إطار لمناقشة الاتفاقية العراقية الصينية

منذ ثلاثين عاماً لم يحقق العراق أي تقدم اقتصادي بل عانى من حصار دولي شامل وجائر بسبب احتلال الكويت وصراعات داخلية دمرت اقتصاده بعد التدخل الأمريكي في العراق. وبالتالي يحتاج البلد إلى أموال طائلة وتكنولوجيا متقدمة وشركات متخصصة وإدارة سليمة لتأهيل البنية التحتية الضرورية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

تدخل الاتفاقية العراقية الصينية لعام 2019 ضمن هذا السياق ولكن من الخطأ الفادح المبالغة في تداعياتها الإيجابية. فهي تهتم بالدرجة الأولى بالمشاريع الخدمية غير الإنتاجية. كما تتمخض عنها نتائج سلبية خطيرة وتتمثل في تفاقم الديون الخارجية الناجمة عن القروض الممنوحة لتنفيذ الاستثمارات.

تشغل هذه الاتفاقية الرأي العام العراقي المنقسم بين مؤيد لها لأنه يساند نظام الحكم ومناهض لها لأنه يعارضه. تتمحور الاتجاهات الاقتصادية في ثلاث نقاط أساسية: تأثير الاتفاقية على الولايات المتحدة وشروط الاتفاقية وعلاقة الديون الناجمة عنها بالإيرادات النفطية. سوف نطرح الرأي المتعلق بكل نقطة من جهة ونحاول الرد عليه من جهة أخرى بهدف وضع النقاش في إطاره السليم.

الاستياء الأمريكي

يقولون أن الاتفاقية استفزت الجانب الأمريكي لأنه في حالة حرب تجارية ضد الصين. كما تطمح واشنطن أن تتولى الشركات الأمريكية الاستثمار في العراق بدلاً من الشركات الصينية. ويرى البعض في الاتفاقية رسالة عراقية مفادها عدم رغبة بغداد في التعامل مع واشنطن. وهذا بحد ذاته يشكل خطراً على المصالح الأمريكية. ووصف آخرون الاتفاقية بأنها صفعة للولايات المتحدة رداً على اعتدائها الأخير على السيادة العراقية.

لمناقشة هذه المواقف السياسية لابد من الإشارة إلى طبيعة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي تختلف جوهرياً عن الحرب الاقتصادية بين واشنطن وطهران. إيران تخضع لمقاطعة أمريكية شاملة. كما أن المبادلات التجارية الأمريكية الإيرانية ضعيفة جداً حتى قبل تطبيق هذه المقاطعة. في حين نجمت المشاكل التجارية الأمريكية الصينية عن متانة العلاقات بين البلدين. تبلغ قيمة الصادرات السلعية الصينية للولايات المتحدة 540 مليار دولار. وتصدر الولايات المتحدة للصين سلعاً بمبلغ 165 مليار دولار. هنالك إذن فائض تجاري هائل لصالح الصين تحاول الولايات المتحدة تقليصه عن طريق الرسوم. الأمر الذي يثير صراعات بين البلدين.

على افتراض أن الاتفاقية ستقود إلى مضاعفة الصادرات الصينية السنوية للعراق لتصل إلى عشرين مليار دولار فأن هذا المبلغ لا يشكل سوى الواردات الأمريكية من الصين لمدة أسبوعين فقط. وبالتالي إذا كان الأمريكيون يخشون تنمية الصادرات الصينية على الصعيد العالمي لأقدموا بحزم شديد على تخفيض استيرادهم الهائل.

وإذا كانت الاتفاقية صفعة للولايات المتحدة فأنها كذلك لدول الاتحاد الأوربي التي تعاني أيضاُ من مشاكل تجارية مع الصين. أضف إلى ذلك أن هذه الاتفاقية عقدت ودخلت حيز التنفيذ قبل مقتل شخصيات وقصف مواقع في العراق من قبل الولايات المتحدة. وبالتالي لا يعقل أن يأتي الرد قبل وقوع الحادث.

لو كانت الاتفاقية تشكل فعلاً خطراً ضد المصالح الأمريكية وضد شركاتها لما ترددت واشنطن في إفشالها بمجرد تهديد بغداد بعقوبات تجارية. بل يمكن كذلك لواشنطن وبسهولة القضاء تماما على هذه الاتفاقية عن طريق الآلية التالية.

تمر العمليات النقدية المتعلقة بالنفط العراقي عبر حساب لدى الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي). وتستوجب الاتفاقية أن يضع العراق مبلغاً من المال يعادل 100 ألف ب/ي في حساب مشترك عراقي صيني. يكفي إذن أن يمتنع الفيدرالي الأمريكي عن تحويل هذا المبلغ فتنهار الاتفاقية. على الصعيد العملي لم يحدث ذلك بل وصلت الدفعة الأولى إلى الحساب المشترك وقدرها 418 مليون دولار.

