نظام شبكات الحقل السياسي في الكويت: الشيعة من الموالاة إلى المعارضة إلى الموالاة
في العام 2017م تحدث النائب عدنان عبد الصمد في مجلس الأمة الكويتي لأول مرة عن هموم وهواجس الطائفة الشيعية. معتبراً ما تواجهه هو “تمييز واقصاء عن تولي المناصب الإدارية في الدولة، فضلاً عن تعقيدات بناء المساجد الشيعية التي يستغرق استخراج رخصة لبنائها سنوات طويلة”.
حديث النائب عدنان عبد الصمد لا يعد جديدًا بالنسبة لنواب مجلس الأمة أو الحكومة نفسها. طالما تحدث نواب آخرون عن تلك الهواجس كما فعل النائب صالح عاشور ذلك مرارا، وطالما تجاهلت الحكومة الكويتية هذه الدعوات تحت عناوين مختلفة، أهمها عدم الرغبة في إثارة القوى الدينية الأخرى تارة، أو عبر مقايضة السكوت الشيعي بقضايا أمنية محددة تارة أخرى. الجديد هنا، هو أن الحديث يصدر من السيد عدنان عبد الصمد نفسه الذي طالما قدم نفسه وحدويًا ووطنيًا مفضلًا سرد هموم الوطن والحديث عن الوطن، بدلًا عن الحديث عن الطائفة الشيعية تخصيصًا.
قبل أن يكون السيد عدنان عبد الصمد نائبًا في مجلس الامة العام 1981م كان عضوًا في جمعية الثقافة الإسلامية مصنفًا ضمن فئة الشباب الثائر على تعاطي أعيان ووجهاء الشيعة وتجارها مع الحكومة. حينها، كانت النخب الشيعية تدير أمورها وفقًا لخيارات تاريخية تأسست عليها السياسة الشيعية في الكويت وتأسست معها سياسات حُكام الكويت مع المواطنين من الطائفة الشيعية.
تاريخيا كان الشيعة ومنذ الفترات الأولى لتأسيس الكويت في توافق تام مع أسرة آل الصباح باعتبارهم حكاما مرضيين لدى فئات المجتمع، ولم تكن المؤسسات الحديثة قد دخلت في تحديد الخيارات وبناء الشبكات السياسية داخل المجال السياسي. ولهذا، كانت العلاقات بين الحاكم وفئات المجتمع علاقات مباشرة، وربما شخصية أيضا، خصوصا مع فئة الأعيان والوجهاء والتجار. نتج عن ذلك تأسيس علاقة شراكة في إدارة المجتمع بين الوجهاء الأعيان من جهة والحكام من أسرة آل الصباح من جهة أخرى.
أوجدت المؤسسات السياسية التي تم استحداثها في بدايات القرن العشرين (مجلس الشورى في 1921، المجلس التشريعي 1938م، المجالس البلدية…. الخ) فضاءًا سياسيًا مختلفًا، وساهمت في تشكيل الحقل السياسي وفقا لنظرية بورديو القائلة بأن الخيارات السياسية في المجال السياسي تنشأ نتيجة صراع داخلي بين الفاعلين وبروزهم من أجل بناء شبكة المصالح السياسية والمصالح الأخرى. في البجايات، استبعدت الدولة الجماعات الشيعية من تلك المؤسسات بل إنه في فترة ما، تحديدًا في 1938م، تبنت مؤسسة المجلس التشريعي قرارًا بإقصاء الشيعة عن المشاركة فيها. ونظرا لتعارض مصالح الحكم مع مصالح أعضاء المجلس التشريعي كانت معارضة الجماعات الشيعية واضحة وفضلت الاحتماء بالحاكم في سبيل إلغاء هذا القرار.
