كورونا: طوارئ في مالية السعودية

أدى وباء كورونا إلى تدهور أسعار النفط وارتفاع النفقات الصحية وتلك التي ترتبط بالدعم. الميزانية السعودية التي تعاني أساساً من عجز مزمن وكبير باتت في أزمة خطيرة.

في السادس من مارس/آذار المنصرم عُقد اجتماع لمجموعة أوبك+ لمناقشة حالة السوق بعد انخفاض الطلب على النفط جراء جائحة كورونا. دعت السعودية إلى ضرورة تخفيض الإنتاج ورفضت روسيا الاستمرار بهذا الاتجاه لأسباب ترتبط بماليتها. تمخض عن هذا الرفض تغيير جوهري وسريع في السياسة النفطية السعودية التي قررت زيادة العرض وتبعتها دول أخرى. وهكذا انتقل سعر البرميل من 50 دولاراً قبيل الاجتماع إلى 24 دولاراً حاليا.

تراهن السعودية على قدرتها المالية في تحمل أي انخفاض في الأسعار. في حين لا تملك روسيا مثل هذه القدرة. وبالمقابل تراهن روسيا على إمكاناتها الصناعية وعلى ضعف تبعيتها للإيرادات النفطية مقارنة بالسعودية.

الطرفان معاً وجدا دوافع أخرى، تقود الأسعار المتدهورة إلى التأثير سلبياً على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من عقوبات أمريكية صارمة أدت إلى تقليص الصادرات النفطية والتعاملات المالية الخارجية. وتؤدي الأسعار المنخفضة إلى عدم جدوى إنتاج النفط الصخري الأمريكي.

تعتمد السعودية اعتماداً أساسياً على العوائد النفطية التي تشكل ثلاثة أرباع إيراداتها العامة. انخفض سعر البرميل بمبلغ 26 دولارا. علماً بأن الدولار الواحد بهذا الاتجاه يعني خسارة سعودية قدرها ثلاثة مليارات دولار في السنة. ترى ما هو حجم الأزمة المالية؟

حجم الأزمة

حسب الميزانية الحالية تبلغ النفقات العامة 1020 مليار ريال. أما الإيرادات العامة فتبلغ 833 مليار ريال. بمعنى أنها نظمت بعجز قدره 187 مليار ريال أي ما يساوي 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي. أنها نسبة عالية وفق مختلف المقاييس العالمية وكذلك الخليجية. حيث تفوق ضعف النسبة المعتمدة في اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي.

وتنقسم الإيرادات العامة إلى قسمين: العوائد النفطية وقدرها 633 مليار ريال والإيرادات الضريبية وقدرها 200 مليار ريال. وقد احتسبت العوائد النفطية بالاعتماد على 55 دولاراً للبرميل. أي أن الميزانية ترتكز على صادرات قدرها 8.2 مليون ب/ي.

وبسبب وباء كورونا وخلافات أوبك+ هبط سعر برنت ليصل حالياً إلى 24.4 دولاراً للبرميل. وعلى هذا الأساس وعلى افتراض ثبات هذا السعر طيلة السنة الجارية ستنخفض الإيرادات النفطية السعودية إلى 280 مليار ريال (أجرينا الحساب وفق المعادلة التالية: 24.4 دولاراً × 8.2 مليون ب/ي × عدد أيام السنة = 73 مليار دولار). وبالتالي سيكون مبلغ العجز المالي 540 مليار ريال. عندئذ سينتقل العجز من 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 19.2% منه.

ولكن لابد من تحسين هذا الحساب التقريبي وفق ثلاثة عوامل إضافية:

العامل الأول: زيادة المبيعات النفطية. قررت السعودية زيادة صادراتها النفطية لتصل إلى عشرة ملايين ب/ي.

العامل الثاني: تقليص الإيرادات الضريبية. قدرت هذه الإيرادات في الميزانية الحالية بمبلغ 200 مليار ريال. وبموجب الإجراء المتخذ بعد كورونا ستنخفض حصيلة الضرائب فيرتفع العجز المالي. ويعتمد حجم هذا التخفيض حسب طبيعة الإجراءات ومدتها. في الوقت الحاضر قدرت وزارة المالية الخسارة الضريبية بمبلغ سبعين مليار ريال. عندئذ ستهبط الإيرادات الضريبية السنوية إلى 130 مليار ريال إن لم تُمدد فترة الإجراءات.

العامل الثالث: ارتفاع النفقات العامة. تتطلب مواجهة كورونا رصد أموال طائلة للصحة ودعم المنشآت المصرفية وتعضيد مختلف الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية. ولا توجد في السعودية تقديرات دقيقة لهذه النفقات. ولم نجد سوى أمرين: أولهما اقتصاد مبالغ قدرها خمسين مليار ريال. وثانيهما رصد خمسين مليار ريال للمؤسسات المصرفية المحلية.

