هذا الكيان، رغم غموضه، يدير كلّ كبيرة وصغيرة داخل وخارج الجمهورية الاسلامية، بداية من هيئة الاذاعة والتلفزيون الحكومية والانشطة الثقافية وصولا الى البرنامج النووي الايراني. إذا، بعبارة أخرى، لا يستطيع أي مسؤول حكومي حتى وإن كان رئيس الجمهورية نفسه أن تتعارض قراراته مع قرارات وآراء “مكتب القائد”.

في السنوات الاولى من حكم السيد خامنئي للبلاد، لم نكن نسمع سوى القليل عن أخبار مكتبه في وسائل الإعلام وهو ما كان مقصودا وموجّها. في السّنوات القليلة الماضية، بدأت التّقارير التي تتناول أخبار “بيت القائد” تتزايد بشكل ملحوظ، خاصّة  في عام 2015 حين تحدّث بعض السّياسيين ونواب البرلمان المحسوبين على التّيار المحافظ، عن تدخل السّيد أصغر حجازي؛ وهو المسؤول الأمني عن بيت القائد؛ في الجلسة البرلمانية الخاصة بالتّصديق على الاتفاق النووي الإيراني. حينها كان السيد حجازي متواجدا في البرلمان، وقد تم التّصويت بالموافقة على خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 في غضون 15 دقيقة فقط، وقيل وقتها أنّ تواجده كان رسالة من المرشد الأعلى، آية الله خامنئي، لإنهاء الأمر بأسرع طريقة.

من المعروف عن آية الله علي خامنئي، وبحسب مسؤولين مقربين من دائرته، أنّه دائم الإطّلاع بنفسه على أغلب الأخبار والتّقارير التي يقدّمها مكتبه إليه بشكل دوري، ويروي الرّئيس السّابق لإيران، وأحد كبار المسؤولين في الجمهورية الاسلامية قبل وفاته، هاشمي رفسنجاني، في مذكراته، أنه أرسل رسالة بعنوان “رسالة بلا سلام”، في وقت الإنتخابات الرئاسية المثيرة للجدل عام 2009، إلى آية الله خامنئي، لكن المسؤولين فى مكتبه لم يوصلوا الرسالة، لكن بعد أيّام قليلة وأثناء اجتماعه برفسنجاني، قال له خامنئي “كنت أقرأ رسالتك من الكمبيوتر”.

الخامنائي رجل بلغ الثّمانية والثّمانين من العمر، وللشيخوخة أثارها عليه حتى وإن كان يتمتع بصحة جيدة، وتكمن هنا أهمية تأثير “مكتب القائد” على قرارته ومعرفته بمجريات الأمور داخل البلاد، بالتأكيد، ليس في مقدور الخامنائي قراءة المئات من التقارير بشكل يومي، لذلك سيعتمد بشكل أو بآخر على موجز هذه التّقارير من خلال الإجتماع  بمدير مكتبه، وأهم المسؤولين فيه.

أهم رجال مكتب القائد

نظرا إلى ما سبق ذكره حول مدى تأثير مكتب القائد على المناخ السّياسي داخل إيران، وعلى قرارات الزعيم الأعلى للبلاد، يجب التّعرف بإيجاز على أهم الرّجال داخل “مكتب القائد”

أصغر حجازي

المسؤول الأمني الأول عن “بيت القائد” والمسؤول عن الفرقة الخاصّة من الحرس الثوري التّي تقوم بحماية أمن وسلامة آية الله خامنئي شخصيّا. يتمتع حجازي بنفوذ قوي كان متجلّيا وواضحًا في فترة رئاسة الرئيس الإيراني الإصلاحي، محمد خاتمي فى التسعينات، حيث أسّس دائرة من رجال الحرس الثوري والمخابرات ليكونوا بمثابة وزارة استخبارات موازية للمخابرات التابعة للحكومة، كما أنه تورّط فى قمع الحركة الطّلابية في عهد خاتمي بمساعدة قوات الباسيج (قوات شبه عسكرية من المدنيين المتطوعين).

