المعارضة البحرينية المتأرجحة: بين “المصالحة” و”الممانعة”

في ظل احجام القيادتين الدينية والسياسية عن إعلان موقف واضح وحاسم حول خياراتها السياسية الراهنة في البحرين، تتأرجح مخرجات منصات جمعية الوفاق الوطني الإسلامية (المنحلة) – كبرى جمعيات المعارضة – الإعلامية ما بين مسارين اثنين؛ التفاعلُ الإيجابي مع المتغيرات الجديدة التي أقدمت عليها مؤسسة الحكم في البحرين منذ منتصف 2019 من خلال تفعيل آليات “العفو الملكي” و”العقوبات البديلة” التي استفاد منها مئات المعتقلين السياسيين حتى الآن، أو التماهي والاصطفاف الكامل في لعبة المحاور الإقليمية باعتبار الوفاق وشارعها الشيعي في البحرين جزءًا لا يتجزء من “محور المقاومة/الممانعة” الذي تترأسه طهران.

المسارات المتضاربة

تعدّ اشادة المنصات الإعلامية لجمعية الوفاق بالسياسات الحكومية في مواجهة تفشي وباء COVID19 ومطالبتها شارع الوفاق بالمشاركة الفاعلة في الجهد الحكومي الذي يقوده ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، كذلك الإشادة بقرارات (العفو الملكي) وتفعيل (قانون العقوبات البديلة) على مئات المعتقلين، تغييرًا جوهريًا يستجيبُ لدعوات مجموعة لا يستهان بها من قيادات المعارضة في الداخل التي باتت نتائج مراجعتها للسنوات التسع الماضية منذ اندلاع الاحتجاجات في البلاد فبراير 2011، تميل، وبوضوح، إلى ضرورة الإنخراط، ودون تردد، في مسار تصالحي تدريجي مع الدولة. ويؤمن هؤلاء، بأن الفرصة في خضم الجهد الوطني في مواجهة تفشي الوباء، مؤاتيةٌ للبناء والمراهنة على هذا المسار.

قبالة ذلك، لا مناص عن اغفال وجود ما يمكنُ اعتبارهُ خطًا موازيًا لدى العدد الأكبر من قيادات المعارضة في الخارج، سواءًا داخل جميعة الوفاق أو خارجها، تميلُ هذه القيادات نحو المزيد من التشبيك والاصطفاف والإرتباط مع طهران باعتبارها الحليف الحقيقي والأخير للمعارضة في البحرين. يتضحُ هذا المسار بشكل كبير من خلال ربط بعض قيادات المعارضة مواقف مناصرة القضية الفلسطينية بوصفها جزءًا من الجهد الإعلامي لتيار [المقاومة] عبر المشاركة في فعالياته وتأثيت خطاب المعارضة البحرينية حول القضية الفلسطينية بشعارات تيار المقاومة وأدبياته.

لهذه المسارات المتضاربة وغيرها يبدو التنبؤ بخيارات المعارضة الشيعية في البحرين خلال الأشهر المقبلة محلّ شك، ما بين نجاح قيادات الداخل في فرض ايقاع جديد على مسار المعارضة وخطابها السياسي ومنصاتها الاعلامية، وهو ما قد يصل إلى حدوث انشقاقات داخلية وازنة من جهة، وبين أن يكون لقيادات المعارضة في الخارج الكلمةُ الفصل في [أقلمة الملف البحريني] كامًلا من جهة أخرى. لا مناص هنا أيضًا من الإنتباه إلى أن ميزان القوة بين المسارين يميلُ إلى المعارضة في الخارج التي تجد القدرة على التعبير عن نفسها واستثمار كافة الإمكانيات المتاحة لتبرير خياراتها وقراءتها مستفيدة من بقاء قيادات المعارضة في الداخل في السجن أو مرتهنين لبيئة الداخل البحريني المُغلقة سياسيًا واجتماعيًا بشكل كامل.    

الشيخ عيسى قاسم وفضاءات التأويل

جاءت مشاركة الأب الروحي للمعارضة البحرينية الشيخ عيسى قاسم – المقيم في مدينة قم الإيرانية – في فعالية الكترونية أواخر مايو/أيار الماضي بمناسبة يوم القدس العالمي [فعالية سنوية تقام في يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان] تحت عنوان: “قادة محور المقاومة” إلى جانب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله والسيد عبدالملك الحوثي قائد حركة أنصار الله وقادة عرب آخرين، لتُعبر عن انحياز استراتيجي إلى “تيار المقاومة”، غيرَ أن خطاب الشيخ قاسم يؤكد عبراستثمار قدراتِه الخطابية والبلاغية الابقاء على مساحة مفتوحة للتأويل وتعدد الأفهام، ما بين أن تكون هذه المشاركة تختصُ بمساندة القضية الفلسطينية ومجاملة البلد المضيف وحسب، أو أنها ذات دلالات سياسية آخرى. بمعنى أنها لغة [لا تبتعد عن طهران ولا تلتصق بها] في الوقت ذاته.

