أزمة الإيرادات النفطية الإيرانية

رغم التطور الصناعي الذي حققته إيران لا تزال العوائد النفطية تلعب دوراً بارزاً في ماليتها الداخلية والخارجية. وبالتالي تؤثر بشدة على جميع الأنشطة الاقتصادية. أدت العقوبات الأمريكية إلى هبوط حاد لهذه العوائد من جهة وإلى بيع النفط عن طريق التهريب من جهة أخرى. قاد هذا الوضع المقترن بوباء كورونا إلى أزمة مالية حقيقية وإلى تدهور مستوى معيشة المواطنين.

على إثر خروجها من الاتفاق النووي مع إيران قررت الإدارة الأمريكية فرض عقوبات اقتصادية على طهران تتناول عدة ميادين. أهمها وأخطرها تلك التي تتناول الصادرات النفطية والمبادلات المالية الخارجية.

ولا يأتي التأثير الفعلي للعقوبات النفطية من امتناع واشنطن عن استيراد النفط الإيراني. إذ تتسم العلاقات التجارية بين البلدين بالضعف الشديد منذ عقود. بل يتعلق هذا التأثير بنجاح الولايات المتحدة في إجبار الشركات التابعة للدول الأخرى بعدم شراء نفط إيران وعدم التعامل معها بالدولار.

لكن واشنطن أبدت استعدادها للتفاوض بهدف إلغاء هذه العقوبات وفق شروط في مقدمتها ما يلي: التوقف عن تخصيب اليورانيوم. عدم تطوير المنظومة الصاروخية. الكف عن التدخل في الشأن الداخلي لدول منطقة الخليج. الامتناع عن تمويل جماعات وأحزاب في المنطقة. أما إيران فقد قررت رفض هذه الشروط. مما أدى إلى كارثة اقتصادية واجتماعية تتفاقم باستمرار.

في منتصف العام المنصرم 2019 حدث تطور مهم يخص تطبيق العقوبات الأمريكية. فعندما فرضت هذه العقوبات في عام 2018 منحت واشنطن استثناءات لثمان دول تعتمد وارداتها على النفط الإيراني (اليابان والصين والهند وتركيا وتايوان وكوريا الجنوبية وإيطاليا واليونان). الغاية من هذا الإجراء منح فرصة لهذه الدول للاتفاق مع منتجين آخرين بهدف استبدال النفط الإيراني. انتهت هذه الاستثناءات في بداية مايو/أيار 2019. وبالتالي أصبحت هذه الدول كغيرها من البلدان خاضعة لعقوبات أمريكية انتقامية إذا استوردت النفط الإيراني. استجابت شركات هذه الدول للإرادة الأمريكية. علماُ بأن الصين وتركيا تعتبر العقوبات غير قانونية. وهكذا بات النفط الإيراني يصدر بصورة سرية. الأمر الذي يفسر هبوط المبيعات في الوقت الحاضر.

كان الإيرانيون يعتقدون بأن العقوبات الأمريكية سوف تفشل لعدة أسباب في مقدمتها حاجة السوق للنفط الإيراني. والواقع تدل مؤشرات عام 2019 وبداية عام 2020 على أن الحفاظ على أسعار الخام يتطلب تقليص الإنتاج. قرارات أوبك ومواقف البلدان الأخرى المنتجة للخام تصب بهذا الاتجاه.

أفضى انتشار وباء كورونا إلى تخمة نفطية هائلة وخزين نفطي لدى الدول المستهلكة خاصة الصناعية. السوق لا يحتاج إذن للنفط الإيراني. وبالتالي فأن إصرار طهران على موقفها المعارض للرضوخ للشروط الأمريكية لا يضر إلا بمصالح الشعب الإيراني.

هبوط الإيرادات النفطية

في العام المنصرم كان الإيرانيون يأملون الحصول على إيرادات نفطية قدرها 59 مليار دولار. ولكن هذا المبلغ يعتمد على صادرات قدرها ثلاثة ملايين ب/ي في أحوال خالية تماماً من العقوبات. ثم هبطت التقديرات وأصبحت الدولة تتوقع الحصول على إيرادات لا تزيد على نصف المبلغ المذكور وذلك على أساس تصدير 1.5 مليون ب/ي بسعر 54 دولاراً للبرميل. أما القول بأن إيران لا تصدر سوى 0.8 مليون ب/ ي فهو (حسب رأي المسؤولين) مجرد شائعة لا صحة لها. ويقولون بأن قرار أوبك + بتقليص الإنتاج خطوة جيدة لثلاثة أسباب: السبب الأول يمثل القرار انتصاراً على الولايات المتحدة التي تسعى إلى العكس تماما. فشلت إذن واشنطن في التأثير على المنتجين. والسبب الثاني سيقود هذا التخفيض إلى ارتفاع أسعار الخام لتصل إلى مستويات أعلى من السعر المذكور أعلاه. وهكذا تستطيع إيران تعويض خسارتها الناجمة عن هبوط كمية الصادرات. والسبب الثالث يؤكد القرار على أن إيران غير معنية بالتخفيض. وبالتالي يمكنها زيادة الكمية متى ما سنحت الفرصة.

