خصوصيّات الأزمة الماليّة في الكويت

تعاني الكويت من أزمة ماليّة حقيقية منذ سبع سنوات، فاقمتها  أكثر تداعيات وباء كورونا، بحيث لم تعد الميزانية العامّة في حالة عجز فحسب بل أصبح من الصّعب تغطية هذا العجز رغم القدرة الماليّة الهائلة التي تتمتع بها الدّولة. أيضا، يلعب كل من الفساد المالي والعلاقة المتوتّرة بين السّلطتين التّشريعية والتّنفيذية دورا في زيادة حدّة الأزمة.

هذه العلاقة المتوتّرة غير مبنية على المصلحة العامّة بل على المكاسب الحزبيّة والصّراعات العائليّة والاعتبارات الشّخصيّة، أنتجت خلافات عقيمة، طغت على الحياة السّياسية في البلاد منذ عدّة عقود، وانعكست بصورة سلبيّة في الآونة الأخيرة على ماليّة الدّولة، فأصبحت الخيارات الماليّة ضيقة جداً بسبب هذا الوضع.

عجز مالي مفرط

في عام 2019/2020 (تبدأ السّنة الماليّة التّقديرية في بداية أبريل/نيسان وتنتهي في نهاية مارس/آذار) بلغت الإيرادات العامة 15811 مليون دينار والنّفقات العامة 22500 مليون دينار (قبل اقتطاع حصة صندوق الأجيال القادمة)، وبذلك أصبح العجز 6689 مليون دينار.

وفي عام 2020/2021 أصبحت الإيرادات العامّة  7502 مليون دينار والنفقات العامة 21555 مليون دينار، بالتالي أصبح العجز المالي 14053 مليون دينار.

وفي العام الجاري قدرت الإيرادات العامة بمبلغ 10929 مليون دينار والنفقات العامة بمبلغ 23048 مليون دينار، أي نظمت هذه الميزانية بعجز قدره 12119 مليون دينار.

من هنا نلاحظ ارتفاعا هائلا للعجز المالي خلال فترة قصيرة، إذ تضاعف حجمه قياساً بعام 2019/2020، وأصبح يعادل 30% من النّاتج المحلي الإجمالي، في حين حدد المعدل المقبول في دول مجلس التعاون بنسبة لا تزيد على 3% منه. جميع الميزانيات اعتباراً من عام 2014/2015 ولغاية ميزانيّة السّنة الجارية نظمت بعجز يفوق بكثير هذا المعدل، وهو لا يقتصر على السّنة التّقديرية فقط بل يشمل أيضاً الحسابات الختامية لجميع هذه الميزانيات.

يتمّ تمويل العجز بالدّرجة الأولى عن طريق السّحب من الاحتياطي العام،  الأمر الذي أدى إلى تآكله وإلى بروز أزمة مالية خطيرة.

هنا لابد من الإشارة إلى ملاحظتين؛

الملاحظة الأولى تتعلق بتداعيات العجز.

في السّياسات الماليّة المعاصرة عجز الميزانية ليس بالضرورة سمة سلبيّة، بل يتعيّن على الدّولة تحفيز النّشاط الاقتصادي عن طريق زيادة مصاريفها الاستثماريّة، خاصّة في فترة الرّكود الحاليّة النّاجمة عن جائحة كورونا. في هذه الحالة يسهم العجز المالي في تحسين المؤشّرات الاقتصاديّة ما ينعكس إيجابياً على ماليّة الدّولة.

لكن ارتفاع العجز في ميزانية الكويت لا يتأتى من المصروفات الرأسمالية. فلا شك أن هذه المصروفات البالغة في الميزانية الحالية 3466 مليون دينار تحسنت مقارنة بالعام السابق، لكنها عادت إلى المستوى الذي كانت عليه قبل سنتين، وهي لا تمثل سوى 15% من النفقات الكلّية للدولة، وهذه نسبة ضئيلة لا يمكنها المساهمة في معالجة ريعية الاقتصاد. بالتالي فالعجز المالي في الكويت لم يسهم في تحسين الأداء الاقتصادي.

الملاحظة الثّانية ترتبط بتأثير ميزان المدفوعات على الاحتياطي العام.

 حتّى يمكن تغطية العجز المالي دون اللّجوء إلى القروض الدّاخلية والخارجيّة يتعيّن أن لا يتجه الاحتياطي العام نحو التّناقص المستمر. ويعتمد مستوى هذا الاحتياطي اعتماداً كليا على حالة ميزان المدفوعات.

