برنامج إيران الصاروخي: التفاوض الممنوع
بعد أن دخل الإتفاق النووي الإيراني لعام 2015، أو ما يسمى رسميًا بـ “خطة العمل الشاملة المشتركة” حيز التنفيذ في عام 2016، قام الحرس الثوري الإيراني على الفور باختبار صواريخ باليستية بعيدة المدى، والتي يعتبرها الجزء الأهم من منظومة الدفاع الإيرانية، تأكيدًا منه على رفض وضع هذه المنظومة تحت المراقبة الدولية من خلال الإتفاق الذي يحد ضمن شروطه من الأنشطة النووية الإيرانية.
قبل عامين وبالتحديد في 2014، حاولت الولايات المتحدة طرح البرنامج الصاروخي الإيراني للتفاوض، لكن على الفور، رفض فريق التفاوض النووي الايراني مجرد الاقتراح، موضحًا ومؤكدًا، أن القضايا الدفاعية التي من بينها البرنامج الصاروخي الباليستي ليست قابلة للتفاوض، وأنها ضمن الخطوط الحمراء لطهران. وهو ما حدث فعلًا، إذ اقتصر الاتفاق النووي على الانشطة النووية الإيرانية فيما تناول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 البرنامج الصاروخي الإيراني بشكل هامشي، مؤكدًا أن لا حظر على طهران في تطوير الأسلحة الباليستية، وأن الحظر المنصوص عليه هو فقط اجراء التجارب على صواريخ قابلة لحمل رؤوس نووية.
بالعودة إلى عملية اختبار الحرس الثوري للصواريخ الباليستية، عقب دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، عارض سياسيون إيرانيون الاختبار. وقتئذ؛، أعلن الرئيس الإيراني الراحل، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رفضه قائلا “عالم الغد هو عالم الخطاب وليس الصواريخ”، في محاولة منه لموازنة العلاقة بين بلاده والولايات المتحدة، إلا أن الرد جاء سريعًا من قبل المرشد الأعلى للبلاد، آية الله علي خامنئي، الذي وصف هذا العالم بالأدغال، مضيفًا: “إن لم تمتلك ايران قدرات دفاعية، ستصبح عرضة لتهديد كافة الدول”.
يلخص رد خامنئي على دعوة رفسنجاني عقيدة صناع القرار الإيرانيين فيما يخص التمسك بعدم التفاوض على البرنامج الصاروخي للبلاد، ووضعه من ضمن الخطوط الحمراء.
الرئيس ترامب والمعالجة الفاشلة
إلى جانب الانتقادات المتتالية من رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب للإتفاق النووي الإيراني التي تكللت بانسحابه من الإتفاقية، كان الرئيس ترامب يستهدف البرنامج الصاروخي وسلوك إيران الإقليمي المتمثل في دعمها لحلفائها في الشرق الأوسط بشكل خاص. حاولت إدارة ترامب تخريب الصفقة النووية بالكامل خلال السنوات الأربع الماضية، لجر طهران مرة ثانية إلى طاولة المفاوضات، وإبرام صفقة جديدة تمنعها من امتلاك سلاح نووي وتحد من تطويرها لبرنامج الصواريخ الباليستية، وتضمن قطع امداداتها عن وكلائها في المنطقة، لكن كل مساعي إدارته لإبطال الصفقة بائت بالفشل.
ومع وصول الرئيس الأمريكي المنتخب، جو بايدن، إلى البيت الابيض في العشرين من الشهر الجاري، يعود الإتفاق النووي الإيراني إلى الواجهة من جديد بعد إعلان الرئيس بايدن العودة إليه بشرط أن تلتزم طهران بكافة بنود الإتفاق، على أن تكون هذه العودة نقطة انطلاق لمفاوضات جديدة، تتضمن البرنامج الصاروخي وسلوك إيران الاقليمي.
لو سلمنا جدلًا موافقة إيران العودة المشروطة التي تحدث عنها بايدن، فإن أي محاولة تفاوض على برنامجها الصاروخي، ستقابل بالرفض التام من قبل صناع القرار الإيرانيين، وينبغي على إدارة بايدن الجديدة، أن تدرك الدوافع الرئيسية لهذا الرفض ومحاولة معالجتها عوض الاستمرار في أخطاء الإدارة السابقة.
