نحو تنمية تكنولوجية عراقية: المقترحات (3 من 3)

تعتمد معالجة التخلف التكنولوجي العراقي على أمرين: أولهما إنشاء مؤسسة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. وثانيهما يرتبط بمالية الدولة ويتمثل بضرورة زيادة الإنفاق على البحث العلمي.

مؤسسة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي
تتطلب البحوث العلمية والاختراعات جهوداً جماعية ومختبرات مجهزة بالمعدات اللازمة ومكتبة غزيرة بالدراسات الحديثة في جميع العلوم وعلاقات مع الجامعات المحلية واتفاقات مع مراكز البحوث الأجنبية. لابد إذاً من مؤسسة ينظمها قانون خاص بها تضع السياسة الوطنية لتطوير العلوم والتقنية وتتولى تنفيذها. وهذه المؤسسة غير الموجودة حاليا عبارة عن مقترح يقدمه كاتب هذه السطور لمناقشة وظيفتها وتمويلها.
ينصرف اهتمام المؤسسة إلى البحث والتطوير في جميع أقسام العلوم وتضم بالتالي عدة مراكز تغطي هذه الأقسام. فهنالك مركز الكيمياء ومركز الهندسة ومركز الاقتصاد وهكذا. ويحتوي كل مركز على وحدات بحثية تتناول مشروعاً علمياً معيناً. ولا يقتصر دور المؤسسة على توليد التكنولوجيا بل يشمل أيضاً نقلها وتوطينها. ويمكن الاستفادة من تجارب الدول النامية والصناعية ومن بينها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في السعودية التي تحتوي على سبعة معاهد والمركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا الذي يضم عشرة معاهد.
لتنفيذ مهامها لابد من أن تتوفر المؤسسة على احدث المعدات اللازمة لأنشطتها. وتعقد اتفاقات مع مؤسسات البحث في الدول الصناعية وبعض الدول العربية.
ومن مهام المؤسسة المقترحة تشجيع القطاع الخاص على القيام بالبحث العلمي والتطوير التكنولوجي بعدة وسائل منها تقديم الإرشادات والمعلومات التي يحتاجها. كما توصي الجهات الحكومية بضرورة دعم شركة معينة ساهمت في التقدم التكنولوجي للبلد عن طريق منح مساعدات مالية كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا وإعفاءات ضريبية كما هو الحال في اليابان وهولندا.
وتتولى المؤسسة أيضاً حضانة الاختراعات أي تقديم الدعم المالي والقانوني والعلمي خلال فترة معينة من اجل تطوير إبداعات الأشخاص خارج المؤسسة. وتقوم باختيار الاختراع المحتضن وفق معايير محددة دون أن يكون المبدع بالضرورة من كبار الباحثين لأن فكرة الاحتضان تنصرف أساساً إلى الشباب. وقد أشارت خطة التنمية الوطنية إلى أهمية الحاضنات في الميادين الصناعية. والحضانات معروفة في جميع الدول الصناعية وبعض الدول العربية كالسعودية (برنامج بادر) وقطر (حاضنة قطر) والإمارات (حاضنة واحة دبي للسيليكون).
إن قلة الباحثين ليست المشكلة الوحيدة في العراق. إذ إن تردي الوضع التكنولوجي لبلد ما لابد وأن يطرح مشكلة أخرى ترتبط بالقيمة العلمية للبحوث.
في العراق الباحث أستاذ جامعي. وفي اغلب الأحيان يهتم الأساتذة الجامعيون بالبحوث لغرض الترقية الوظيفية. كما لا يمكن الاستفادة منها في الصناعة لأنها غير قابلة للتطبيق العملي. أضف إلى ذلك لا يتوفر في الكثير من البحوث ركن الإبداع بل قد تكون منسوخة عن بحوث منشورة في دول أخرى. وهكذا تعاني البحوث في العراق من مشاكل تفضي إلى التخلف العلمي وهي الفردية وفقدان المصداقية.