حسب آخر الإحصاءات الصّادرة عن بنك الكويت المركزي، انتقل فائض الحساب الجاري من 4154 مليون دينار في الرّبع الثّاني من العام المنصرم إلى 2475 مليون دينار في الرّبع الثالث منه، أي هبط  بنسبة 40.4%، وهذه نسبة عالية خلال فترة قصيرة تؤثر بشدة على ميزان المدفوعات وبالتالي على الاحتياطي العام، وهو ما حصل رغم ارتفاع الصادرات النفطية.

يأتي هذا التّدهور من تزايد الواردات السّلعية وتحويلات العمّال الأجانب ومن هبوط أرباح الاستثمارات الخارجيّة لاسيّما المباشرة منها. بالنتيجة النهائية، انخفض فائض ميزان المدفوعات خلال هذه الفترة من 1782 مليون دينار إلى 680 مليون دينار، وهبوطه يعني بالضرورة انخفاض حجم الاحتياطي العام، الأمر الذي يتطلّب البحث عن مصادر أخرى لتمويل العجز المالي كالقروض.

وينجم العجز عن عدة أسباب منها ضعف حصيلة الضّرائب وتزايد الاعتمادات المخصّصة لرواتب الموظّفين ودعم أسعار السّلع والخدمات. فحصيلة الضرائب بما فيها الرّسوم الجمركية تمثّل أقل من 4% من الإيرادات العامّة، وبالتّالي فإنّ مساهمتها في تمويل الإنفاق العام ضئيلة، إذا بات من اللّازم إصلاح النّظام الضّريبي كي يسهم بفاعليّة في تمويل العجز المالي، رغم أن هذا الإصلاح قد يصطدم بعدة عقبات سياسية.

أما نفقات المرتّبات والدّعم، فتمثل في الميزانيّة الحاليّة حوالي ثلاثة أرباع النّفقات الكليّة. ووفق السّياسة الماليّة المتّبعة يصعب تقليص هذه النّفقات، الأمر الذّي يدخل السّياسة المالية في مأزق.

أيضا، يعود العجز المالي إلى الاعتماد على مصدر أساسي وحيد وهو النّفط.

دور العوائد النفطية

في العام الجاري، قدّرت هذه العوائد بمبلغ 9127 مليون دينار أي 83.5% من مجموع إيرادات الدّولة. وتشير هذه النّسبة إلى ريعيّة الاقتصاد الكويتي الذي يعتمد اعتماداً أساسياً على هذه العوائد. وبالتّالي فأن أي انخفاض فيها يقود إلى خلق مشاكل ماليّة قد تفضي إلى أزمة خطيرة، وهذا ما حدث في العام المنصرم نتيجة وباء كورونا الذي أدّى إلى انهيار شديد لأسعار الخام في السّوق العالميّة وبالتّالي إلى ارتفاع غير مسبوق للعجز المالي.

كما تظهر خطورة الأزمة في جانب آخر يرتبط بعلاقة العوائد النّفطية بالإنفاق العام. فقبل عشر سنوات كان حجم هذه العوائد (28569 مليون دينار) يعادل سبعة أضعاف الاعتمادات المخصصة للمرتبات (4103 مليون دينار). وكانت الإيرادات النّفطية لأربعة أيام كافية لتغطية مرتّبات الموظّفين الشّهرية. أما في الوقت الحاضر، فقد أصبح حجم الرّواتب (12593 مليون دينار) أعلى بكثير من العوائد النّفطية (9127 مليون دينار)، وبات من اللّازم رصد إيرادات نفطيّة لمدة 42 يوماً لتغطية المرتّبات الشّهرية للموظّفين. لكن الإيرادات النفطية في الميزانية تعتمد اعتماداً أساسياً على كيفية تقدير سعر برميل النفط، وقد جرت العادة في الكويت على تقدير سعرالبرميل بأقل من الّسعرالفعلي.

من خصوصيات العوائد النّفطية الكويتية المذكورة في الميزانية، كونها إيرادات صافية، أي أنها تعادل الإيرادات الإجمالية التي تحصل عليها الدّولة من تصدير الخام بعد طرح نفقات الإنتاج.

يتناقض هذا التّنظيم مع أبسط القواعد التي تحكم الميزانيات في مختلف دول العالم خاصة قاعدة العموميّة التي تستوجب وضع الإيرادات الإجمالية وليس الصّافية، أي لا يجوز بحال من الأحوال خصم التّكلفة للوصول إلى الإيراد الصافي.

ففي العام الجاري قدر برميل النفط بمبلغ 45 دولارا، وبلغت الصادرات 2.4 مليون ب/ي. وعلى هذا الأساس فأن الإيرادات الإجمالية التي يتعيّن إدراجها ضمن إيرادات الميزانية هي (45 دولاراً للبرميل × 2.4 مليون ب/ي × 365 يوماً ÷ 3.32 دولاراً للدينار = 11873 مليون دينار). في حين أن المبلغ المذكور في الميزانية هو 9127 مليون دينار، والفرق بين المبلغين يمثل إذن تكلفة إنتاج الخام.

