نحو إصلاح مالية الدولة في الدستور العراقي

وضع الدستور العراقي الحالي على عجالة من قبل ممثلين عن أحزاب سياسية غير مختصين بالشأن القانوني والقضايا الاقتصادية. تبين من خلال التطبيق عدم استجابته للواقع العراقي ولطموحات المواطنين. ولا يتوقف الأمر عند الحقوق والواجبات وعلاقة السلطات العامة البينية بل يمتد إلى الجانب المالي الذي يهم عدة نقاط. ولكن سوف يركز هذا المقال على نقطتين هما توزيع إيرادات النفط والضرائب.

توزيع إيرادات النفط

تنص المادة 11 على ما يلي: “النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات”. بغض النظر عن الصياغة الركيكة لهذا النص كما هو حال أغلب نصوص الدستور إذا كانت الملكية للشعب لماذا ذكرت الأقاليم والمحافظات؟ وهل هذا يعني حرمان ملايين العراقيين المقيمين بالخارج من حقوقهم في ثروات بلدهم؟

ولا تقتصر ثروات العراق الطبيعية على النفط والغاز الطبيعي بل تشمل أيضاً مواد أخرى كثيرة كالفوسفات والكبريت واليورانيوم واليوريا والسلفور والأمونيا. هل أن هذه المواد لا تدخل في ملكية الشعب؟

وإذا كان شكل الدولة بموجب المادة الأولى من الدستور اتحادياً يصبح من المنطقي أن يكون النفط والغاز الطبيعي وكذلك جميع الثروات الطبيعية الأخرى مملوكة للمحافظة التي تتواجد فيها وليس للشعب بأكمله. وملكية الثروات الطبيعية للسلطات المحلية معروف في الدول الاتحادية كالإمارات.

بموجب التجربة العراقية يتبين بأن الفيدرالية لا تتناسب مع الوضع العراقي وتاريخه وتقاليده وتطلعاته. لذلك لابد من إلغاء جميع المواد الدستورية المتعلقة بالنفط والاستعاضة عنها بمادة واحدة: “الثروات الطبيعية ملك للدولة وهي التي تتكفل حسن استغلالها”. هذا هو نص المادة 14 من دستور عام 1968. كما انه ينسجم مع نصوص دساتير عربية أخرى.

تحكم توزيع إيرادات النفط الفقرة الأولى من المادة 112: “تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة. على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد. مع تحديد حصة لمدة محددة والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق. والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد. وينظم ذلك بقانون”.

من الناحية الفنية يحتوي هذا النص على أحكام مختلفة تماماً كان من اللازم تخصيص مادة مستقلة لكل منها. الحكم الأول يتعلق بإدارة النفط والغاز الطبيعي. والثاني يرتبط بمعايير التوزيع. والثالث يخص الأقاليم المتضررة.

يتناول التوزيع النفط المستخرج من الحقول الحالية. ومن المعلوم أن الحقول يمكن ان تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حقول مكتشفة منتجة وحقول مكتشفة غير منتجة لسبب أو لآخر وحقول ستكتشف لاحقا. من الناحية المنطقية الإيرادات (وليس الواردات) التي تصلح وفق النص أن تكون محلاً للتوزيع هي تلك المتأتية من الحقول الحالية أي المنتجة فعلا. أما إيرادات الحقول غير المنتجة والحقول المستقبلية فلا يسري علها التوزيع. وبالتالي تتصرف فيها الدولة وفق ما تشاء. علماً بأن ارتكاز التوزيع على هذا النحو غير منطقي لأن مجرد الإنتاج النفطي الحالي لا يجوز أن يشكل الحد الفاصل بين التوزيع حسب عدد السكان وعدم التوزيع.

حسب النص يشمل التوزيع جميع الإيرادات النفطية للحقول المنتجة. وهذا أمر غير منطقي وغير قابل للتنفيذ. إذ هنالك نفقات مركزية تخص الدفاع والأمن والدبلوماسية والتعليم والصحة وغيرها. ينبغي توزيع الإيرادات بعد طرح هذه النفقات. وهذه العملية الحسابية غير مذكورة في الدستور.

ويشير النص إلى التوزيع بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني. وهذا التنظيم لا يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. التوزيع الملائم للإيرادات العامة يجب أن يرتكز على الحاجة فقط. وتتضمن الحاجة عدة مؤشرات في مقدمتها مساحة المحافظة وبنيتها التحتية ومشاكلها الاقتصادية قدرتها المالية وعدد سكانها. عملية تفاعل هذه المؤشرات تعبر عن الحاجة مع الأخذ بنظر الاعتبار العامل الزمني.