مصالح الأمير من الأسرة الحاكمة وأبناء الطائفة الشيعية ساهمت وتوافقت على إنهاء المجلس التشريعي. وكان الشيعة يمثلون لدى الحاكم وقتها في مناصب اقتصادية واستشارية عليا، كما في حالة أمين الخزينة السيد عبدالكريم أبل الذي كان يلقب بوكيل أعمال الشيوخ. وفي الواقع، لم يكن “أبل” الوحيد من الشيعة إذ تشير وثائق عديدة إلى علاقات شخصية نسجها حكام الكويت مع جماعات الشيعة، وعلى وجه الخصوص الوجهاء والأعيان منهم. ويشار هنا إلى مساهمة شيوخ الكويت في بناء بعض المؤسسات الشيعية الخاصة، كما في تبرع شيوخ الكويت في بناء حسينية “معرفي” وفي مساجد وجوامع شيعية أخرى قبل الطفرة النفطية.
استمرت هذه العلاقة وطيدة حتى بعد الطفرة النفطية وكتابة الدستور، شواهد ذلك تبرع الشيخ فهد السالم في بناء وتسهيل بناء جامع “النقي” الذي احتضن السيد عدنان عبد الصمد وقتها ضمن إطار شباب “النقي” واللجنة الثقافية التي كانت تدير أغلب الأنشطة الاجتماعية والثقافية.
تعافت الكويت سريعا من النزعات “الشوفينية” التي سادتها في 1938م عبر كتابة دستور حديث، وتأسيس مؤسسات سياسية أكثر استيعابًا من المؤسسات القديمة. وهو ما سمح للشيعة أن يعاملوا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. إلا أن الشيعة وقتها وقبل انتخابات 1981م كانوا يمثلون الفئة الموالية للحكومة والفئة التي لا ترى أن هناك استبعادًا لها، بل ربما كانت وجهة النظر تذهب إلى أن الاحتماء بالحكومة يمثل خيارًا عقلانيًا لأغلب الجماعات الشيعية لكونه خيارًا يوفر لهم فرصًا سياسية للبروز والظهور كفاعلين ضمن المجال السياسي المتصارع على المكانة الاجتماعية والسياسية. لم يمنع ذلك الخيار – شبه الجماعي – من وجود تمرد وخروج عليه من قبل بعض الجماعات والأشخاص الذين لم يكونوا ممثلين ضمن الفاعلين التاريخيين في الشبكة السياسية المنجزة حديثًا.
استطاع السيد عدنان عبد الصمد ومجموعة الشباب الذين تلقوا تعليمهم الديني في جامع “النقي” من إعادة تشكيل التمثيل السياسي الشيعي في انتخابات 1981م وصولاً إلى أن يفوزا في تلك الانتخابات متخطين تمثيل الأعيان والوجهاء الذين ظلوا يمثلون الشيعة منذ أول انتخابات نيابية في 1963م بعد الاستقلال.
اتسم وعي السيد عدنان وأصدقائه بالاختلاف في الرؤية السياسية وفي ضرورة فك التحالف مع الحكومة ربما لسببين؛ الأول ضرورة بناء العلاقة بين الشيعة ونظام الحكم على أسس المواطنة بدلًا من الحماية والمكافأة التي كانت سائدة قبلاً، والسبب الثاني لطبيعة تعقد شبكة المجال السياسي وعدم قدرة الخيارات السابقة على تلبية حاجات الفاعلين الجدد ورؤاهم في قضايا الدولة والمجتمع.
ساهم حدث الثورة الإسلامية في إيران في بلورة الانقلاب السياسي على تلك العلاقة الخدمية بين مؤسسة الحكم في الكويت والطائفة الشيعية، كما رفد الانقلاب الحراك السياسي المجتمعي الشيعي في مسجد شعبان 1979م حدوث انقلاب مضاد لدى الحكومة الكويتية أيضا في علاقتها ووجهة نظرها تجاه الجماعات الشيعية. أصبح من الواضح أن هناك تفريقًا لدى الحكومة في علاقتها مع الجماعات الشيعية، فهي أبقت على علاقاتها التاريخية الخدمية مع الوجهاء والأعيان من الطبقة القديمة من الشيعة في حين كانت تنظر بريبة وحذرٍ تجاه الجماعات الناشطة حديثًا والقادرة على جذب الأصوات الانتخابية وتمثيل الشيعة سياسيًا.
