ما هو ثمن برنامج اقتصاد إيران المقاوم؟

يحاول برنامج “الاقتصاد المقاوم” في إيران التصدي للعقوبات الأمريكية بطرق عديدة. لكن هذه العقوبات أفضت إلى خلق أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة ترتبط بمالية الدولة وبالحالة المعيشية للمواطنين. تتعقد الأزمة في إيران بمرور الزمن، وعليه، يصبح ثمن التصدي باهظاً ويطرح تساؤلات عدة حول جدواه من الزاوية الاقتصادية.

يمثل هذا البرنامج رداً على العقوبات الأمريكية من جهة وطريقاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. يرتكز على محاور تشمل الميادين التجارية والمالية والصناعية وكذلك السياسية، ويمكن حصرها بخمس نقاط. الاعتماد على القدرات الاقتصادية المحلية، الاهتمام بالبحوث العلمية للأغراض الصناعية، تقليص تبعية الاقتصاد للنفط وإجراء إصلاحات اقتصادية. وتتم إحاطة جميع فقرات البرنامج، بما يطلق عليه الإيرانيون “العامل الجهادي والروح الوطنية”.

على الصعيد العملي ظهرت صعوبات كبيرة حالت دون تنفيذ هذا البرنامج على الوجه الأكمل. كما تطغى المفاهيم السياسية والدينية على الاعتبارات الاقتصادية، فعلياً، أصبح البرنامج يعني مقاومة العقوبات الأمريكية بأي ثمن.

مما لاشك فيه، حققت إيران تقدماً منقطع النظير في الميدان التكنولوجي والتطوير الصناعي المدني والعسكري مقارنة ببلدان المنطقة. خلال فترة قصيرة ازدادت القيمة المضافة  للصناعات التحويلية وارتفع عدد البحوث العلمية وبالتالي الاختراعات وتطورت الصادرات غير النفطية. قاد هذا التحول إلى تحسين القدرات الاقتصادية المحلية.

رغم ذلك، لم تحرز الإصلاحات الاقتصادية نتائج إيجابية. ويعود فشلها إلى ثلاثة أسباب رئيسة: السبب الأول هو عدم إمكانية محاربة الفساد المالي المستشري في جميع مفاصل الدولة. وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الشفافية الدولية تضع إيران في المرتبة العالمية رقم 130. السبب الثاني هو ارتفاع الإنفاق العسكري نتيجة التدخلات الخارجية (دول عربية وغير عربية) بالدرجة الأولى. والسبب الثالث السياسة المالية المتبعة التي تعتمد على التمويل النقدي للعجز المالي، وما يترتب عليها من ارتفاع معدلات التضخم وتراجع سعر صرف الريال.

تقليص التبعية الاقتصادية للنفط حقق نجاحاً نتيجة الاهتمام بالتكنولوجيا. وتؤكد الخطة الاقتصادية الحالية على ضرورة إجراء تقليص تدريجي لأهمية النفط في الاقتصاد بواقع 5% سنويا. وهنالك اتجاه قوي يدعو إلى الاستغناء الكامل عن الإيرادات النفطية في الميزانية الاعتيادية للسنة المالية القادمة 2020-2021 وتخصيص هذه الإيرادات للاستثمارات فقط.

لابد من ملاحظتين حول هذه النقطة. الملاحظة الأولى عدم إمكانية الاستغناء عن العوائد النفطية في مالية الدولة. إذ أن فكرة استغناء الميزانية العامة عن النفط سياسية بالدرجة الأولى لمخاطبة الرأي العام المحلي. ولا تعدو أن تكون طريقة للاستخدام المالي. إذ لابد من القيام بعمليات استثمارية سواء عن طريق الإيرادات النفطية أم عن طريق الحصيلة الضريبية أو عن طريق القروض وهكذا. وبالتالي لا فرق من الناحية المالية من استخدام العوائد النفطية في الميزانية الاعتيادية أم في الميزانية الاستثمارية. والملاحظة الثانية أن تقليص أهمية الإيرادات النفطية في الاقتصاد خطوة إيجابية تعالج مشكلة الريعية. لكن هنالك فرقاً شاسعاً بين تقليص هذه الأهمية وهبوط الإيرادات النفطية. معالجة الريعية لا تستوجب خفض العوائد النفطية بل بالعكس لأن عمليات التصنيع والتطوير تتطلب رصد الأموال طائلة. تعاني إيران من عقوبات أدت إلى هبوط حاد للإيرادات النفطية. هذه العقوبات هي التي أفضت إلى انخفاض أهمية العوائد النفطية في الاقتصاد وليست تلك العمليات الصناعية.

