النفقات العسكرية السعودية: الأمل في التصنيع 4 من 4

يثير الإنفاق العسكري خاصة واردات الأسلحة مشاكل خطيرة تسهم في تردي الوضع المالي سواء تعلق الأمر بالميزانية العامة أم بالميزان الجاري. لذلك بات من الضروري العمل على تقليص هذه الواردات عن طريق تنمية التصنيع المحلي. وهكذا ازداد اهتمام السعودية بالتصنيع فحققت في السنوات الأخيرة نتائج إيجابية لا يستهان بها. رغم ذلك، لا تزال صناعة الأسلحة المحلية تصطدم بعدة عقبات.

حسب الإدارة العامة لدعم التصنيع التابعة لوزارة الدفاع انتقل حجم الإنتاج العسكري من 182 صنفاً في عام 2010 إلى 4527 صنفاً في عام 2017. وازداد عدد قطع هذه الأصناف ليبلغ 65 مليون قطعة (تصريح مدير الإدارة في يناير 2018).

لتنظيم عمليات الإنتاج تم إطلاق نظام مزاولة أنشطة الصناعات العسكرية اعتباراً من 8 سبتمبر 2019. يتضمن ثلاثة أنواع للتراخيص: التصنيع العسكري والخدمات العسكرية وتوريد المنتجات أو الخدمات العسكرية. ويشمل كل نوع عدة ميادين كالأسلحة والذخائر والمتفجرات. ويخاطب هذا النظام المصانع المتخصصة السعودية كما يشجع الأجانب على الاستثمار في هذا القطاع.

وتتجلى أهمية التصنيع العسكري في تلبية الطلب المحلي المتزايد وبالتالي فهو يسهم في تقليص الاعتماد على الغير. يؤدي الإنتاج المحلي إلى توفير الأموال التي تمثل الفرق بين السعر المحلي وسعر الاستيراد. فحسب الإدارة العامة أن قطعة عسكرية مستوردة بمبلغ مليون ريال تنتج محلياً بكلفة خمسين ألف ريال. وأن قطعة عسكرية مستوردة بمبلغ 33 ألف ريال تنتج محلياً بكلفة 127 ريالاً فقط (التصريح المذكور أعلاه). ولكن الإدارة لا تبين طبيعة هذه القطع. كما أنها تقارن بين كلفة الإنتاج المحلي وسعر الاستيراد وهذا لا يجوز لأنها لا تأخذ بنظر الاعتبار الأموال التي أنفقتها السعودية لشراء رخص الإنتاج من الشركات الأجنبية.

يعود الاهتمام السعودي بالتصنيع العسكري إلى منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم حيث أقرت برنامج التوطين الاقتصادي (الاوفست). لكن الوضع أخذ منعطفاً جديداً في السنوات الأخيرة.

المبادئ

يمكن استخلاص خمسة مبادئ أساسية من رؤية السعودية 2030 .

المبدأ الأول تدريب المواطنين على تقنيات الصناعات العسكرية. وهذا أمر في غاية الأهمية والصعوبة في آن واحد.

المبدأ الثاني. التدرج. ويتضمن برنامجاً يبدأ بالصناعات الأقل تعقيداً كالذخائر وقطع الغيار. ثم تتطور الصناعة لتصل إلى الطيران العسكري.

المبدأ الثالث. الإنتاج للاستهلاك والتصدير. لا يتوقف الإنتاج عند تلبية الحاجات المحلية بل يمتد ليشمل تصدير الأسلحة إلى دول الجوار والبلدان النامية. ويتوقع أن تصل حصيلة هذه الصادرات إلى خمسة مليارات ريال بحلول عام 2030. كما سيسهم قطاع الصناعة العسكرية بمبلغ 14 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي وسيخلق بالتالي فرص عمل جديدة ومباشرة قدرها أربعة آلاف وظيفة.

المبدأ الرابع. التوطين. تنص وثيقة رؤية السعودية 2030 (صفحة 46) على ما يلي: “أن هدفنا هو توطين ما يزيد على 50% من الإنفاق العسكري بحلول 1452 ه – 2030 م”.

تناقلت وسائل الإعلام هذه العبارة دون تدقيق صياغتها. فقد كان من الأفضل النص على توطين 50% من حاجات البلد من الأسلحة أو من الواردات العسكرية وليس من الإنفاق العسكري. ومن المعلوم أن الواردات العسكرية تمثل اقل من ربع الإنفاق العسكري.