لكن الأمور لا تجري بهذه الطريقة على الصعيد العملي. فالولايات المتحدة باتت تطالب أوبك بخفض الإنتاج لإنقاذ إنتاجها من النفط الصخري. كما أن الأسعار الحالية متدهورة إلى درجة لا يمكنها تعويض الخسارة.

أدى انتهاء الاستثناءات من العقوبات إلى تغيير المعادلة. اصبح بيع النفط الإيراني بالتهريب يقود إلى النتائج الثلاث التالية:

النتيجة الأولى ضرورة الاعتماد على تجار مختصين بالالتفاف على العقوبات الأمريكية. بطبيعة الحال يطلب هؤلاء عمولة عالية تؤثر على الأسعار وبالتالي على الإيرادات. والنتيجة الثانية عندما تشتري شركة نفطاً إيرانياً مهرباً تتحمل مخاطر جسيمة ترتبط بمستقبل تعاملها مع المؤسسات الأمريكية. وبالتالي لا توافق على الشراء إلا بأسعار مغرية. والنتيجة الثالثة لا تمر العمليات المتعلقة بالتهريب عبر الطريق المصرفي العادي. بل تجري بواسطة الدفع النقدي. لذلك يتعين على إيران أن تجد مصارف خارجية لتبييض هذه الأموال. وهذا يتطلب بعض النفقات الإضافية.

أدى تفشي جائحة كورونا إلى تدهور هائل لأسعار الخام فتضررت جميع البلدان النفطية بما فيها إيران. ففي شهر مايو/أيار بلغ سعر برنت 29 دولار للبرميل. لكن النفط الإيراني لا يعادل مزيج برنت من حيث درجة الكثافة والمحتوى الكبريتي. وبالتالي فهو أرخص من هذا المزيج. كما أدت العقوبات الأمريكية إلى ارتفاع كلفة البيع. وعلى هذا الأساس لا يتجاوز حالياً سعر النفط الإيراني 15 دولاراً للبرميل.

أما من حيث كمية الصادرات فأن صعوبة تقديرها اكبر لسببين متعارضين: أولهما فاعلية القرارات الأمريكية التي تعاقب أية شركة تتعامل مع النفط الإيراني. وثانيهما التجربة الغنية لإيران في التعامل مع العقوبات من جهة ووجود عوامل مساعدة لإيران في تهريب نفطها من جهة أخرى.

في التقديرات الرسمية الحالية تبلغ الصادرات 1.5 مليون ب/ي. وأن السيناريو الأكثر تشاؤماً للإيرانيين هو تصدير مليون ب/ي. في حين تشير التقارير إلى أن البلد لم يصدر سوى 400 ألف ب/ي في نوفمبر 2019 أي نصف الحجم الذي تعتبره إيران شائعة.

انطلاقاً من هذه المعطيات وعلى افتراض أن السعر النهائي للبرميل الإيراني 15 دولاراً وان حجم الصادرات يبلغ مليون ب/ي فأن الإيرادات النفطية ستكون 5.5 مليار دولار. ولا يعادل هذا المبلغ سوى عُشر العوائد التي كانت تحصل عليها الدولة قبل العقوبات. يبين هذا الوضع مدى حجم الأزمة على الأقل من الناحية المالية.

وهبوط الصادرات النفطية لا يعني مجرد انخفاض الإيرادات النفطية. بل يؤثر تأثيراً بالغاً على جميع المؤشرات الاقتصادية. فمن جهة تضطر الدولة إلى تقليص وارداتها من السلع الاستهلاكية والإنتاجية. الأمر الذي يمس مباشرة مستوى المعيشة والصناعات التحويلية. ومن جهة أخرى ينخفض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي وما يترتب عليه من تردي المقدرة المالية للدولة. كما يهبط سعر صرف الريال فترتفع الأسعار. أضف إلى ذلك تراجع قدرة الدولة على التوظيف فتزداد البطالة ويتفاقم الفقر خاصة إذا علمنا بأن القطاع العام في إيران يستحوذ على ثلاثة أرباع العمليات الاقتصادية للبلد.