انطلاقاً مما تقدم سيصبح العجز المالي 548 مليار ريال. وهذا المبلغ التقريبي يعادل 19.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وتجدر الإشارة إلى أن حساباتنا تختلف كلياً عن تقديرات وزارة المالية التي ترى بأن العجز المالي بعد كورونا سوف لن يتجاوز 9% من الناتج المحلي الإجمالي أي بزيادة قدرها نقطتين مئويتين فقط مقارنة بالعجز المتوقع قبل تفشي الوباء.

قبل الانتقال إلى الوسائل التي يمكن استخدامها لتغطية هذا العجز لابد من التطرق إلى الإجراءات المالية المعتمدة لمواجهة كورونا.

الإجراءات المالية

السعودية عضو في مجموعة العشرين وتترأس دورتها الحالية. وبالتالي فهي مدعوة للمساهمة في الحلول على الصعيد العالمي لمواجهة التداعيات الاقتصادية والصحية لوباء كورونا. الاجتماع الأخير للمجموعة يصب بهذا الاتجاه حيث قرر رصد خمسة ترليونات دولار لهذا الغرض. وستتحمل السعودية قسطاً من هذا المبلغ.

أما على الصعيد الداخلي فقد تقرر أن تكون ميزانية عام 2020 ميزانية طوارئ تختلف عن تلك التي تم تحضيرها. فقد اتخذت إجراءات تتحملها ميزانية الدولة التي تعاني من عجز مزمن وكبير. يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام.

القسم الأول: الاعتمادات الصحية.  تبلغ الاعتمادات الصحية في الميزانية الحالية 167 مليار ريال أي ما يعادل 16.3% من النفقات العامة. وبذلك يحتل هذا القطاع المرتبة الثالثة بعد القطاع العسكري والقطاع التعليمي. ورغم هذا الاهتمام الكبير سيكون من الضروري رصد أموال إضافية للصحة بسبب التطورات التي تشهدها حالات الإصابة بالوباء.

القسم الثاني: مساعدات للمصارف المحلية. يؤدي وباء كورونا إلى إفلاس الكثير من الشركات. لذلك تقدم الدولة دعماً مالياً للبنوك بهدف إعادة جدولة الديون المترتبة لها على هذه الشركات وبهدف مواصلة أنشطتها المصرفية. وأعلنت المصارف عن تأجيل أقساط ثلاثة اشهر من ديون جميع العاملين في القطاع الصحي الخاص والحكومي. قررت الرياض تقيم خمسين مليار ريال للمنشآت المصرفية.

القسم الثالث: تسهيلات ضريبية. يؤثر كورونا تأثيراً سلبياً على جميع الأنشطة الاقتصادية. فهو يقلص الاستهلاك والاستثمار والدخل. كما يجعل الشركات والأفراد في ضائقة مالية سريعة وشديدة. لذلك ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء هذا التأثير السلبي. وهكذا قررت وزارة المالية ما يلي:

تأجيل دفع الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية وضريبة الدخل والزكاة لمدة ثلاثة أشهر. وكذلك تأجيل دفع رسوم الخدمات الحكومية والرسوم البلدية لمدة ثلاثة أشهر. وتأجيل دفع الرسوم الجمركية لمدة شهر واحد. كما تقرر إعفاء الشركات من المقابل المادي المفروض على العمال الأجانب المنتهية إقامتهم في يونيو/حزيران القادم. وتم إيقاف الحجز على الأموال لأسباب ضريبية. قدرت كلفة هذه المبادرات بمبلغ سبعين مليار ريال.

المواجهة

لاشك سترتفع أسعار النفط بعد القضاء على كورونا. ولكن هذا الارتفاع سوف لن يصل إلى ما كانت عليه الأحوال قبيل انتشار الوباء. ستتجه الأسعار مجدداً نحو التراجع المستمر نتيجة التقدم التكنولوجي وضخامة النفط الصخري الأمريكي والاعتبارات البيئية التي تستلزم تشجيع الطاقة المتجددة.

وبهذا الصدد وجه صندوق النقد الدولي في فبراير/شباط المنصرم خطاباً إلى دول مجلس التعاون في تقرير بعنوان “مستقبل النفط والاستدامة المالية في منطقة مجلس التعاون الخليجي”. أوضح فيه بأن الإصلاحات الجارية حالياً في هذه الدول غير كافية للتصدي للأزمة المالية. وسيقود استمرار هبوط أسعار الخام إلى أن تفقد جميع ثرواتها. وتوقع التقرير بأن ثروة السعودية ستندثر في عام 2035. وبالتالي يتعين عليها تقليص نفقاتها وزيادة إيراداتها غير النفطية. وبدلاً من أن تتكاتف الجهود في سبيل إيجاد البرامج الملائمة للخروج من الأزمة اصبح البعض يوجه انتقادات للصندوق ويقدم شتى التبريرات لإثبات صحة الرؤية السعودية. وعلى افتراض عدم صحة توقعات الصندوق فإن تراجع أسعار النفط بصورة مستمرة أمر مؤكد دلت عليه جميع الاجتماعات الأخيرة لأوبك+. وهذا يكفي لوقوع الأزمة.