ترصد السعودية أموالاً طائلة لاستيراد الأسلحة نتيجة ضعف الإنتاج المحلي. يمثل هذه الإنتاج 2% فقط من الحاجات العسكرية في عام 2015. بمعنى أن الهدف هو تصنيع اكثر من نصف الحاجات المحلية.

وتجدر الإشارة إلى أن إنفاق القطاع العسكري السعودي بلغ 662.3 مليار دولار خلال الفترة بين 2009 و 2018. مقابل 148.6 مليار دولار في تركيا و 126.5 مليار دولار في إيران. في حين أن القدرات العسكرية لهاتين الدولتين ليست أدنى من القدرة العسكرية السعودية. يطرح هذه الوضع إشكاليتين: أولهما ضعف فاعلية السياسة المالية العسكرية السعودية. وثانيهما ضرورة الحصول على نتائج إيجابية وسريعة في ميدان التصنيع العسكري.

المبدأ الخامس. الشراكة الأجنبية. يتطلب التصنيع اتفاقات لشراء براءات الاختراع أو الترخيص بالإنتاج وفق القواعد القانونية المعروفة. وقد قامت الدولة بتأسيس الشركة السعودية للصناعات العسكرية في عام 2017 لتحقيق هذا الهدف.

ففي عام 2019 وقعت الشركة اتفاقاً مع شركة هانوا للدفاع الكورية (الصواريخ والمركبات) واتفاقاً مع شركة باراماونت الجنوب أفريقية (الطيران والتدريب) واتفاقاً مع شركة إل 3 تكنولوجيز الأمريكية (الأشعة الكهروضوئية والأشعة تحت الحمراء) واتفاقاً مع شركة نافال الفرنسية (الدفاع البحري).

تقدير التصنيع

الاعتماد على الأسلحة المستوردة خاصة في أوقات الحرب يثير مشاكل خطيرة عندما تمتنع دول من توريد المعدات العسكرية لسبب أو آخر. لا شك أن البلدان الصناعية تتكالب على السعودية من أجل تصدير معداتها المدنية والعسكرية. لكن الحظر الألماني خلق عدة مشاكل. فقد اتخذت برلين في نوفمبر 2018 قراراً بمنع تصدير المعدات العسكرية إلى الرياض. وتم تجديده في سبتمبر 2019. بطبيعة الحال تعتمد السعودية اعتماداً أساسياً على الولايات المتحدة. بيد أن هنالك أيضاً مشتريات سعودية من بريطانيا وفرنسا. أدى الحظر الألماني خلال الأشهر الخمسة الأولى إلى التأثير على برامج عسكرية مهمة في السعودية. إذ تشترك ألمانيا مع بريطانيا وفرنسا في صناعة بعض الأسلحة المصدرة للسعودية. قاد الحظر الألماني إذن إلى خسائر تجارية في بريطانيا وفرنسا. لذلك مارست لندن وباريس ضغوطاً على برلين من أجل استثناء الأسلحة الأوربية من الحظر الألماني. وافقت ألمانيا على هذا الاستثناء في مارس 2019.

التصنيع المحلي السعودي يمثل الرد الحاسم على مثل هذه المشاكل. لكنه على الصعيد العملي يصطدم بعدة معوقات تحول دون تنفيذ تلك المبادئ.

صناعة الأسلحة تتطلب تكنولوجيا متطورة غير متوفرة في السعودية. ويحتاج اكتسابها لاسيما توليدها إلى قدرات علمية عالية.

كما يرتبط التسلح السعودي بالدرجة الأولى بالأسلحة الأمريكية. أدى هذا الوضع إلى تبعية فنية وسياسية بحيث يصعب الاعتماد على التكنولوجيا الروسية أو الصينية. من المعلوم أن السعودية نقلت العديد من البرامج العسكرية من كوريا الجنوبية وتركيا. لكن المختصين العسكريين السعوديين نقلوا من هذين البلدين ما له علاقة بالتقنية الأمريكية (ندوة عقدت بالرياض في مارس 2018 بعنوان واقع الصناعات العسكرية المحلية).

ولا توجد أطر سعودية مؤهلة للتصنيع العسكري. الأمر الذي يفسر العقود المبرمة مع شركات أجنبية متخصصة بالتدريب. عندئذ يتأخر تنفيذ المشاريع.