يتعين أن تتوفر في الباحث التابع للمؤسسة المقترحة عدة شروط أهمها: الدكتوراه والنشر في مجلات متخصصة وتأليف عدد معين من الكتب في مجال الاختصاص والتدريس في الجامعات أو المعاهد العليا والإنجازات في المختبرات ومراكز البحوث الأخرى وإجادة تامة للغة أوربية واحدة على الأقل. ولا ينظر عندئذ إلى عمر الباحث أو جنسيته أو دينه أو طائفته أو قوميته. فلا تعطى الأفضلية في التعيين للعراقي إلا إذا تساوت مؤهلاته مع الأجنبي لأن العبرة ليست في محاباة العمالة الوطنية بل في التقدم العلمي للبلد. ففي جميع مراكز البحوث في الدول الصناعية الكبرى هنالك أعداد لا يستهان بها من الأجانب. لكن المؤسسة ليست مجمعاً للأكاديميين بل إنها تدار كمؤسسة صناعية ترتبط أبحاثها واختراعاتها بالحاجات الآنية للبلاد. لذلك بات من الضروري توجيه الباحثين لتحقيق هذا الهدف,
أما من ناحية التمويل فيعتمد على الميزانية العامة بالدرجة الأولى. لكن قانونها يسمح لها بالحصول على إيرادات أخرى تتأتى من ثلاثة مصادر: الهبات وكراسي البحث ومساهمة الشركات الكبرى.
يمنح الأفراد والشركات الخاصة والهيئات الحكومية التبرعات للمؤسسة دون مقابل وشروط.
أما كرسي البحث فهو نظام يقدم بموجبه شخص ما دعماً مالياً لتنفيذ برنامج علمي محدد. إنه اتفاق مشترك بين المؤسسة والممول لمدة معينة وينص على تنفيذ ذلك البرنامج لقاء تغطية اسم الممول في وسائل الإعلام والندوات وربط البرنامج باسمه. وكراس البحث معروفة في بعض البلدان العربية خاصة السعودية.
أما مساهمة الشركات الكبرى فهي نسبة مئوية تقتطع من أرباحها السنوية لصالح المؤسسة. وهذا النظام متبع في الكويت حيث تخصص الشركات المساهمة الكويتية 1% من أرباحها لتمويل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
وللمؤسسة مصادر مالية أخرى تتأتى من نشر وبيع الكتب والتقارير والمجلات العلمية الصادرة عنها. لكن هذا النشاط لا يرمي إلى الحصول على الأموال بقدر ما يسعى إلى تقديم دراسات للمختصين وأصحاب القرار وكذلك وبصورة خاصة تنمية الثقافة العلمية في المجتمع. لذلك لابد من دعم إصداراتها لتصل بأسعار مقبولة إلى السوق.

زيادة الإنفاق
ينبغي أن تخصص ميزانية الدولة 2% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي. سيقود هذا الارتفاع إلى تغييرات جوهرية وإيجابية في الاقتصاد العراقي شريطة أن يتم وفق سياسة مالية مدروسة. ستؤدي هذه النسبة إلى زيادة عدد الباحثين وتحسين نوعية البحوث وإنشاء مؤسسة بحثية شاملة فتزداد الاختراعات وترتفع القيمة المضافة للصناعات التحويلية. عندئذ يصبح العراق من الدول التي يعتمد اقتصادها على التنمية التكنولوجية. لكن النسبة المقترحة استرشادية وليست جامدة. ولابد من فترة زمنية معقولة من العمل المثمر للوصول إليها. ويستحسن أن يتضمن الدستور العراقي مادة تحدد نسبة هذا الإنفاق أسوة بدساتير بعض الدول كمصر.
وفق المعطيات الحالية تعادل النسبة المذكورة حوالي أربعة مليارات دولار. ترى هل تستطيع الدولة توفير هذا المبلغ؟
تعاني ميزانية الدولة عجزاً منذ عدة سنوات. فقد انتقل من 12.5 ترليون دينار في عام 2018 إلى 27.5 ترليون دينار في عام 2019 أي اكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي. أنها نسبة مرتفعة وفق المقاييس المعروفة. لذلك يصعب تخصيص أربعة مليارات دولار (حوالي خمسة ترليونات دينار) للتقدم التكنولوجي خاصة تحت مفاهيم سائدة حاليا ترى بأن هذه النفقات عديمة الجدوى.