أما إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على العراق تشمل تجميد الأصول العراقية وقدرها 35 مليار دولار (هددت الإدارة الأمريكية بهذا الإجراء لأسباب لا علاقة لها بالاتفاقية بل بوجودها العسكري بالعراق). في هذه الحالة سوف لن تنهار الاتفاقية فحسب بل كذلك الاقتصاد العراقي برمته لأنه ريعي.

اتفاقية صداقة بفوائد مدعومة

يقولون لا توجد في الاتفاقية شروط جزائية لأنها تندرج ضمن علاقات الصداقة بين البلدين. ومن علامات هذه الصداقة تحمل الحكومة الصينية تكاليف الفوائد الناجمة عن القروض المصرفية الممنوحة للعراق. حسب هذا الرأي وبسبب هذه الفوائد المدعومة سوف لن تحدث في العراق الأزمات التي ظهرت في دول أخرى أقرت اتفاقيات استثمارية مع الصين.

هذا التوصيف غير دقيق. الاتفاقية تتضمن مذكرات تفاهم. ومن المعروف على الصعيد الدولي أن مذكرات التفاهم لا تنص على شروط جزائية. أي يمكن لأي طرف موقع عليها الانسحاب منها دون تعويض الطرف الآخر. لا علاقة إذن بالصداقة بهذا التنظيم.

تتناول مذكرات التفاهم الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية للاستثمار والتمويل دون الدخول في التفاصيل. وستنبثق عن هذه المذكرات اتفاقات أخرى تتناول القروض وشروطها كسعر الفائدة والمدة. وهذه الاتفاقات ملزمة بطبيعة الحال للطرفين وتخضع لعدة معايير ليس من بينها مؤشر الصداقة.

أما الفوائد المدعومة من قبل الحكومة الصينية فقد استغلت من قبل بعض وسائل الإعلام والمحللين لطمأنة الرأي العام العراقي وكأن هذه الفوائد سهلة التحمل.

والواقع لم تمنح الفوائد المدعومة للعراق فقط بل كذلك لجميع الدول التي عقدت معها الصين اتفاقات استثمارية. فقد حصلت عليها ماليزيا وجيبوتي وسريلانكا وباكستان وكينيا. جميع هذه الدول دون استثناء عجزت عن الوفاء بديونها بسبب الفوائد المدعومة. وعندما تقرر الحكومة الصينية دعم الفوائد في القروض الممنوحة من قبل مصارفها فهي تحقق مكاسب عديدة ليس فقط للمصارف المقرضة بل كذلك للشركات المستثمرة. باتت القروض الصينية وسيلة فاعلة للسيطرة على مقدرات الدول النامية.

رهن النفط

يرى البعض أن الديون المترتبة على الاتفاقية ستقود إلى رهن النفط العراقي لفترة طويلة للصين. حسب هذا الرأي إذا كان مجموع القروض 100 مليار دولار بسعر فائدة 6% سيكون حجم الدين 200 مليار دولار بعد 16 سنة و400 مليار دولار بعد 32 سنة. في هذه الحالة الثانية يتعين رصد إيرادات النفط لمدة خمسين سنة لخدمة هذا الدين. أما إذا كان مجموع القروض 500 مليار دولار فسوف يصبح الدين 1000 مليار دولار بعد 16 سنة و2000 مليار دولار بعد 32 سنة. في هذه الحالة الثانية سوف لن يستطيع العراق سداد ديونه حتى وإن بلغت صادراته النفطية عشرة ملايين ب/ي. سوف لن تكتفي الصين بالاستيلاء على النفط العراقي بل ستسيطر على مؤسسات عراقية.

وقعت هذه التقديرات بمشكلتين: حساب الديون والاستنتاجات المترتبة عليها.

فعندما يكون حجم القروض 100 مليار دولار بسعر فائدة قدره 6% ولمدة 32 سنة فأن الحجم الكلي للديون 292 مليار دولار وليس 400 مليار . أي

100×6%×32=192 مليار دولار وهي الفوائد. يضاف إليها 100 مليار دولار وهي الأصول.

وبهذه الطريقة عندما يكون حجم القروض 500 مليار دولار بنفس السعر و الفترة الزمنية فإن حجم الديون سيكون 1460 مليار دولار وليس 2000 مليار دولار.