على الأرض، أصبح هدف برنامج الاقتصاد المقاوم التصدي للعقوبات الأمريكية بدلاً من أن يكون خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي، غالباً ما يطرح هذا السؤال: هل تستطيع إيران بموجب هذا البرنامج الصمود أمام العقوبات الاقتصادية؟ وبعبارة أخرى هل ستفضي هذه العقوبات إلى انهيار النظام السياسي الإيراني؟

بكيفية عامة يمكن لأية دولة الصمود بوجه العقوبات الاقتصادية خاصة عندما لا تكترث أنظمتها السياسية لما يصيب المواطنين من أزمات خطيرة وعندما تطغي مصالح الحكام على المصلحة العامة. ستصمد إيران كما صمدت جميع الدول العربية التي فرضت عليها مقاطعة صارمة. انه وضع العراق وسوريا وليبيا والسودان. كانت حكومات هذه الدول مقتنعة قناعة تامة بعدم تأثير العقوبات على نظامها السياسي. لم يسقط النظام العراقي السابق بسبب العقوبات الأممية رغم كونها أشد بكثير من العقوبات الأمريكية الحالية المفروضة على إيران.

وعلى هذا الأساس يتعين طرح الأسئلة التالية: ما ثمن الصمود الإيراني بوجه العقوبات الأمريكية؟ ما هي المشاكل التي تمخضت عن هذه العقوبات؟ هل لانتصار طهران على واشنطن – بافتراض تحققه- أهمية وجدوى مقارنة بحجم هذه المشاكل؟

في السابق لم تقد العقوبات ليست فقط الأمريكية بل كذلك الأوربية والأممية إلى نتائج اقتصادية سلبية باستثناء تجميد بعض الأصول المالية. بل أسهمت بصورة غير مباشرة في تحسين جميع الأنشطة الاقتصادية فازدادت الصادرات الصناعية. لكن العقوبات الأمريكية الحالية تختلف كلياً عن العقوبات السابقة خاصة في ميادين الصادرات النفطية والمعاملات المالية الخارجية. لم يعد الأمر يرتبط فقط بالعلاقة بين إيران والولايات المتحدة بل بإيران والعالم الخارجي. كما لا يقتصر الاختلاف على النصوص بل شمل أيضاً التنفيذ. خلال فترة لا تتجاوز السنتين أدت العقوبات الأمريكية إلى تدهور هائل للاقتصاد الإيراني.

أزمة اقتصادية خطيرة

يعاني الشعب الإيراني من فشل السياسة الاقتصادية المتبعة ومن تشدد الإدارة الأمريكية. أدى الصمود الإيراني إلى كارثة اقتصادية واجتماعية ذهب ضحيتها جميع المواطنين. لم يعد النصر -حتى وإن تحقق- يعني شيئاً أمام ضخامة هذه الكارثة.

تتبين ملامح هذه الكارثة من خلال المشاكل التالية التي أدت إلى تدهور مستوى معيشة المواطنين وإلى استياء شعبي واسع النطاق.

أولًا: ازدياد البطالة: وفق تقارير صندوق النقد الدولي انتقل معدل البطالة في إيران من 13.9% في عام 2018 إلى 15.4% في عام 2019. في حين يرى مركز الإحصاء الإيراني أن المعدل العام للبطالة 10.6%. علما بأن بطالة الشباب (من 15 إلى 24 سنة) تصل إلى 25.8%. كما باتت هذه المشكلة تشمل أصحاب الشهادات الجامعية.

ثانيًا: ارتفاع الأسعار: وفق تقديرات صندوق النقد الدولي بلغ المعدل العام للتضخم في إيران 31.2% في عام 2018 وارتفع إلى 37.2% في عام 2019. وحسب تقارير مركز الإحصاء الإيراني وصل المعدل العام للتضخم 41.6% للعام الجاري 2109-2020. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 58.4%. يتزامن هذا المعدل المرتفع مع تزايد البطالة وتراجع سعر الصرف فتتصاعد بالتالي حالة الفقر.

ثالثاً: تفاقم الفقر: هنالك تقديرات عديدة لمستوى الفقر في إيران. يرى برلماني أن 55% من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر. ويقول آخرون أن 19 مليون شخص في حالة فقر مدقع. ويرى البعض حاجة ثلاثة أرباع السكان لمساعدات مالية لشراء المواد والخدمات اليومية الضرورية للمعيشة. ارتفع الفقر بسبب العقوبات الأمريكية وكذلك نتيجة سوء إدارة الشأن العام خاصة الفساد المالي.

رابعاً: تراجع سعر صرف الريال: أدت السياسة المالية والعقوبات الاقتصادية وعجز ميزان المدفوعات والتهافت على شراء العملات الأجنبية إلى تراجع دوري وتدريجي لسعر صرف الريال. انتقلت القيمة التعادلية للدولار في السوق الموازية من 32 ألف ريال في فبراير/شباط 2017 إلى 150 ألف ريال في فبراير/شباط 2020. يترتب على ذلك ارتفاع التضخم وتردي القوة الشرائية للمواطنين.

