هل دخل العراق طواعية إلى كماشة القروض الصينية؟

في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019 دخلت الاتفاقية العراقية – الصينية حيز التنفيذ. تحتوي الاتفاقية على سبع مذكرات تفاهم واتفاق إطاري واحد وتهتم بميادين استثمارية عديدة في البنية التحتية للعراق. تسمى اتفاقية النفط مقابل البناء. ترى ما ثمن هذا البناء؟

لا تزال نصوصها غير معلنة. أو على الأقل لم نستطع الحصول على نسخة منها. وهذا أمر غير مريح للباحثين ويجعل التعليقات متصفة بالعمومية وعدم الدقة وتعتمد على الموقف السياسي من النظام القائم. أمام هذا الوضع وفي حدود ما تسرب منها من معلومات مؤكدة سوف يقتصر هذا المقال على نقطة واحدة ترتبط بتأثير الاتفاقية على مالية الدولة خاصة الديون.

تتسم المبادلات التجارية بين بغداد وبكين بأهميتها القصوى. تحتل الصين المرتبة العالمية الأولى في صادرات العراق. ففي عام 2018 بلغت الواردات العراقية من الصين 8955 مليون دولار. تليها من حيث الأهمية إيران والولايات المتحدة. 26% من الواردات العراقية غير الطاقية صينية. وبالمقابل يصدر العراق حوالي مليون برميل من النفط يومياً للصين أي 26% أيضاً من الصادرات العراقية النفطية الكلية. ويشكل النفط العراقي عُشر الحجم الكلي للنفط المستورد من قبل الصين.

يدل هذا الوضع على أهمية الصين في الاقتصاد العراقي والتي تحسنت بعد العقوبات الأمريكية ضد إيران. الأمر الذي يفسر مدى اهتمام الصين بضمان حصولها على النفط بصورة مستمرة. للاتفاقية العراقية-الصينية علاقة وطيدة بهذه الأهمية من الزاويتين التجارية والمالية.

كما يبين الميزان التجاري بين البلدين وجود فائض كبير لصالح العراق يتجاوز أحياناً عشرة مليارات دولار في السنة. سيبذل الصينيون إذن جهودهم في سبيل تحسين المركز التجاري لبلدهم مع العراق. وستتولى الاتفاقية تحقيق هذا الهدف.

آلية الاتفاقية

تعتمد الاتفاقية على آلية يمكن تلخيصها على النحو التالي:

إنشاء صندوق مشترك توضع فيه أموال عراقية قيمتها في المرحلة الأولى الحالية تعادل 100 ألف ب/ي. وهذا المبلغ يشكل 10% من الإيرادات التي يحصل عليها العراق من مبيعات النفط للصين.

عند القيام بمشروع معين في العراق من قبل شركة صينية تدفع لها أموال بواقع 1.8 مليار دولار كحد أقصى لكل عملية. شريطة أن لا يزيد المجموع الكلي للعمليات على عشرة مليارات دولار في السنة. وفي كل عملية يدفع العراق 15% من كلفة المشروع. وتتحمل المصارف الصينية الكلفة المتبقية.

ويمكن أن ترتفع المساهمة العراقية إلى 300 ألف ب/ي. عندئذ يزداد المجموع السنوي لتمويل الاستثمارات ليصل إلى 30 مليار دولار. وحددت مدة الاتفاقية بعشرين سنة.

يتبين أن 85% من كلفة المشاريع ستمول عن طريق القروض المصرفية الصينية. أما أسعار الفائدة فهي غير معلنة. الأمر الذي يثير مخاوف عديدة. ولكن انطلاقاً من مفاوضات سابقة عراقية-صينية في عام 2015 يتضح بأن هذه الأسعار سوف لن تقل عن 6%.

تداعيات خطيرة

يعاني العراق أزمة اقتصادية حادة. إذ لا تتوفر فيه حتى البنية التحتية اللازمة للقيام بعملية التنمية. ناهيك عن نقص في الخدمات السكنية والتعليمية والصحية والطاقية.

تتمخض إذن عن هذه الاتفاقية نتائج إيجابية. فهي تهتم ببناء المساكن والمستشفيات والطرق والمدارس والطاقة الكهربائية. ميادين ضرورية من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكن تحريك الاقتصاد بدونها. كما تسهم هذه المشاريع في زيادة فرص العمل في البلد الذي يشكو من الفقر والبطالة. كما يمكن الاستفادة من التقدم التكنولوجي والصناعي الصيني وانخفاض تكلفة الإنجاز.