أما عقود التصنيع المبرمة مع الشركات الأجنبية فتكاد تنحصر بتجميع الأسلحة والذخائر داخل السعودية. فعلى سبيل المثال أنتجت السعودية طائرة بدون طيار (لونا) وهي في الواقع تجميع للطائرة الألمانية. ويقول السعوديون أن طائرة صقر 1 بدون طيار صناعة سعودية بالكامل. دام تصميمها عدة سنوات في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية. في حين تشير التقارير إلى أنها صناعة تجميعية تستخدم على سبيل المثال محرك روتاكس النمساوي. ويشمل التجميع أيضاً الأسلحة الخفيفة كبندقية ام بي 5 وهي من إنتاج شركة هكلر أند كوخ الألمانية.

كما يتسم التوطين بالبطء بحيث سيكون من الصعب تحقيق النسبة المستهدفة في الوقت المحدد. إذ تبين بأن نسبة التوطين انتقلت من 2% في عام 2015 إلى 5% في عام 2017. وعلى افتراض الاستمرار على هذا المنوال فسوف يتحقق الهدف في عام 2048 وليس في عام 2030.

وبغض النظر عن هذه المعوقات لابد من التأكيد على أن تنفيذ تلك الأهداف يستوجب رصد أموال طائلة لا توجد بشأنها معلومة دقيقة. بيد أن نجاح التصنيع يقود إلى تقليص فاتورة الاستيراد.

تحتل السعودية حالياً المرتبة العالمية الثانية بعد الهند في استيراد الأسلحة. اصبح التصنيع إذن ضرورة ملحة لتقليص الواردات. وتعتبر نسبة التوطين المستهدفة 50% بحلول عام 2030 على درجة عالية من الأهمية. لابد من إجراء مقارنة بين الإنفاق العسكري الكلي وحجم الواردات العسكرية لتوضيح مدى تأثير الواردات على النفقات.

لما كان المعدل السنوي للإنفاق العسكري  الكلي 74 مليار دولار وعلى افتراض أن حجم الواردات العسكرية 15 مليار دولار فأن هذه الواردات تمثل 20% من النفقات. نستنتج من هذه العلاقة أن التوطين حتى وإن بلغ 100% سوف لن يعالج ارتفاع الإنفاق العسكري. الأمر الذي يشير إلى مدى أهمية وفاعلية العامل السياسي في مواجهة هذه المشكلة أي العمل على تخفيف حدة التوترات والصراعات في منطقة الخليج.

خاتمة

الإنفاق العسكري السعودي مرتفع حسب عدة معايير. يقود هذا الأمر إلى تدهور الأوضاع المالية الداخلية والخارجية. عندئذ يهبط النمو وترتفع أسعار الاستهلاك وتعم البطالة وتتفاقم الديون العامة وتنخفض الاستثمارات.

لمعالجة هذه المشكلة تتبع السعودية طريقين:

الطريق الأول التصدي للعجز المالي. حسب التوقعات الرسمية يتجه هذا العجز نحو التراجع حتى تصل الميزانية العامة إلى التوازن بحلول عام 2023. يفترض أن تتحقق الآمال بتزايد الإيرادات النفطية وهذا غير مؤكد وأن تتصاعد حصيلة الضرائب فينخفض مستوى المعيشة. ناهيك عن أن العجز المالي نتيجة لعوامل عديدة في مقدمتها ارتفاع الإنفاق العسكري. وبالتالي لا يعقل معالجة العجز للتصدي لهذا الارتفاع. بل العكس صحيح.

الطريق الثاني. التصنيع. يعتقد السعوديون أن ارتفاع الإنفاق العسكري ناجم عن ضعف الصناعات العسكرية المحلية. أي سوف يوفر لهم التصنيع المحلي أموالاً لا يستهان بها. وهذا الاعتقاد سليم وبالتالي يتعين بذل الجهود لتنمية الإنتاج الداخلي.

ولكن لا يجوز المبالغة في فاعلية وأهمية التصنيع لأن الاستيراد لا يمثل سوى قسطاً من المصروفات العسكرية الكلية. أضف إلى ذلك تعثر هذه الصناعة لأسباب عديدة.

توصي هذه الدراسة بضرورة التخفيف من حدة التوترات السياسية والصراعات العسكرية في منطقة الخليج. يتعين على الجميع تجنب التدخل بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة في الشأن الداخلي للغير. للسعودية بلا شك الحق في الدفاع عن نفسها ضد أي تهديد لأمنها واعتداء على سيادتها. ولكن الأفضلية يجب أن تمنح للسلام الكفيل بتقليص المصروفات العسكرية وهو الركيزة الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

منشورات أخرى للكاتب