أما تحديد حصة للأقاليم المتضررة فهو يكرس التفرقة بين مدن الوطن الواحد. فهذا النص لا يعني محاباة منطقة على حساب منطقة أخرى فحسب بل يوحي أيضاً بأن هنالك مناطق استفادت من النظام السابق وبالتالي لابد من معاقبتها على الأقل من الناحية المالية. هذا الفهم دليل على أن المعارضة السياسية كانت طاغية على واضعي الدستور. ولحد الآن لم يتخلص الكثيرون من هذا الشعور.

حسب النص للمحافظة المتضررة من الحكم السابق حصة نفطية تتناسب مع عدد سكانها وحصة أخرى تعوضها عن هذا الضرر. بمعنى أن المحافظات الأخرى التي تعتبر غير متضررة لا تجد حتى حصتها النفطية. ناهيك عن الصعوبات العملية في تقدير هذا الضرر. لو كان النص يعوض الأشخاص المتضررين من ممارسات الحكم السابق لكان الأمر منطقياً وقابلاً للتنفيذ بصورة عادلة وفق بيانات محددة.

لم يجد هذا النص الدستوري تطبيقاً عملياً له. فلم تحصل المحافظات الجنوبية على حصة نفطية تتناسب مع عدد سكانها ولا تعويض عن الضرر الذي أصابها من النظام السابق. بل ظهرت في قوانين الموازنة الاتحادية فقرات تخصص نسبة معينة أو مبالغ مقطوعة للمحافظة المنتجة للنفط عن كل برميل منتج فيها. أي لا علاقة لهذه التخصيصات بآلية توزيع الإيرادات المذكورة في الدستور ولا علاقة لها بتعامل النظام السابق.

كما جاءت قوانين الميزانية بتنظيم مالي جديد في علاقة المركز بإقليم كردستان. حيث قررت تخصيص أموال تعادل 17% من الإنفاق العام لهذا الإقليم. وبالمقابل يتعين على الإقليم تسليم 250 ألف ب/ي إلى السلطة المركزية.

هذا التنظيم غير موجود في الدستور بل ويتناقض مع مواده ذات العلاقة. لا أثر في هذا الدستور لآلية يتم بموجبها دفع أموال لمحافظة أو إقليم لقاء الحصول على كمية من النفط. والدستور يوزع الأموال حسب إيرادات النفط في حين يحسب التنظيم حصة كردستان على أساس نفقات الدولة. والفرق شاسع بين الحالتين. في جميع ميزانيات الدولة ما بعد الاحتلال النفقات العامة أكبر بكثير من الإيرادات النفطية. كما يحصل كردستان على 17% من نفقات الدولة في حين لا يزيد عدد سكان المحافظات الكردية على 13% من نفوس العراق.

تبلغ إذن حصة كردستان 17% مضروبة في نفقات الدولة وهي 89 مليار دولار. يساوي المجموع 15.1 مليار دولار في العام الجاري 2019. وبالمقابل يحصل المركز على 250 ألف ب/ي مضروبة في 365 يوماً مضروبة في 56 دولاراً للبرميل الواحد. ويساوي المجموع 5.1 مليار دولار. تدفع الحكومة المركزية إذن أموالاً للإقليم تعادل ثلاثة أضعاف ما تحصل عليه منه. الفرق بين المبلغين الذي يساوي حوالي عشرة مليارات دولار في السنة عبء تدفعه مناطق أخرى من البلد. في حين يفترض أن يحدث العكس تماماً وفق مبدأ الحاجة المذكور آنفاً. علماً بأن إقليم كردستان يصدر على اقل تقدير كميات أخرى من النفط قدرت بنحو 300 ألف ب/ي إلى تركيا وإيران وسوريا بطرق غير رسمية وبأسعار زهيدة.

الضرائب

في الأنظمة الاتحادية تهتم الدول اهتماماً أساسياً بالتوزيع الإداري للأموال العامة خاصة الضرائب. ففي الدستور الألماني هنالك ضرائب تعود حصيلتها إلى السلطة المركزية كالرسوم الجمركية. وضرائب تعود إلى السلطات المحلية كالضرائب العقارية. وضرائب تتقاسم حصيلتها السلطتان المركزية والمحلية كالضريبة على الدخل. كما يخصص الدستور السويسري عدة صفحات تحتوي على تسع مواد. كل مادة مقسمة إلى عدة فقرات. في المقابل لا يوجد في دساتير الدول المركزية كفرنسا وإيطاليا مثل هذا التفصيل.

وعلى الرغم من شكل الدولة الاتحادي لا يهتم دستور العراق بالتنظيم الضريبي. فهو يحتوي على المادة 28 وهي الوحيدة المتعلقة بالضرائب وتتضمن فقرتين. الفقرة الأولى “لا تفرض الضرائب والرسوم ولا تعدل ولا تجبى ولا يعفى منها إلا بقانون”. وهذه الفقرة لا تستحق التحليل لأنها بديهية معروفة في جميع البلدان.