أضف إلى ذلك أن هذه المقاصّة التّي تسهم في إضعاف الشّفافية تطرح تساؤلات ذات علاقة وطيدة بالفساد المالي. فعلى سبيل المثال، إذا طبّقنا المعادلة أعلاه لحساب تكلفة الإنتاج للعام الماضي فسوف نصل إلى مبلغ قدره 2617 مليون دينار، مقابل تكلفة بقيمة 2746 مليون دينار في العام الجاري. بمعنى أنّ تكلفة الإنتاج في العام الحالي أعلى من العام المنصرم، في حين أن حجم الإنتاج للعام الجاري 2.4 مليون ب/ي وللعام الماضي 2.5 مليون ب/ي.

أخيرا، عدم احترام قاعدة العمومية في تحضير الميزانية العامة ليست الصورة الوحيدة لسوء إدارة الشأن المالي في الكويت ومن هنا، يتعيّن دراسة هذه المسألة بجدية من قبل أجهزة الدولة المعنية، خاصة وزارة المالية المكلفة مباشرة بإعداد الميزانية واللجنة المالية البرلمانية وديوان المحاسبة.

تزايد الفساد المالي

تشير التّجارب في البلدان العربية إلى الدّور المهمّ الذي يلعبه الفساد في تدهور الأوضاع الماليّة وصعوبة المعالجة عندما يصل الفساد إلى درجة متقدمة. فتقدير مدى تفشي هذه الآفة الاقتصاديّة والاجتماعيّة يخضع لمعايير محددة أهمّها الرّشوة، والواسطة، واستخدام الأموال العامّة لأغراض غير مشروعة، واستغلال المناصب الإدارية لأهداف شخصية.

تطبق منظّمة الشّفافية الدولية هذه المعايير على كل دولة وتضع نتائجها في تقارير سنوية تتضمن ترتيب الدول في ميدان الفساد المالي. وبالعودة إلى هذه التقارير يتضح بأن الكويت كانت تحتل المرتبة العالمية رقم 35 في عام 2003. ثم تدهور الحال تدريجياً حتى وصل الترتيب في عام 2020 إلى المرتبة 78، وهو تطور خطير يدل على تفشي الفساد. أصبحت الكويت إذا، الدولة الأكثر فساداً في بلدان مجلس التعاون الخليجي، لكنها لم تصل إلى الحالة التي وصلت إليها دول أخرى في المنطقة والتّي تعتبر من أكثر البلدان فساداً في العالم كإيران (المرتبة 149) والعراق (المرتبة 160) وسوريا المرتبة (179). 

قدرة مالية هائلة

تملك الدولة صندوقاً سيادياً ضخماً يحتل المرتبة الخامسة عالميا، ويرى البعض من أصحاب القرار والإعلام أنّ الكويت لا تعاني من أزمة مالية حقيقية لأن أصول هذا الصندوق تكفي لتمويل العجز المالي لعدّة سنوات.

هذا الرأي صحيح من جانب وغير دقيق من جانب آخر، صحيح لأن أصول الصّندوق السّيادي يجب حسابها ضمن الاحتياطي العام للبنك المركزي، وعلى هذا الأساس فأن أصوله تكفي لتغطية العجز لمدة 13 سنة (حاصل قسمة الأصول على حجم العجز للعام الجاري). لكنه غير دقيق لأن القوانين الكويتيّة المعمول بها حالياً لا تعتبر هذه الأصول ضمن الاحتياطي العام بل منفصلة تماماً عنه. فعلى خلاف صناديق الخليج لا يهتم صندوق الأجيال القادمة الكويتي بالمساهمة في تحسين الوضع المالي، بل أدى في السنوات السابقة إلى تزايد العجز. فالأزمة الماليّة تبدأ عندما لا تكفي الإيرادات لتغطية النّفقات، وهذا ما يحدث في الكويت حتى وإن أضفنا إلى إيراداتها جميع أرباح صندوقها السّيادي.

أما السحب من أصول هذا الصندوق الذي تحاول الحكومة تحقيقه فيعني عدم قدرة الدولة على تغطية العجز حتى وإن استدانت.

ختاما، لا يمكن دراسة السياسة المالية للكويت ومناقشة الأزمة التي تمر بها البلاد وبالتالي لا يمكن اقتراح الحلول المناسبة لمعالجتها ووضع برنامج إصلاحي فاعل إلا بعد الأخذ بعين الاعتبار هذه السّمات الأساسيّة وتحليل تفاعلاتها.

منشورات أخرى للكاتب