خامساً: عجز ميزان المدفوعات: يعاني من عجز كبير قدره ثمانية مليارات دولار قبل تطبيق العقوبات الأمريكية. ورغم إن الإحصاءات الإيرانية باتت شحيحة في هذا الميدان فأن العقوبات الأمريكية قادت بالضرورة إلى تفاقم هذا العجز. عندئذ تضطر الدولة إلى تقليص وارداتها فتتأثر العملية الاستثمارية وإلى اللجوء إلى القروض الخارجية فتزداد المديونية العامة. وهكذا انتقلت الديون الخارجية من خمسة مليارات دولار في عام 2015 إلى عشرة مليارات دولار في عام 2019.

لا يشكل هذا الحجم خطراً كبيراً على اقتصاد البلد لأنه لا يمثل سوى 3% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن المشكلة تكمن في استمرار وسرعة تزايده. وكذلك تزامن هذا الارتفاع مع هبوط الإيرادات النفطية. يترتب على ذلك تخصيص نسبة أكبر من الصادرات لسداد أقساط وفوائد الديون. عندئذ يهبط التصنيف الائتماني للبلد حيث لم تحصل إيران إلا على درجات متدنية في تقديرات الوكالات العالمية المتخصصة. وبطبيعة الحال كلما زاد الدين هبط مستوى المعيشة لأن الأموال العامة بدلاً من أن تنفق على المواطنين تذهب إلى الدائنين.

سادساً: ارتفاع الإنفاق العسكري: يعود إلى عدة أسباب في مقدمتها التوتر في منطقة الخليج. وتدهور العلاقات من الولايات المتحدة مع احتمال وقوع نزاع مسلح. واستمرار التدخل في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول عربية أخرى. والحراك الشعبي الإيراني الذي يستوجب التصدي له مصروفات أمنية.

أسهمت هذه العوامل مساهمة فاعلة في تردي الوضع المالي للبلد وتزايد عجز الميزانية العامة. ويمكن تقدير النفقات العسكرية (مصروفات الجيش والحرس الثوري) بحوالي عشرين مليار دولار في السنة. وهذا المبلغ يفوق جميع الإيرادات النفطية الحالية.

سابعاً: تصاعد العبء الضريبي: تفترض الميزانية الحالية الحصول على إيرادات ضريبية قدرها 1950 ترليون ريال. وهي بذلك تحتل المرتبة الأولى في مالية الدولة الداخلية تليها العوائد النفطية والغازية.

يحتوي النظام الضريبي الإيراني على ضرائب مباشرة مفروضة على الدخل والربح ورأس المال وضرائب غير مباشرة على استهلاك السلع إضافة إلى الرسوم الجمركية على الاستيراد.

أثرت العقوبات الأمريكية بشدة على الصادرات النفطية. ولا تجد السلطات المالية بداً من اللجوء إلى الضرائب. كلما هبطت الإيرادات النفطية زادت حصيلة الضرائب. وكلما زادت هذه الحصيلة تراجع مستوى المعيشة خاصة وأن اكثر من نصف هذه الحصيلة يتأتى من الضرائب غير المباشرة والرسوم الجمركية أي تلك التي ترتبط بأسعار السلع والخدمات.

ومن المعلوم أن الاقتصاد الإيراني يعاني بسبب العقوبات من انكماش شديد سيصل إلى 8.7%. كما ستتراجع القيمة المضافة للصناعات بنسبة 19.1% (تقديرات البنك العالمي للعام الجاري 2019-2020). وبالتالي تفترض الإدارة المالية الرشيدة تقرير إعفاءات سخية. في حين اتخذت السياسة المالية اتجاهاً معاكسا. سيقود تزامن الانكماش مع تزايد الضرائب إلى نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة.

كما تعاني إيران من مشكلة أخرى لا تقل خطورة وهي ظاهرة التهرب الضريبي نتيجة الفساد المالي المستشري. ومن المظاهر الواضحة لهذا التهرب والمعروفة لدى الإيرانيين عدم خضوع أصحاب النفوذ للضرائب. يثير هذا الأمر مشكلتين: تقليص الإيرادات الضريبية من جهة وانعدام العدالة في تحمل الأعباء العامة من جهة أخرى.

ينبغي على الإيرانيين بذل الجهود في الإجابة على هذا السؤال؟ ماذا لو تم التخلي عن البرنامج النووي والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار ومنح حريات واسعة للمواطنين وتطبيق إصلاحات مالية حقيقية؟ لاشك أن هذا التغيير سيؤهل إيران لتكون قوة اقتصادية هائلة في المنطقة، سيرتفع مستوى المعيشة وتتقدم الصناعات ويزداد معدل النمو وتنتهي المعاناة من الفقر والبطالة والتضخم. ناهيك عن تحسن العلاقات مع البلدان العربية عامة والخليجية خاصة. 

نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة لا تدع مجالاً لمثل هذا السيناريو. سيستمر إذن الصمود الإيراني وسوف تتجه أحوال المواطنين من سيئ إلى أسوء. وستتصاعد الصراعات في المنطقة.

منشورات أخرى للكاتب