ولكن حتى على افتراض صحة تلك التقديرات فإن استنتاجاتها غير دقيقة. في الوقت الحاضر يصدر العراق 3.9 مليون ب/ي. منها 0,9 مليون ب/ي للصين. لنفترض ان سعر البرميل 60 دولارا. عندئذ تصبح الإيرادات السنوية الكلية 85.4 مليار دولار. منها 19.5 مليار دولار من الصين. بمعنى أن الإيرادات لمدة 16 سنة 1366 مليار دولار و لمدة 32 سنة 2732 مليار دولار. وهذه الإيرادات أعلى من المبالغ في تلك التقديرات. أما إذا كان حجم الصادرات عشرة ملايين ب/ي أي ما يعادل الصادرات السعودية والإماراتية فإن الإيرادات لمدة 16 سنة ستبلغ 3504 مليار دولار ولمدة 32 سنة 7008 مليار دولار. وهي من باب أولى أعلى بكثير من تقديرات تلك الديون.

كان من الأصح القول بأن الاتفاقية سترهن النفط العراقي المصدر للصين لمدة خمسين سنة. ولكن من الخطأ الفادح شمول النفط العراقي بأكمله.

عدم صحة تلك التقديرات لا يعني سلامة الاتفاقية ولا يعني أيضاً خطأ موقف المناهضين لها. هذه دعوة لتوخي الدقة في الطرح كيفما كان الاتجاه. الاتفاقية ستقود بالضرورة إلى ارتفاع غير مسبوق للديون الخارجية العراقية. وقد تفضي إلى تعذر الوفاء بالالتزامات المالية. ولكن وفق التحليل التالي:

نفترض أن حجم القروض الصينية 15 مليار دولار في السنة لمدة عشرين وهي مدة الاتفاقية. يصبح مجموع القروض 300 مليار دولار. أما سعر الفائدة الذي يحاط بالسرية فقد تردد في وسائل الإعلام 6% لأن الحكومة الصينية فرضت هذه النسبة في تفاوضها مع الحكومة العراقية السابقة في عام 2015. فرفض الجانب العراقي الاتفاقية آنذاك.

يبدو لنا أن السعر سينخفض نتيجة تأثره بثلاثة عوامل: العامل الأول ضخامة الاستثمارات التي تستوجب من الحكومة الصينية منح دعم متزايد للقروض. والعامل الثاني وضع النفط كضمان للسداد. وهذا الإجراء يخفف من السمعة الائتمانية السيئة للعراق. إذ أن الوكالات العالمية للتصنيف الائتماني تمنح العراق درجات متدنية في قدرته على الوفاء بالديون. والعامل الثالث لا تستلم الحكومة العراقية إيرادات النفط المباع للصين إلا بعد مرور مدة لا تقل عن الشهر. وقد تم في المفاوضات الاتفاق على احتساب فائدة لصالح العراق جراء هذا التأخير. نتيجة هذه العوامل ينخفض سعر الفائدة الصافي وقد يصل إلى 5%.

كما نفترض أن خدمة الديون (الأقساط والفوائد السنوية) تعادل 15% من الإيرادات النفطية أي أعلى من النسبة الحالية. عندئذ ستكون النتيجة كالتالي:

15 مليار دولار×20 سنة= 300 مليار دولار مبلغ القروض طيلة فترة الاتفاقية.

(300 مليار دولار×5%×20 سنة)+300= 600 مليار دولار. وهو المبلغ التقريبي الكلي لأقساط وفوائد الديون.

600 مليار دولار÷(85.4 مليار دولار الإيرادات السنوية للنفط ×15% نسبة خدمة الديون إلى إيرادات النفط) = 47 سنة.

انطلاقاً من هذه الافتراضات سيحتاج العراق إلى 47 سنة لسداد ديونه الناجمة عن الاتفاقية. وتزداد هذه المدة أو تنخفض تبعاً لارتفاع أو هبوط الاستثمارات الصينية التي قد تصل إلى ثلاثين مليار دولار في السنة. وبالتالي تتضاعف مدة السداد.

تقتصر حساباتنا أعلاه على القروض المترتبة على الاتفاقية العراقية الصينية. لحساب الالتزامات المالية المستقبلية الكلية يتعين إضافة الديون الحالية وكذلك الديون الناجمة عن القروض القادمة لتغطية العجز المالي المتزيد. وهكذا تتراكم الديون وتنخفض قدرة الدولة على السداد فتتعقد الأزمة المالية وقد يعجز العراق عن الوفاء بالتزاماته المالية. عندئذ يتكرر سيناريو سريلانكا وكينيا.

سوف يترتب على الاتفاقية العراقية الصينية نتائج خطيرة على الصعيد المالي. لكن تفاصيل هذه النتائج يجب أن تخضع للتحليل العلمي بعيداً عن المؤثرات السياسية والصراعات العقيمة. كما لابد من التريث خاصة وأن نصوصها غير معروفة على وجه الدقة بسبب سرية مذكرات التفاهم. ثم أن التقدير الحقيقي يتوقف على التنفيذ.

منشورات أخرى للكاتب