لماذا تصر طهران على البرنامج الصاروخي؟
كثيرا ما إتخذت الولايات المتحدة والدول الأوروبية موقفًا مشتركًا تجاه إيران، كإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أعوام ثلاثة، ضرورة تقييد برنامج إيران الصاروخي عن طريق المفاوضات المباشرة أو عبر فرض العقوبات. يمكن القول أن هذه التصريحات تفتقر إلى فهم السياسية الإيرانية ومراعاة السياقات الدفاعية والأمنية للجمهورية الإسلامية التي نشأت تحديدًا في أعقاب الحرب العراقية الإيرانية.
بعد الثورة الإيرانية عام 1979، شن العراق بقيادة الرئيس الأسبق صدام حسين، حربًا وحشية استمرت لثماني سنوات ضد إيران. ولا يغيب عن القادة الإيرانيون تلك المشاهد حين أمطرت قوات صدام مدنهم الكبرى بنحو 500 صاروخ باليستي بجانب إستخدام نظام صدام حسين الأسلحة الكيماوية في معركة “حرب المدن” وعجز طهران حينها عن مواجهة الهجوم العراقي لإفتقارهم إلى سلاح جوي متقدم، في وقت كانت دول الغرب تفرض على إيران العقوبات.
تصر إيران يومًا على تطوير الصواريخ الباليستية محليًا حتى أصبحت اليوم تستحوذ على أكبر ترسانة صاروخية متنوعة فى الشرق الأوسط، في سباق تسلح ظاهر بين طهران ودول الخليج العربية المُنافسة لها، يضاف لذلك شعور طهران باختراق أمنها الإقليمي بعد أن هرعت كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل التي تعتبر طرهان العدو الأول في المنطقة.
المقربون من طهران يؤكدون أن القوى العالمية الكبرى تتناسى ما عانته إيران في الثمانينيات، وتهمش الأسباب التي جعلت القادة الإيرانيين يرفضون التفاوض أو التخلي عن قوة الردع الخاصة ببلادهم.
دعم الوكلاء
تاريخيًا، وقفت إيران في وجه الغزو الروسي والبريطاني الذي أفقدها الكثير من أراضيها، وكذلك في مواجهة العراق في التاريخ القريب. يضاف إلى ذلك مخاطر مرتقبة على الحدود مع دول خصبة بالصراعات كأفغانستان وباكستان والعراق، وتهديد الجماعات الإرهابية كتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وتمرد الإنفصالين داخل الاراضي الإيرانية، كالأكراد والبلوش.
وسط كل هذه المخاطر وحملات الشيطنة التي تشنها بعض الدول الخليجية المنافسة، ونبذ الغرب لها، تجد إيران نفسها في حاجة لحلفاء يدافعون عنها ويرجحون موازين القوى لصالحها. تستغل إيران كونها الدولة الشيعية الأكبر في المنطقة لتؤسس تحالفات “طائفية” عابرة للحدود، أبرزها تشكيل حزب الله اللبناني والفصائل المسلحة العراقية، مدًا لنفوذها ولضمان عدم وصول التنظيمات الارهابية الى أراضيها ولمواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ كما تدعي.
ما يجب على بايدن معرفته
ينظر الإيرانيون، على إختلاف مواقعهم، إلى أن هدف السياسات الأمريكية، مهما تنوعت وتبدلت، هو الإطاحة بالنظام الإيراني، الأمر الذي أعلنت عنه إدارة الرئيس ترامب بشكل مباشر في أكثر من مناسبة. هذه السياسات المتراكمة خلقت حاجزًا من الشك وعدم الثقة بين إيران وواشنطن، ودفعت الإيرانيين لتحميل الإدارة الأمريكية الحالية مسؤولية ما يعانونه من تدهور إقتصادي بسبب الحصار الذي فرضته وشددته هذه الإدارة على بلادهم في السنوات الأربعة الأخيرة.
ينبغي على إدارة الرئيس بايدن، إن كانت جدية في نيتها بالعودة إلى الإتفاق النووي، أن تعيد النظر في حسابات الماضي، وأن تتعمق في فهم سياسات إيران ومخاوفها، وأن تعمل على كسب ثقة الإيرانيين. قبالة ذلك، على إيران ذاتها أن تكون مستعدة لتصحيح مسار سياساتها الداخلية والخارجية، خصوصًا ما يتعلق بكبح جماح نفوذها الممتد في المنطقة الذي ولئن كان يحقق لها مكاسب آنية إلا أنه، على المدى الطويل، يجرها جرًا إلى صورة الدولة “المنبوذة” و”المتوحشة” التي تمثل خطرًا على جميع دول المنطقة.