عمليًا لم تستمر الحياة السياسية كما أسسها الدستور. دخلت الكويت في مرحلة قمع سياسي طوال عقد الثمانينات، هذا القمع طال عديد المعارضين لسياسة الحكومة، ومن بينهم الجماعات الشيعية الجديدة. عززت القبضة الأمنية تنمية خيارات معاندة لدى بعض الجماعات الشيعية وربما وصل الأمر ببعض أفراد تلك الجماعات إلى إشهار العنف السياسي في محاولة لفرض توزان بين الحكومة والمجتمع. ولحسن الحظ لم تستمر هذه المرحلة طويلًا، أنهى الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990م حالة الارباك السياسي وأعاد موازين القوى السياسية إلى نصابها، واعترف الجميع بارتكاب أخطاء في التدبير السياسي المحلي.
مرة أخرى قاد السيد عدنان عبد الصمد مرحلة المعارضة السياسية في فترة ما بعد تحرير الكويت، وظلت الجماعات الشيعية ضمن تصنيفات المعارضة السياسية القوية وقتها. إلا ان هذه القيادة لم تستمر أكثر من عقد من الزمن إذا اسفرت شبكة الفاعلين الشيعة بروز فاعلين جدد ينافسون تيار عدنان عبد الصمد.
سياسيا مثلت حكومة الشيخ ناصر المحمد الصباح (2006م-2011م) فترة النقاء السياسي بين الجماعات الشيعية والحكومة. وطالما نظر لهذه العلاقة بشيء كبير من الربية من قبل الجماعات الدينية والسياسية الأخرى. كان موقف الجماعات الشيعية يبدو مواليًا بعد أن حقق الشيعة كثيرًا من مطالبهم المذهبية في بناء المساجد وقانون الأوقاف وغيرها من المسائل التي كانت معطلة. الحكومة بدورها كانت تثمن خيار الموالاة لكنها أيضا ومن جهة أخرى، لا تتكئ على مثل هذه العلاقات لوجهة نظر تقول إن علاقات الشيوخ تقودها علاقات الصراع الداخلية ضمن الاسرة الحاكمة، وأن نمط التحالفات الخارجية يعتمد بدرجة كبيرة على مخرجات الصراع الداخلي لأقطاب الاسرة الحاكمة نفسها.
وتبعاً للخلافات داخل الأسرة؛ تبدلت العلاقات السياسية بين النخب الشيعية والحكومة. في الوقت الذي فضلت الجماعات الشيعية الانتظار لما بعد جلاء غبار الصراعات الداخلية كانت الكويت تعيش تحت وطأة الاضطراب السياسي وتغير الحكومات السريع واضطراب في انتظام العملية السياسية الانتخابية. وليس من البعيد أو المبالغ فيه القول إن فترة الاضطراب هذه أخذت مساحة زمنية لم تكن متوقعة لدى كل الأطراف والفاعلين في المجال السياسي.
ليس من المؤكد هنا أن يكون السيد عدنان عبد الصمد والنواب الشيعة الأخرون قد تحركوا من منطلقات مذهبية طوال أربعة عقود. لكن الشيء المؤكد، هو أن علاقات النخب الشيعية مع الحكومة يمكن تحكيمها وفقًا لتفاعلات (مرئية وغير مرئية) لشبكة المصالح ضمن المجال السياسي الكويتي. شبكات المصالح التي تتحكم فيها عناصر “متباينة” تتحكم في بروز فاعلين جدد ضد فاعلين قدماء، وتتحكم فيه علاقة أقوى وأكثر تأثير وأهمية، وهي علاقة الصراع في الدواوين الداخلية للأسرة الحاكمة.
أما بقية الأوراق الأخرى التي استخدمت ضد خيارات الجماعات الشيعية كما في تأبين عماد مغنية وخلية العبدلي وغيرها؛ فتبقي أوراق خريف.