الليبرالية السعودية: بين حلال “الترفيه” وحرام “السياسة”

لم يمض وقت طويل على الصعود السريع، غير المتوقع، للأمير محمد بن سلمان عندما تم تعيينه وليًا للعهد بعد إزاحة الرجل القوي وقتها الأمير محمد بن نايف، حتى أفصح محمد بن سلمان عن رؤية جديدة للمملكة العربية السعودية التي عرفت منذ ظهورها بعلاقتها التأسيسية مع الإرث السلفي “الوهابي” منذ قيام الدولة. 

لاحقًا، فرض بن سلمان واقع الانفتاح الليبرالي تحت مظلة “الترفيه” خياراً رسمياً للمجتمع السعودي. في 8 أبريل/نيسان 2017م، أطلق محمد بن سلمان مشروع منتجع القِدِّية الترفيهي الذي يستهدف تأسيس أكبر مدينة ترفيهية ثقافية رياضية على مستوى العالم بمساحة 334 كيلومتر مربع، أي ما يزيد عن ديزني وورلد بثلاث مرات. عاصمة “المغامرات المستقبلية” على حد وصف بن سلمان للمشروع، يستهدف منها – إضافة إلى تنويع إيرادات صندوق الاستثمارات العامة – أن يحافظ على حصة من إنفاق السعوديين على الترفيه.

بدأ محمد بن سلمان في تحجيم وتطويع طبقة رجال الدين من السلفيين، الذي لم يستجب للمسار الجديد أودع السجن أو تم تجريده من سلطاته. عمليًا، ولئن كان معظم علماء السلفية الوهابية قد تم تدجينهم بالفعل، من خلال السرديات المهيمنة التي تتحدث عن خطيئة الخروج على وليّ الأمر التي يعتبرها العلماء خطاً أحمراً، إلا أن علماء ما يعرف بـ”الصحوة” لم يكونوا كذلك. 

عملياً، لم يكن في استطاعة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التخلي عن الاتفاق التاريخي (السعودي-الوهابي) الذي قامت عليه الدولة ويضمن بوضوحٍ بقاء العلماء تحت سلطة الأمراء، والطاعة المطلقة لولاة الأمر أو للملك. وبهذا المعنى، فإن الوهابية تمثل حليفاً مهماً لمحمد بن سلمان، وهذان هما وجها الوهابية الأساسيان: المحافظة الاجتماعية، وطاعة الحاكم. والمعادلة التي اعتمدها بن سلمان قائمة بوضوح على استخدام الأصل الثاني من الوهابية لمحو آثار الأصل الأول.

عبر عمليات سريعة وقاهرة، عمد محمد بن سلمان إلى إزالة الطابع الديني عن سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وقلص النفوذ الذي حظيت به السلفية كركن أساسي من أركان بقاء الدولة “متسيدة” وقاهرة للجماعات السياسية والدينية الأخرى. لم تقف الأمور عند هذا الحد، استطاع بن سلمان أن يُسرع في تنفيذ المطالب الأمريكية الخاصة بضرورة إجراء مراجعة للأسس الدينية ونظام الأخلاق السلفي الذي فرض على المجتمع السعودي لعقود متتالية، فتم تمرير قرار السماح للمرأة بالسياقة والسماح لها بالسفر دون موافقة ولي الأمر، كما رفعت القيود التي كانت مفروضة على ما اصطلح عليه بالترفيه والانفتاح الليبرالي، خلاف مراجعة المناهج المدرسية واستبدالها بكتبٍ معتدلة.

عند هذا الحد تتوقف عجلة إصلاحات محمد بن سلمان وحدود الانفتاح الليبرالي لتبدأ حدود ما قبل الدولة السياسية. إذ لا تشير معطيات ما بعد جرعات 2017م إلى احتمال توسع الانفتاح الليبرالي ليشمل مفاصل الدولة السياسية، ولكي تخوض المملكة السعودية تجربة سياسية مختلفة عن الفهم القديم للسياسة كما عاشتها في الانقلاب على الأخلاق السلفية.

تجارب مماثلة ربما تقودنا إلى مزيد من الوعي بطبيعة الانقلاب الأخلاقي الذي يقوده محمد بن سلمان والذي لا تصل حدوده إلى تخوم السياسة. فالتجربة التركية على سبيل المثال انتهت إلى شقاق مجتمعي ظاهر كما هي التجربة البهلوية في ايران، وكما هي تيارات التغريب التي شاعت وقويت شوكتها في القرن الماضي رغبة في الاقتراب من النهضة الاوروبية. تتقوى هذه المماثلة عند فرز سمات الانقلاب الأخلاقي تحت عنوان تحديث المجتمع السعودي ونزع التنميط الغربي عنه خارجيًا. 

