الولايات المتحدة وإيران: لا مفاوضات ولا حرب
يبدو أن تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وايران قد بدأ فى الانخفاض تدريجيًا، بعد أن اتفق كلا البلدان بشكل غير مباشر، على عدم التصعيد، أو الدخول في حرب مفتوحة. اختارت طهران اتباع سياسية الابتعاد عن العواطف، وطرق الرؤوس الساخنة، فلجأت ألى أن يكون الرد على اغتيال الولايات المتحدة قائدها العسكري الأبرز، الجنرال قاسم سليماني قائد قوة القدس، ردًا عقلانيًا، فأطلقت العشرات من الصواريخ الباليستية على قاعدة أمريكية عسكرية فى العراق، دون أن تتسبب فى وقوع خسائر بشرية بين صفوف الأمريكيين، ويبدو أن رد طهران كان مناسبًا لواشنطن.
لا أحد يريد الحرب
بعد أن هدأت العواصف إلى حد ما بين واشنطن وطهران، ووسط المخاوف من شبح الحرب الوشيكة فى أي لحظة، أعلنت الولايات المتحدة عن طريق سفيرتها في الأمم المتحدة، كيلي كرافت، أنها لم تقدم على اغتيال قاسم سليماني إلا دفاعًا عن النفس، وفي نفس الوقت ستعمل على تهدئة الأمور وعدم الانجرار إلى الحرب.
ردت الجمهورية الاسلامية الايرانية ردًا مماثلًا، مفسرةً أن ضرباتها الصاروخية للقواعد الأمريكية في العراق كانت دفاعًا عن النفس، دون أي رغبة في خوض حرب مع الولايات المتحدة، لكن يجب أن يؤخذ فى الاعتبار، أن توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، ليس وليد اللحظة، بل هو صراع امتد قرابة الأربعة عقود، ويبدو أن لا حل له في الأفق، على الأقل في المستقبل القريب.
وفيما لا يزال دخان التوتر في الأجواء، تدرك إيران جيدًا أن التعامل مع الولايات المتحدة قبل مقتل سليماني، سيختلف كثيرًا بعد مقتله، وهذا ما يجعل الخيارات محدودة، والطريق أصعب من ذي قبل، تعلم المؤسسة السياسية الايرانية جيدًا قدراتها العسكرية قبالة قوة الولايات المتحدة، وتعلم أيضًا أن خيار الحرب ليس سهلا، وسيكلفها الكثير والكثير، لذلك ستختار سياسة الردع التي قد بدأتها بالهجمات الصاروخية على القواعد الامريكية في العراق.
تهتم طهران أيضا بحساب حجم العقوبات الامريكية، التي دمرت الاقتصاد الايراني، والمخاوف من تجدد الاحتجاجات الجماهيرية اعتراضًا على الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، مما يجعلها تسير في طريق ضيق للغاية، لكن هذا لا يعني أنها لن تلجأ أبدًا إلى الخيار العسكري، لكن ليس في الوقت الحالي، فبحسب قائد القوة الجوية التابعة للحرس الثوري، الجنرال أمير علي حجي زاده، فإن الضربات الصاروخية كانت البداية لعملية ستستمر، لكن إلى الآن يبدو أن ملامح تلك العملية غير واضحة.
فعلياً، أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باغتيال قاسم سليماني، المشاعر القومية المتأصلة في الجمهورية الاسلامية في ايران، تلك المشاعر التي تجعل ايران أكثر تقبلًا للمخاطرة في صراعها مع الولايات المتحدة، فتكلفة تلك المخاطر لن تكون أكثر من حماية المبادئ القومية والشرف الوطني للبلاد، وهذا ما يزيد من صعوبة الخيارات المطروحة أمام إيران في الوقت الحالي.
أمل الدبلوماسية الضئيل
بعد اغتيال قاسم سليماني بأسبوع، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإلقاء أول خطاب علني له، معلنًا أنه يريد المفاوضات الجادة مع إيران بدون شروط، وكرر المسئولون في إدارته نفس الحديث، لكن الأمر ليس بتلك السهولة في طهران، فقد رفض الرئيس حسن روحاني مرارًا وتكرارًا دعوات ترامب للتفاوض، قبل عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، أو حتى رفع العقوبات الامريكية.