ثم جاء وباء كورونا ليضيف عاملاً جديداً من عوامل تردي الأسعار. ناهيك عن الانكماش الذي سيصيب جميع الدول حتى بعد التخلص منه والذي سيعيق أي ارتفاع كبير لأسعار الخام. سيستمر العجز المالي السعودي. وسوف لن يتحقق التوازن المالي المخطط له في عام 2023. ما هي إذن الوسائل التي ستخدمها الدولة لتمويل هذا العجز؟

السحب من الاحتياطي النقدي: وفق تقارير مؤسسة النقد العربي السعودي بلغ الاحتياطي النقدي في نهاية العام المنصرم 1873 مليار ريال. سيقود العجز المالي المتفاقم بسبب كورونا إلى السحب منه وبالتالي سيشهد انخفاضاً هذه السنة. ويزداد الانخفاض بسبب التدهور المستمر لأسعار النفط وكذلك تراجع الصادرات غير النفطية خاصة البتروكيماويات.

لاشك أن الاحتياطي النقدي هائل ويفوق مثيله في الكثير من الدول الصناعية. حيث تحتل السعودية المرتبة العالمية الخامسة. لكن هبوطه يقود إلى نتائج خطيرة منها تدهور التصنيف الائتماني للدولة وفقدان ثقة المستثمرين بالسياسة المالية. بل قد يفضي إلى هبوط سعر صرف الريال.

الاقتراض: وهو المصدر الرئيس لتمويل العجز المالي في السعودية حيث تفضل الحكومة عادة الاقتراض بدلاً من السحب من الاحتياطي النقدي. أضف إلى ذلك أن الدولة باتت تلجأ إلى القروض الخارجية فارتفعت الديون الخارجية بصورة سريعة خلال فترة قصيرة.

حسب وثائق وزارة المالية كان حجم الديون العامة 142.2 مليار ريال في نهاية عام 2015 أي 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي ديون محلية فقط. وفي نهاية عام 2019 أصبحت الديون الكلية 677.9 مليار ريال أي 24.1% من الناتج المحلي الإجمالي. ارتفع الدين العام اكثر من أربعة أضعاف خلال هذه الفترة سواء تعلق الأمر بحجمه أم بعلاقته بالناتج المحلي الإجمالي. باتت الديون الخارجية تشكل 45% من الديون الكلية. وفي عام 2020 وصل حجم الديون العامة إلى 848 مليار ريال أي بزيادة قدرها 25% مقارنة بالعام السابق.

بطبيعة الحال كلما ارتفع حجم الديون زادت خدمتها (الأقساط والفوائد السنوية). وهكذا دخلت ميزانية الدولة في حلقة مفرغة: ارتفاع العجز يولد تزايد اللجوء إلى القروض. وزيادة القروض تؤدي إلى تفاقم الديون فترتفع خدمتها وبالتالي يزداد من جديد العجز المالي.

وبما أن وباء كورونا اسهم في تصاعد العجز المالي فسوف يقود بالضرورة إلى تزايد اللجوء إلى القروض. فقد وافقت السعودية مؤخراً وبسبب هذا  الوباء على زيادة الاقتراض ليصل إلى 50% من الناتج المحلي. توافق الدولة إذن على أن ينتقل حجم الديون العامة من 848 مليار ريال إلى 1400 مليار ريال.

ويلاحظ أن دولاً عديدة وافقت على زيادة اقتراضها لمواجهة كورونا. فعلى سبيل المثال قرر مجلس وزراء الاتحاد الأوربي تعليق قواعد ميثاق الاستقرار والنمو التي تستوجب أن لا تتجاوز الديون في منطقة اليورو 60% من الناتج المحلي الإجمالي.

بات من اللازم تقليص الإنفاق العسكري في منطقة الخليج إلى أقصى حد ممكن. ولا يتم ذلك إلا بالامتناع عن التدخل كلياً وبأية صورة كانت في شؤون الآخرين. وهذا يصح بالدرجة الأولى على إيران والسعودية وتركيا. يستوجب التصدي للوباء تعاون متين بين مختلف الدول خاصة المتجاورة في مختلف الميادين واستغلال الثروات العامة للرعاية الصحية والخدمات التعليمية والبحوث العلمية والتنمية الصناعية والرفاهية الاجتماعية.

منشورات أخرى للكاتب