واحدة من أهم إشكاليات الانقلاب الأخلاقي هي أن الحاملالاجتماعي (الليبرالية السعودية) ليس له حاضن مجتمعي متماسك. كما لا يبدو أنه عقلانيًا، بل إن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة، أزمة في المصطلح، وأزمة في الخلفيات الفلسفية، وأزمة في السلوكيات اليومية، وأزمة في الإلتزام بالقيم، وأزمة في الاتساق مع المبادئ , وأزمة في الاطراد، وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطعيات الشريعة الإسلامية .وهذا يعطي مؤشرًا على تنامي هذه الأزمات بشكل تبدو معه معالم الانفتاح الثقافي والانقلاب الأخلاقي على أنها حوادث انتقائية وغير متزنة، بل تأتي بما يشبه الفرض. أي أن صانع القرار السعودي لديه رؤية حول ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السعودي ويسعى لفرضه عليه قسراً، دون مراعاة مدى توافقها مع معتقدات السعوديين وبنيتهم الثقافية التأريخية، ودون أن يكون هذا التحول تدريجياً وعلى مدى زمني معقول.

عند هذه المساحة من التباين قد يذهب البعض إلى أن الاستمرار بنمط الانفتاح الليبرالي من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الحس القبلي والاجتماعي والديني لدى الفئات المحافظة والتي شكلت أخلاقها الاجتماعية قبل سيطرة الأخلاق الوهابية وفرضها. وبالتالي فإن قدرة الانفتاح الليبرالي في الحفاظ على تماسك المجتمع تبدو ضعيفة، إن لم تكن عكسيةً تمامًا.

في المقابل، لا يقترب هذا الانقلاب من الجانب السياسي، لم يلمس توسيع المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير بل حتى حق المجتمع في اختيار الثقافة التي يريد. على العكس تماماً، فقد شهدت المملكة انتكاسة في مجال الحقوق والحريات خلال هذه الفترة.   

من جهة أخرى تبرز شراسة وعنف “الانفتاح الليبرالي” في حملات العنف الرسمي الذي قام به بن سلمان ضد معارضيه وارتفاع أحكام الإعدام إلى أكثر من 130 حكم إعدام متصلة بتهم سياسية واستمرار اعتقال النساء اللاتي كن يطالبن بتمرير قرار قيادة المرأة للسيارة. وهي مفارقة تظهر طبيعة الانفتاح الليبرالي ووظيفته السياسية.

في المحصلة، تبدو سياسة الانفتاح الليبرالي أداة وظيفية وظفها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في تصفية صراعاته الشرسة مع أقطاب البيت السعودي، وفي تخليص السياسة السعودية الخارجية من تبعات قرارات متوترة وغير مدروسة منها شن حرب ضروس على اليمن. الأمر الذي يؤكد أن بناء القوة السياسية في السعودية لا يزال بعيدًا عن نمط بناء القوة في الدولة السياسية المنفتحة سياسيًا على حدود وتخوم الانفتاح الليبرالي السياسي. ومن المنتظر هنا أن تبرز مواطن الوجع المجتمعي جراء التساهل المفرط في تحرير الفعل الأخلاقي من الضوابط المجتمعية التاريخية والإسلامية.

قد يطالب البعض بمزيد من التريث للوصول إلى حكم على نجاح أو فشل تجربة الانقلاب الأخلاقي والتأثيرات التي سيحدثها هذا الانقلاب على التماسك الاجتماعي وإمكانية إعادة هوية المجتمع السعودي اجتماعيًا، وبالتالي سياسيًا. ولكن هذا التريث يصبح فاقدًا لأي معنى ما لم تحدث انقلابات في البنية السياسية القائمة فعلاً وواقعًا. فالفترة المقبلة والتي يبدو أن محمد بن سلمان سيرث فيها الحكم في السعودية تبدو هي الأخرى قلقة جدًا. فما يبدو دعمًا أمريكيًا مطلقًا لسياسة محمد بن سلمان بات في حكم الرجم بالغيب. وبالتالي؛ فإن مرحلة ما بعد الملك سلمان تبدو قلقة ومضطربة في حين أن الانفتاح السياسي الليبرالي يتطلب قدرًا من القوة الشخصية للحاكم يطمئن من خلالها إلى تقوية نفوذه وشبكة مصالحه ضمن المجال السياسي.

منشورات أخرى للكاتب