يبدو من الصعب أن يجد ترامب أحدًا في المؤسسة السياسية الايرانية، يقبل الجلوس والتفاوض معه، بعد أن أمر بقتل الرجل الثاني في البلاد، لكن ليس هذا هو السبب الوحيد، ففي أعقاب دعوة ترامب إلى المفاوضات الجادة لمنع تعريض أمن واستقرار المنطقة للخطر من قبل الجمهورية الايرانية، أعلن أنه سيفرض عقوبات عقابية أخرى على إيران، وهذا ما ضرب دعوته للتفاوض في مقتل. على الجهة الأخرى، رفضت طهران دعوات ترامب الأخيرة، مؤكدة أنه لا يمكن أخذها على محمل الجد. منذ بدء التوتر بين إيران والولايات المتحدة في مايو/أيار 2018، لم تغلق طهران الباب في وجه الدبلوماسية بشكل قاطع، لكن المفاوضات تحتاج إلى بذل الكثير من الجهود من جانب الادارة الأمريكية.
ما يعيب السياسية الأمريكية هي الحالة المتهورة التي تعامل بها ترامب مع طهران، يعلن أنه يريد التفاوض، وفي نفس الوقت يعلن حزمة جديدة من العقوبات ويخرج مستشاريه ومسئولوون من إدارته للتحدث عن تغيير النظام في إيران، ثم يعود إلى الدعوة إلى المفاوضات بعد أمره بتصفية قائد عسكري إيراني، تلك الاشارات المرتبكة، تجعل المسئولين الإيرانيين يتأكدون من عدم وجود نية جادة لدى الرئيس ترامب للتفاوض، وهو ما يقلل من فرص الدبلوماسية بشكل كبير.
تمسك إيران بعدم التفاوض
لقد كرر المرشد الاعلى الايراني آية الله علي خامنئي مراراً أنه لا يريد الحرب مع الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت لا يمكن التفاوض معها، وبعد أن قررت الادارة الأمريكية زيادة تصعيد التوترات بينها وبين طهران، باغتيال قاسم سليماني، أصر علي خامنئي على موقفه أكثر من ذي قبل.
في قيادته لصلاة الجمعة فى طهران لأول مرة منذ ثماني سنوات، ركز في أكثر من موضع في خطبته على أن الولايات المتحدة هي العدو الرئيسي لايران، وأنه لن يقبل بالتفاوض معها مهما حدث.
الأكثر من ذلك، أنه وصف كل الأصوات في الداخل الايراني التي مازالت تتبنى فكرة التفاوض مع الولايات المتحدة، بأنها لمجموعة من المنافقين، لأن أي حديث عن التفاوض مع واشنطن يعتبر خيانة لدم قاسم سليماني.
هذا الاصرار، يجعل مصير الاتفاق النووي في خطر، خاصة أن المرشد الأعلى، انتقد دور القوى الغربية الأخرى الموقعة على الاتفاق، ووصفها بأنها تخدم المصالح الأمريكية، بالرغم من رفض تلك القوى لدعوة ترامب الأخيرة بالتخلي عن الاتفاق النووي مع إيران.
الجدير بالذكر أنه بعد اغتيال قاسم سليماني، واصلت إيران تقليص التزاماتها النووية بموجب الاتفاق النووي، في خطوة خامسة من تخفيف الالتزامات التي قد اقتربت من حد زيادة مستوى تخصيب اليورانيوم، مما يعكس أن طهران عازمة على استكمال طريقها للخروج تدريجيًا من الاتفاق النووي، مع رفض أي دعوة للتفاوض على اتفاق نووي جديد كما يريد ترامب، أو حتى التفاوض مع واشنطن دون الشروط الايرانية المسبقة.
هل يعني هذا أنه لا حل الا الخيار العسكري؟
بالطبع لا، كلا البلدين لا يريد الحرب، خاصة إيران التي خاضت حربًا داميةً استمرت لثماني سنوات مع العراق، وتعرف جيدًا توازن القوى وحسابات الكلفة الناجمة عن أى حرب، ما يجعل من خيار الذهاب إلى الصراع العسكري ضئيلًا.
بالرغم من تصاعد التوتر، والدعوات الغير جادة للتفاوض من قبل الولايات المتحدة، ووصول الاتفاق النووي إلى مرحلة حرجة للغاية، إلا أن إيران لا ترغب في التخلي تمامًا عن الخيار الدبلوماسي، لكنها ستتبع سياسة التحكم في التوتر مع الولايات المتحدة، على أمل أن تأتي الانتخابات الرئاسية الاميركية، بادارة أخرى، تستطيع التفاوض معها.