لكن هذه الجوانب الإيجابية تتوقف بالدرجة الأولى على الطرف العراقي. إذ تتسم جميع مشاريع البنية التحتية في البلد بضعف التنفيذ نتيجة تفشي الفساد المالي.

تقوم آلية الاتفاقية من الناحية المالية على القروض الصينية التي ستقود بالضرورة إلى ارتفاع هائل للديون الخارجية العراقية وسيكون النفط الضامن لخدمة هذه الديون.

الصين تعلم جيداَ باستشراء الفساد المالي في العراق. كما أن بكين غير مستعدة لخسارة أموالها في العراق. أضف إلى ذلك أن العراق مثقل بديونه الخارجية الحالية والبالغة 125 مليار دولار أي ما يعادل 63% من الناتج المحلي الإجمالي. ويرتفع الدين العام الداخلي والخارجي سنويا. ووصلت فوائده إلى 12.7 مليار دولار الأمر الذي يرهق بشدة الميزانية العامة التي تسجل عجزاً مزمناً يتصاعد باستمرار. لذلك تمنح الوكالات العالمية المتخصصة للعراق درجات متدنية في التصنيف الائتماني. الأمر الذي يعكس ارتفاع كلفة القروض الخارجية لا سيما أسعار الفائدة. الاتفاقية العراقية-الصينية تأتي لتخلق أزمة جديدة لا قبل للعراق بها.

يدفع العراق فوائد وأقساط ديونه الخارجية من عائداته النفطية لعدم وجود إيرادات خارجية أخرى. وبالتالي قد يرى البعض أن تسوية الديون عن طريق هذه العوائد النقدية لا تختلف عن تسويتها العينية عن طريق النفط الخام. وهذا صحيح عندما لا يمر العراق بأزمة مالية.

لما كان النفط الخام وسيلة لسداد الدين بموجب آلية الاتفاقية لا يمكن للعراقيين التذرع بأزمة تستوجب إعادة جدولة ديونهم. بل يتعين عليهم الاستمرار بتصدير النفط إلى الصين بعض النظر عن طبيعة الأزمة وحجمها. وقد تكون الصادرات دون مقابل غير كافية لخدمة الديون. عندئذ يصار إلى إعادة برمجة المبالغ المتبقية. ويفترض هذا الإجراء موافقة الصين. أما إذا رفضت فسيضطر العراقيون إلى منحها مكاسب سياسية وامتيازات اقتصادية تتناسب مع حجم الديون المستحقة.

يعتمد تقدير حجم الديون الناجمة عن الاتفاقية على عدة مؤشرات في مقدمتها حجم الاستثمارات المخطط لها والذي يحدد قيمة القروض لتمويلها. وكذلك سعر الفائدة ومدة القرض.

بالنظر لانعدام الشفافية في المعلومات سوف نفترض وصول المعدل السنوي للقروض إلى عشرين مليار دولار بأسعار فائدة سنوية صافية قدرها 5% لمدة عشرين سنة. وتجدر الإشارة إلى أن العراق يبيع النفط للشركات الصينية لكنه يستلم الإيرادات بعد مضي اكثر من شهر. وقد تم الاتفاق على احتساب فائدة عن هذا التأخير لصالح العراق. وهذا مكسب مهم. ولكن يتعين تجنب المبالغة في أهميته. بتقديرنا سوف لن يتجاوز سعر الفائدة في هذا الميدان 1%. لذلك وضعنا نسبة صافية لسعر الفائدة في القروض الصينية وهي 5% وليس 6%.

عندئذ يصبح مجموع خدمة الديون المستحقة للصين 610 مليار دولار لغاية 2040 (حساب تقريبي أجراه المؤلف). هذا المبلغ يعادل 308% من الناتج المحلي الإجمالي. بمعنى أن العراق الذي يحصل حالياً على اكثر من عشرين مليار دولار من صادراته النفطية للصين والبالغة مليون ب/ي سيضطر إلى تزويد الصين بكمية من النفط تصل إلى 1.4 مليون ب/ي دون الحصول على أي إيراد بل لقاء سداد ديونه المستحقة. سوف لن يكون النفط مقابل البناء بل مقابل القروض.

