المصالحة بين الرياض وطهران: جذور الخلاف متوثبة للتخريب
تقترب بغداد من احتضان الجولة السادسة من المفاوضات الإيرانية السعودية بحضور وزيري الخارجية في البلدين لمناقشة إعادة فتح السفارات والحرب في اليمن. وكانت الجولة الخامسة التي عقدت في بغداد أيضاً ورافقتها أجواء إيجابية ومبادرات عملية لحلحلة بعض القضايا العالقة، من بينها ملف الحجاج الإيرانيين والاتفاق بشأن التوصل إلى هدنة إنسانية في اليمن، والتبادل التجاري بين البلدين إضافة إلى قضايا أخرى لم يعلن عنها.
ولطالما شكلت العلاقات الإيرانية السعودية عنصراً من عناصر التوتر في المنطقة، بالأخص بعد أحداث الربيع العربي عام 2011 وما تلاها من تدهور للأوضاع السياسية والأمنية في أكثر من بلد عربي كسوريا واليمن وليبيا والبحرين. لذلك، تأتي الحوارات الإيرانية السعودية مشحونة برغبة التوصل إلى “سلام دافئ” في المنطقة، فحل الخلافات الإيرانية السعودية وفق وجهة النظر هذه، كفيل بتخليص المنطقة من الحروب بالوكالة خصوصاً تلك التي استعرت في سوريا واليمن والعراق ولبنان. ومن شأن هذا السلام الدافئ أن يؤسس لعلاقات ايجابية تنظر إلى المصالح القومية بمنظور مختلف عما هو عليه الآن.
في الضفة الأخرى يرى البعض إن “التفاؤل الحذر” هو ما يمكن التأسيس عليه في رسم مستقبل تلك الحورات، فأقصى ما يمكن أن تصل إليه نهايات الجولات في بغداد أو في مسقط لن يكون سوى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 2014 و2017 لا أكثر. في حين أن القضايا الجوهرية التي تؤصل العداء بين البلدين لا تزال غير مطروحة للنقاش بعد. ووفق هذا المنحى، فإن المنطقة لن تصل إلى السلام الدافئ في المنظور القريب والمتوسط. إزاء التفاؤل الحذر فإن فريقا آخر يرى أن ما يجرى حاليا هو بمثابة هدنة سياسية وإعادة تموضع انتظارا لفرص سياسية قادمة بعد استنفاذ الفرص القائمة نصيبها من التحقق والإنجاز. يستند الرأي الأخير إلى تحليل المعطيات الحالية وكيفية استثمارها في الحورات الدائرة بين الرياض وطهران والرهانات التي تتحرك عليها الحوارات، فجولات الحوار الحالية تعتمد على قاعدة أن ما يؤخذ من السياسية من الصعب التنازل عنه، وبالتالي فإن حدود الصراع المستنزفة لكلا البلدين سوف تتراجع إلى الوراء قليلا لكنها ستبقى متحفزة لاقتناص الفرص مجددًا.
يتأكد هذا المنحى في خلال تتبع مكنات الإعلام في إيران والسعودية وتنشيط “مقولات الشيطنة” في كل مناسبة وبلا مناسبة. فإيران – من وجهة نظر الإعلام السعودي – تشكل الخطر الأول على أمن الدول العربية وليس منطقة الخليج فقط، ولدى إيران نوايا توسعية وأمنية مخيفة لا يمكن التعايش معها، خصوصا وأن ضغوط السعودية ودول الخليج في تضمين الإتفاق النووي مسألة الصواريخ البالستية باءت بالفشل، الأمر الذي يعني انكشاف دول الخليج عسكريًا أمام الصواريخ الإيرانية. وإذا ما أضيف إلى ذلك ما تعتبره السعودية “أذرعًا إيرانية” في دول الطوق السعودي، فلا يبدو أن السعودية، مهما أبدت من خطابات تحمل نية التقارب مع ايران وتوصيفات إيجابية، لا يبدو أنها توصيفات واقعية، أو إنها تدلل على تغير في بنية التصور والفهم السعودي للخطر الإيراني. في الجانب الآخر فإن الجانب السعودي لا يزال ينتظر ثمار بعض السياسيات والرهانات التي يرى إنها ستضعف الموقف الإيراني وتجبره على التراجع وتقديم التنازلات وعلى رأس ذلك الضرر الاقتصادي الذي يلحق بإيران نتيجة العقوبات وتأجيل التوصل إلى الإتفاق النووي. وهو ما يمكن ترجمته في الرهان على انفجار الوضع الإقتصادي الداخلي في إيران وارتفاع حدة العجز والتضخم في الاقتصاد الايراني ستدفع بإيران إلى تغيير بعض سياساتها في المنطقة، وصولاً إلى أن ترخي من قبضتها السياسية. بل أكثر من ذلك، لا يبدو غريبًا دخول بعض الأطراف الممولة سعوديًا على خط مسألة الأقليات في ايران بالأخص في الأهواز ودعم الحركات الانفصالية في بلوشستان أو بعض الذئاب المنفردة من التنظيمات التكفيرية بهدف إشار إيران بقوة ونفوذ الجانب السعودي.
إن الذي يدفع بالجانب السعودي إلى الاستدارة والرغبة بالعودة إلى مربع الخلاف السياسي قبل 2017 هو المتغيرات الجيوسياسية التي طالت الأمن الاقتصادي السعودي عبر استهداف حقول النفط الكبرى بمسيرات يمنية كلفت الاقتصاد السعودي الكثير، هذه المتغيرات طالت أيضاً الأمن القومي من خلال تراخي الولايات المتحدة في تقديم الحماية المطلوبة للسعودية وعدم الدفاع عنها وفق الاتفاقيات الامنية الموقعة بين الولايات المتحدة والسعودية. أما الجانب الإيراني فالذي يحركه في الأساس هو العنصر الاقتصادي بدرجة أكبر من أي عوامل أخرى، وهو يبحث لنفسه عن مخارج اقتصادية على غرار تلك التي نسجها مع الإمارات ودول آسيا الوسطى.
ومن ناحية تقويمية فإن عوامل القوة التي يتكئ عليها الإيراني في استمرار الحوار ووضع نهايات ايجابية له، تبدو أقوى من تلك الرهانات التي تحرك الجانب السعودي في استمرار قطع العلاقات والاستمرار في الاستنزاف العسكري والاقتصادي في اليمن وغيرها من الدول التي تتنافس فيها مع إيران أو تخوض حروب بالوكالة فيها، وهو المأزق الإيراني نفسه وإن بدرجة أقل.
ما من شك أن منطقة الخليج بحاجة إلى “سلام دافئ مستديم” وأن المنطقة تستحق أنظمة وطنية تحقق العدالة السياسية المؤجلة تحت ذريعة حماية المصالح القومية والأمن القومي. وما من شك أن هذه اللحظة الزمنية تقف دونها عوامل كبح عديدة على رأسها المصالح الدولية المتشابكة مع المصالح القومية. وبالتالي فإن التفاؤل “الحذر” سيبقى هو التفسير الأقرب لواقع الحوارات السعودية الإيرانية وهو ما يكفل حاليا عودة الترسانة العسكرية إلى ثكناتها وخروج السيولة الاقتصادية إلى مصارفها الطبيعية، أما الجذور السياسية في الخلاف فستبقى متوثبة ومستعدة للتخريب وقت ما سنحت الفرص لذلك.