لذلك يتعين أولاً معالجة العجز المالي بطرق عديدة بحيث لا تؤثر على الأنشطة الاقتصادية وعلى مستوى معيشة المواطنين. وهنالك مجالات واسعة لتحقيق ذلك في مقدمتها تقليص الإنفاق العسكري والأمني والتصدي بجدية للفساد المالي وإنهاء سيطرة المليشيات على أجهزة الدولة.
والسؤال الأساس لا يرتبط بمقدرة السلطات العامة على توفير ذلك المبلغ بقدر ما يتعلق برغبتها في توفيره. خلال الفترة بين 2004 و 2012 حققت جميع الميزانيات العامة فائضاً مالياً وصل في عام 2011 إلى 25948 مليون دولار أي 19.2% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو من أعلى المعدلات النسبية للفائض في العالم. وسواء نجمت هذه الفوائض عن سياسة مالية رشيدة أم عن ارتفاع الأسعار الفعلية للصادرات النفطية قياساً بالتوقعات في مرحلة تحضير الميزانية العامة أم عن تدني الأداء التنفيذي للنفقات العامة فأن النتيجة واحدة وهي وجود الإيرادات الكافية لتمويل الزيادة المقترحة. رغم ذلك لم تسجل النفقات المقررة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي أية زيادة. وبالتالي فأن المشكلة الأساسية ترتبط بالخيارات الحكومية.
ويتعين تقرير هذه الزيادة حتى وإن أدت إلى تفاقم العجز المالي لأن العجز الناجم عن زيادة الإنفاق على البحث العلمي والتطور التكنولوجي افضل من الفائض الناجم عن تباطؤ نسب تنفيذ النفقات العامة. فالعبرة بالتوازن الاقتصادي وليس بالتوازن المالي. وهذا مبدأ معروف ومتفق عليه لدى الماليين والاقتصاديين.
كقاعدة عامة ينبغي أن ترتكز سياسة الإنفاق على الشمولية. أي الاهتمام بجميع القطاعات المدنية والعسكرية سواء كانت التكنولوجيا عليا كصناعة الأدوية أم متوسطة كالصناعات الميكانيكية أم منخفضة كصناعة الملابس. فلا تطور علمي وتقني إلا عن طريق الاهتمام بجميع هذه الأقسام.
لكن هذا الاتجاه العام يجب أن يتم وفق سياسة إنفاق واضحة المعالم تعتمد على ثلاثة مقاييس: المقدرة والحاجة والفترة الزمنية. فمن غير المعقول تكليف باحثين بمهام خارجة عن طاقاتهم. ومن غير المقبول بذل الجهود في ميادين لا تشبع حاجة آنية. يجب إذا على مؤسسة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي المقترحة أن تضع برنامجاً خلال فترة محددة من الزمن لتنفيذ مشروع يحتاجه العراق حالاً. ومن أمثلة ذلك البحوث من اجل زيادة إنتاج الطاقة الكهربائية والوسائل الكفيلة بالتخلص من فيضانات فصل الشتاء ومخلفاتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك طرق معالجة تلوث المياه والتصحر. وما أن ينفذ برنامج حتى يصار إلى برنامج آخر وهكذا.
تستنتج هذه الدراسة أن مواطن القوة في المؤشرات التكنولوجية في العراق تكاد تكون منعدمة. ضعف البحوث العلمية وندرة الاختراعات وقلة الصناعات التحويلية هي السمة الأساسية لحالة البلاد. ولا توجد خطط حالية أو مستقبلية لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة التي تسهم بفاعلية في التخلف الاقتصادي.
وقبل الشروع بأية خطوة مباشرة لابد من توفير المناخ الملائم للتنمية الاقتصادية بصورة عامة والتقدم التكنولوجي بصورة خاصة. ويتمثل بضرورة عودة الاستقرار الأمني وتلاحم أبناء الشعب الواحد وإصلاح البنية التحتية المرتبطة بالطاقة والتعليم.

منشورات أخرى للكاتب