يتمتع أصغر حجازي بعلاقة وثيقة، بالمرشد الاعلى الايراني ما مهد الطريق أمامه لاكتساب المزيد من النفوذ.

وحيد حقاني

آقا وحيد (السيد وحيد) كما يناديه المسؤولون الإيرانيون، كان ضابطًا سابقًا في الحرس الثوري ومن أوائل العسكريين الذين استعان بهم السّيد خامنئي لإدارة مكتبه وهو حاليا رئيس المكتب، لا توجد الكثير من المعلومات الواضحة بخصوص ماضيه العسكري أو السياسي، قبل إدارته لمكتب القائد.

ظهر نفوذ السيد حقاني فى عام 2009، بعد تدخله المباشر في إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية للمناظرات الرئاسية بين المرشحين حينها، بالاضافة الى دعمه للرئيس المتشدد السابق، محمود أحمدي نجاد.

مجتبي خامنئي

الابن الثاني للسيد على خامنئي، لا يمكن اعتباره من الرّؤساء المباشرين لمكتب والده لكن لا يمكن أيضا اغفال تاثيره المتزايد على مكتب القائد، ففي الكثير من الاجتماعات غير الرّسمية برجال الدولة، كان مجتبي حاضرا بدلا عن والده، لكن فى نفس الوقت لا نستطيع مقارنة نفوذه بنفوذ أحمد الخميني، بشكل أو بآخر.

بدأ تأثير مجتبي خامنئي على مكتب والده فى الظّهور عام 2005 عندما وقف بكامل قوته خلف محمود أحمدي نجاد المرشّح الرّئاسي حينها، مما أثار استياء العديد من السّياسيين الإصلاحيين الذين فسّروا فوز أحمدي نجاد بالانتخابات بسبب دعم مجتبي خامنئي.

يعتقد البعض، أن السيد على خامنئي، يقوم بتجهيز مجتبي ليحلّ محله بعد وفاته، لكن الأمر ليس بهذه السّهولة المتخيّلة لدى البعض، وإلّا كان من الأحرى أن يتولّى أحمد الخميني قيادة الجمهورية بعد وفاة والده. بالتأكيد، من الممكن أن يكون لمجتبى تأثير على اختيار خليفة والده وأن يصبح حلقة مهمة لتمرير السّلطة كما فعل أحمد الخميني.

بيت القائد، بعد وفاة القائد

من المتوقّع أن يتحوّل بيت القائد، أو مكتب آية الله خامنئي بعد وفاته إلى معهد لنشر أعماله وأبحاثه، كما حدث مع مكتب آية الله الخميني، وأن يتولّى أحد أبنائه إدارته. لكن بالنّظر الى حجم نفوذ مكتب خامنئي مقارنة بنفوذ مكتب الخميني والشّخصيّات المؤثّرة التى تدير هذا المكتب في الوقت الحالي، يمكننا توقّع أن يلعب مكتب خامنئي دورا في اختيار القائد القادم أو على الاقل الاتفاق مع الحرس الثوري على اسم من سيخلف السيد خامنئي، وترشيحه بشكل قويّ، تحت ذريعة أنّهم أدرى النّاس بشؤون حكم البلاد. بعد وفاة آية الله الخميني، تمّ إزاحة الشّخصيات المؤثّرة فى مكتبه من المشهد السّياسي الايراني بالتّدريج، واستبدل خامنئي دائرة الخميني بدائرته الخاصة التى على أقل تقدير، لا يبدو انها ستكون غير متوافقة مع القائد المستقبلي، فإزاحة المؤثرين فى مكتب خامنئي من المشهد السياسي لن يكون سهلا خاصة مع تنامي  نفوذهم على مدار أكثر من ثلاثين عاما.

منشورات أخرى للكاتب