أما الفقرة الثانية فتنص على ما يلي “يعفى أصحاب الدخول المنخفضة من الضرائب بما يكفل عدم المساس بالحد الأدنى اللازم للمعيشة. وينظم ذلك بقانون”.

يقتصر هذا النص على بعض جوانب العدالة في الضرائب على الدخول. علماً بأن العدالة في هذه الضرائب لا تتوقف عند الإعفاء من الحد الأدنى الضروري للمعيشة بل تشمل كذلك الأسعار التصاعدية وكيفية معاملة مصادر الدخل المختلفة كالمرتبات والأرباح وعلاقة الضريبة بالتضخم. وكذلك التهرب الضريبي والفساد المالي. كما لا تقتصر العدالة على الضرائب على الدخول بل تمتد إلى الضرائب على الاستهلاك والرسوم الجمركية والضريبة على التركات. وهذه الأنواع من الضرائب غير المباشرة وعلى رأس المال لا علاقة لها بالحد الأدنى اللازم للمعيشة.

يتعين إذن إلغاء الفقرة الثانية من المادة 28 والاستعاضة عنها بنص عام يشير إلى أمرين: أولهما قيام الضرائب على العدالة وثانيهما مساهمة الضرائب في التنمية الاقتصادية.

ومن زاوية أخرى يستوجب النظام الفيدرالي تقسيم الضرائب إلى قسمين: ضرائب تخص المركز كالرسوم الجمركية وضرائب تخص الجماعات المحلية كالضريبة على الأملاك العقارية. عندئذ تتمتع هذه الجماعات بنوع من الاستقلال المالي الضروري للقيام بأنشطتها. وبالتالي لابد من نص دستوري يوضح هذا التقسيم كما هو معمول به في الدول الاتحادية. أما اعتماد المحافظات على الميزانية العامة فيقود إلى نظام مشوه فيدرالي في الظاهر ومركزي في الواقع. 

تحت ظل الظروف الراهنة للعراق يتعين تجميد جميع الضرائب للأسباب التالية:

السبب الأول: يمر العراق بأزمة اقتصادية خطيرة قوامها تدهور جميع الأنشطة وتراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية وضعف الإنتاج الزراعي والصناعي وتفاقم البطالة وتزايد الفقر. تجميد الضرائب يسهم في تخفيف حدة هذه الأزمة.

السبب الثاني: استشراء الفساد المالي في جميع إدارات الدولة خاصة الضريبية سواء كانت تهم الدخول أم العقارات أم التركات أم الجمارك. وهذا الفساد ليس فردياً فحسب بل يهم أيضاً أحزاباً سياسية. الرشوة وتحكم الأحزاب وغياب المعالجة الحقيقية أدت إلى خسارة مالية فادحة. يقود تجميد الضرائب إلى إنهاء هذه الخسارة من جهة وتحسين أحوال المكلفين وبالتالي المواطنين من جهة أخرى.

السبب الثالث: انفصال الضريبة عن المواطنة. لا يشعر المواطن عندما يدفع الضريبة بأداء واجب وطني بل بخسارة مالية. ويفرح عندما يستطيع التخلص من دفعها كلياً أو جزئيا. ويعود هذا الشعور إلى قناعته بأن الأموال التي يدفعها تصرف في ميادين غير إنتاجية وغير مفيدة لمجتمع. بل تذهب إلى جيوب المتنفذين.

تخضع حصيلة الضرائب في العراق لقاعدة عدم التخصيص المعروفة في البلدان النامية والصناعية. وبموجبها تحصل السلطات العامة على الإيرادات الضريبية وتتولى إنفاقها حسب ما تشاء دون التقيد بباب محدد. يتعين إلغاء هذه القاعدة والاعتماد على العكس. أي رصد حصيلة الضرائب لبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبذلك تسهم الضرائب في هذه التنمية ويشعر المواطن بأهمية مشاركته المالية في تقدم البلد. وبالتالي ينبغي الإشارة إلى هذا التخصيص في الدستور ضمن مبدأ مساهمة الضرائب في التنمية الاقتصادية المذكور آنفا.

أن التعديلات الدستورية المقترحة أعلاه وكذلك التعديلات الجوهرية الأخرى غير سهلة التحقيق بسبب الآلية المعتمدة في الدستور. لكن الحراك الشعبي العارم يدل دلالة واضحة على رغبة المواطنين في دستور جديد يعبر عن طموحاتهم السياسية والاقتصادية.

منشورات أخرى للكاتب