سبل التهريب

تستخدم إيران طرقاً عديدة لتهريب نفطها. وهنالك لجنة رسمية مختصة بهذا الشأن. وذكر مسؤول كبير بأن بلده تعتمد على ستة سبل لتصدير النفط لا تستطيع الأجهزة الأمريكية رصدها. ويؤكد مراقبون أن التكنولوجيا التي تخفي إفراغ وتحميل النفط من ناقلة إيرانية إلى ناقلة أجنبية كفيلة بالتشويش على المراقبة الأمريكية. ولا يمكن الرصد إلا بكلفة عالية.

لا تخفي إيران إذن عمليات التهريب بل بالعكس تماما. فهي تعتبرها من علامات نصرها على واشنطن. لكن السرية ترتبط بأمرين: أولهما حجم التهريب مما يفسر وجود تقديرات عديدة ومتناقضة وتتأثر بعوامل سياسية. والأمر الثاني طرق التهريب. ولكن المعلومات تشير إلى نقل النفط الإيراني إلى شط العرب أو إلى الإمارات لشحنه إلى مناطق أخرى. كما يلعب بحر قزوين دوراً في التهريب. أضف إلى ذلك وجود خزانات للنفط الإيراني في سوريا ولبنان مخصصة للبيع للسماسرة.

وهنالك شركات خارجية مملوكة لإيرانيين مهمتها بيع النفط الإيراني إلى شركات آسيوية واستثمار الإيرادات في دول كماليزيا كي تحصل إيران على الأرباح. ويباع القسط الأكبر من النفط إلى الصين وتركيا بأسعار منخفضة.

ويلعب العراق دوراً بارزاً في مساعدة إيران للخروج من أزمتها الاقتصادية ويقدم لها عدة حلول:

من الناحية التجارية تسيطر إيران سيطرة مطلقة على التجارة الخارجية مع العراق. وتحتل المرتبة الأولى في صادراتها إلى العراق. ولم تتأثر هذه الصادرات بالعقوبات الأمريكية إلا بصورة جزئية ترتبط بالإمدادات الطاقية.

ولإيران استثمارات مباشرة مهمة في العقارات والسياحة الدينية في العراق. وتستخدم اليد العاملة الإيرانية بالدرجة الأولى. وسوف يزداد حجم هذه الاستثمارات نتيجة الاتفاقية العراقية الصينية المتعلقة بإعادة بناء البنية التحتية في العراق.

ويهرول العراق إلى تحسين الصادرات النفطية الإيرانية. إذ يسهم مساهمة فاعلة في تهريب النفط الإيراني إلى دول أخرى باعتباره نفط عراقي. وتتم بعض عمليات التفريغ والتحويل في المياه الداخلية للعراق كما ذكرنا.

كما يمكن لإيران استخدام العراق الخاضع لإرادتها بأسلوب آخر. وذلك على النحو التالي:

ينتج العراق 5.2 مليون ب/ي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول الاستهلاك المحلي وقدره 800 ألف ب/ي. والجزء الثاني الصادرات الرسمية وهي تلك التي تظهر في ميزانية الدولة وقدرها 3.9 مليون ب/ي بما فيها حصة كردستان البالغة 250 ألف ب/ي. والجزء الثالث التهريب. من الصعب تحديد حجمه نظراً لطبيعة العملية. لكن التقارير تشير إلى مبيعات غير رسمية بأسعار منخفضة من قبل حكومة كردستان قدرها 350 ألف ب/ي. ومبيعات غير رسمية من قبل المليشيات في جنوب العراق وقدرها 200 ألف ب/ي. عندئذ يكفي أن يقلص العراق استهلاك النفط المنتج محليا ليرفع صادراته. ويعوض النقص في الاستهلاك عن طريق استيراد النفط الإيراني الذي يمر بالعراق بسهولة. ويجد المسؤولون العراقيون حججا لذلك في مقدمتها عدم قدرة المصافي المحلية على تلبية الحاجات الأمر الذي يتطلب استيراد المنتجات النفطية لا سيما البنزين.

أضف إلى ذلك تهريب النفط الإيراني مع النفط المهرب من كردستان عبر الأنبوب الذي يصل إلى ميناء جيهان التركي.

العقوبات الأمريكية لا تقتصر كما رأينا على الصادرات النفطية بل تشمل أيضا التعامل مع إيران بالدولار. بمعنى أن الطرق المصرفية للعمليات التجارية باتت موصدة. لذلك وبغض النظر عن الدفع النقدي لم تعد إيران تستلم إيرادات نفطية بل تقايض النفط خاصة بالسلع الصينية.

أدت العقوبات النفطية الأمريكية إلى نتيجتين متزامنتين: هبوط الإيرادات النفطية وسرية التصدير. ولا يمكن لإيران تغيير هذا الوضع إلا بالتفاوض وفق الشروط الأمريكية.

منشورات أخرى للكاتب