وعلى افتراض عدم لجوء العراق مجدداً للاقتراض من دول أخرى طيلة العشرين سنة القادمة (وهذا مستبعد بسبب العجز المزمن للميزانية العامة) فإن مجموع الديون العراقية الخارجية ستصل إلى 735 مليار دولار. سيترتب على هذه الحالة نتائج خطيرة يمكن التعرف عليها من خلال التجارب المماثلة للدول التي تعاملت مع الصين في الاستثمار عن طريق الاقتراض.

تسعى بكين إلى الحصول على حقوقها المالية المترتبة على قروضها الممنوحة للدول. وعندما يصعب على الدولة المدينة الوفاء بالتزاماتها لسبب أو لآخر وتتعذر إعادة جدولتها يمارس الصينيون ضغطاً هائلاً للحصول على مكاسب سياسية وامتيازات اقتصادية. فعلى سبيل المثال عجزت سريلانكا عن سداد ديونها الناجمة عن استثمارات صينية. فاضطرت حكومتها إلى التنازل عن القسط الأكبر من اسهم مينائها للصين. ونفس المشكلة وقعت لجيبوتي وكينيا. وفي ماليزيا قدمت الحكومة طلباً للصين بإلغاء الاتفاقية التي تهتم بالبنية التحتية الماليزية نظراً للكلفة العالية للقروض الصينية. وقدمت باكستان طلباً مماثلا.

في حالة تغيير نظام الحكم في بغداد ستطالب الحكومة الجديد بإلغاء الاتفاقية كما فعلت ماليزيا. أما إذا استمر الوضع على النحو الحالي فسيقع العراق في فخ القروض الصينية وسوف لن يستطيع خدمة الديون المترتبة عليها. عندئذ ستتكرر تجارب سريلانكا ودول أفريقية.

ما العمل؟

من الناحية المبدئية لا ضير في الاستدانة من أجل التنمية لأن النمو الاقتصادي سيتكفل بسداد كلفة القروض. بيد أن خصوصيات العراق تستوجب الامتناع جهد الإمكان عن الاقتراض خاصة الخارجي نظراً لارتفاع العبء الحالي.

لمعالجة التداعيات السلبية للاتفاقية العراقية-الصينية يتعين العمل على أربعة مستويات متوازية ومتلازمة.

المستوى الأول: الإدارة الرشيدة للمالية العامة. الخطوة الأولى هي معالجة الفساد المالي المستشري في مفاصل الدولة والذي يقود إلى ارتفاع كلفة المشاريع وإلى تعثر تنفيذها. كما يجب إصلاح النفقات العامة المدنية والعسكرية. ستقود الإدارة المالية السليمة إلى إعادة التوازن إلى ميزانية الدولة فيهبط الدين العام. عندئذ يمكن اللجوء إلى الاقتراض للتنمية.

المستوى الثاني: التدرج في التنفيذ. يتعين تحديد الحاجات قبل الاقتراض وليس العكس كما يجري حاليا. كما يجب تنفيذ مشروع ما وتسوية كلفته ثم الشروع بمشروع آخر وهكذا. يتم الاختيار وفق الأولويات. الحكمة من ذلك تفادي تراكم الديون وما يترتب عليه من صعوبة الوفاء بالالتزامات الناجمة عنها.

المستوى الثالث: مشاريع إنتاجية. تكاد تقتصر الاتفاقية على المشاريع الخدمية. في حين كان من المفروض الاهتمام أيضاً بإنتاج السلع لغرض الاستهلاك والتصدير. يحتاج العراق إلى مصانع لإنتاج جميع أنواع المواد المدنية والمعدات العسكرية. من الزاوية المالية يمكن لهذه المصانع تقليص الواردات عن طريق تغطية الاستهلاك المحلي. كما يمكنها المساهمة في تحسين الصادرات فترتفع الإيرادات غير النفطية ويتم سداد الديون الخارجية. كما يتخلص العراق من الريعية.

المستوى الرابع: برنامج خدمة الديون. يتعين إبرام اتفاق يوضح بصورة دقيقة التزامات وحقوق الطرفين خاصة المتعلقة بخدمة الديون. لابد من الاستفادة من التجارب الإيجابية والسلبية للدول التي اقترضت من الصين للاستثمار. الهدف حماية مصالح العراق ومستقبل مواطنيه.

منشورات أخرى للكاتب