يمكن بوضوحٍ مراقبةُ مفاعيل هذا التأويلات وسوق الأفهام المفتوحة من خلال تتبع منصات المعارضة الإعلامية وشاشتها التلفزيونية، واختلاف السياقات التي يتم توظيف خطاب الشيخ عيسى قاسم فيها. 

وكان الشيخ عيسى قاسم قد غادر البحرين [يوليو/تموز 2018] إلى المملكة المتحدة للعلاج، ومروراً بالعراق استقر في مدينة قم الإيرانية كمقر نهائي له. وتعرض الشيخ قاسم في البحرين إلى ما يشبه الإقامة الجبرية في منزله واسقطت السلطات جنسيته رغم أنه كان أحد الذين تم انتخابهم لوضع دستور للبلاد بعد الإستقلال. 

وفيما تؤكد البيانات والمواقف الأخيرة للشيخ عيسى قاسم على العناوين الرئيسية للمعارضة المعتدلة في البحرين، وفي مقدمتها الخيار [السلمي]، يحاول الشيخ القيام بنشاطاته بشكل منفرد دون أن يتورط في التشارك أو التجاور مع خطابات وشخصيات مؤسسات أخرى. تجدر الإشارة هنا إلى جهاز الحرس الثوري المتورط في دعم وتمويل وتسليح وتدريب جماعات متشددة من المعارضة وفي مقدمتها تنظيم [سرايا الأشتر] المصنف باعتباره تنظيماً ارهابياً [يوليو 2018].

داخليًا، لا يزال موقف الرجل الثاني في الطائفة الشيعية السيد عبدالله الغريفي ضبابيًا بعد فشل محاولته كسر حاجز التواصل مع مؤسسة الحكم من بوابة رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة. 

يمثل خطاب السيد عبدالله الغريفي أكثر خطابات المعارضة تقاربًا مع الدولة لكن لا يبدو أن للسيد الغريفي رغبة جادة في تأسيس مسار سياسي يتجاوز مرجعية الشيخ عيسى قاسم الممتدة على غالبية المكون الشيعي في البلاد. يضاف لذلك، أن قيادات المعارضة في الداخل مسكونة بالخوف والتردد ولا تبدو مهتمة بمأسسة هذا الخطاب أو تحويله إلى مسار سياسي حقيقي وفاعل على الأرض. قبالة ذلك، تبدو الدولة حريصة، وبشكل قاطع، على أن لا تتم ترجمة الإفراجات المتكررة عن السجناء منذ العام الماضي وحتى اليوم إلى أي استحقاقات سياسية للمعارضة، لا داخل البحرين أو خارجها.

المعارضة ثقيلة الوزن 

في المحصلة، تواجه المعارضة البحرينية تحديات كبرى ينبغي الإلتفات لها ومعالجاتها، في مقدمتها معالجة حالة “التشظي” التي تعصف بها. خصوصًا فيما يتعلق بالجماعات التي انزاحت بعيدًا وتورطت في أعمال العنف. ولئن كانت البحرين لم تشهد منذ عملية تفجير أنبوب النفط التابع لشركة نفط البحرين [بابكو] في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 أي أعمال تخريبية إلا أن هذه الجماعات لا تزال تؤثر سلبًا على المعارضة البحرينية، داخليًا وخارجيًا، كما أن نشاط هذه المجموعات اعلاميًا من خلال منصاتها الإلكترونية يجعل منها عامل تأزيم مستمر.

تبدو المعارضة، أكثر من أي وقت مضى، بين عدة مسارات، تضارب المسارات هذا لا يمكن ملاحظته بين مختلف تنظيمات المعارضة السياسية وحسب، بل وداخل [التنظيم الواحد] ذاته ايضا. وهو ما يٌلزم المعارضة بان تقبل  بخوض نقاش وحوار داخلي يستطيع الوصول بها إلى مشتركات وأجندة عمل واقعية ومفهومة، تستجيب لتعقيدات الموقف الراهن وتبلور خياراتها المستقبلية.    

يحتاج الوفاقيون، على وجه الخصوص، إلى الاقتناع بضرورة أن يكونوا، سياسيًا ومؤسساتيًا، أكثر رشاقة وسرعة على مواكبة الأحداث والمتغيرات المحلية والإقليمية. وبمعنىً أدق؛ يحتاج القائمون عليها في الخارج إلى الإنتقال من فضاء إدارة الموقف السياسي [بالوكالة] ومبدأ [تسيير الأعمال] منذ اعتقال الأمين العام الشيخ علي سلمان [ديسمبر/ كانون الأول 2014] إلى فضاء الفاعلية السياسية والقدرة اتخاذ القرارات بجرأة لا خوف فيها واتزان لا تسرع فيه. 

منشورات أخرى للكاتب