نحو تنمية تكنولوجية عراقية: المناخ المناسب (2 من 3)

العراق من الدول الأقل تقدماً من حيث المستوى التكنولوجي. ولا ينسجم هذا الوضع مع سمعته الحضارية وقدرته المالية وإمكاناته الطبيعية. لكنه وضع منطقي وحتمي ناجم عن معاناة أربعة عقود من الحروب الداخلية والخارجية والاحتلال العسكري والصراعات السياسية والتدخلات الأجنبية والمتاهات الطائفية والفساد المالي.
انطلقت مظاهر التقدم التكنولوجي في العالم من مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. تطورت البحوث وازدادت الاختراعات واستخدمت شبكة الإنترنت ووسائل الاتصالات والمعلومات الحديثة على نطاق واسع. كما تحررت التجارة السلعية الخارجية من القيود الكمية والرسوم الجمركية. وأصبحت الخدمات ورؤوس الأموال تنتقل بحرية بين مختلف دول العالم فتطورت الاستثمارات المباشرة التي تسهم في نقل التكنولوجيا.
كان العراق خارج هذه التطورات بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه بين عامي 1990 و 2013. قاد هذا الحصار إلى هبوط حاد في إيرادات النفط التي انتقلت من 14.5 مليار دولار عام 1989 إلى 0.4 مليار دولار عام 1991. وهكذا حدثت كارثة إنسانية قوامها نقص التغذية والعناية الصحية وتردي المستوى المعيشي لجميع المواطنين. وانفصل العراق عن العالم من الناحية التكنولوجية. لاشك إن البلد كان يملك أطراً علمية لا يستهان بها. لكن الحصار أدى إلى انصراف أساتذة الجامعة والمهندسين والخبراء والفنيين إلى أعمال إضافية لا علاقة لها بتكوينهم المهني بغية الحصول على دخل لمواجهة أعباء الحياة اليومية. فبدلاً من أن يقدم الباحث دراسة لخدمة التنمية الصناعية والزراعية اصبح يستغل سيارته الخاصة لنقل الركاب مقابل اجر. كما أصاب الصناعة شلل شبه كلي نتيجة عدم السماح باستيراد الأدوات الاحتياطية والمواد الأولية اللازمة.
ومنذ عام 2003 يعاني العراق من دوامة الصراعات التي أثرت مباشرة على الباحثين. قتل بعضهم وهرب البعض الآخر إلى خارج البلد. كما تدهورت بشدة القيمة العلمية للدراسات.
تنطلق معالجة هذه الأزمة من تهيئة العوامل المساعدة والضرورية للتنمية التكنولوجية. تستوجب الصناعات التحويلية بنية تحتية ملائمة كتوفير الطاقة الكهربائية. وتفترض البحوث مناخاً علمياً مناسباً كتشجيع المبدعين. وفي جميع الحالات لا يمكن القيام بالتنمية الصناعية وتحسين التجارة الداخلية وترتيب الأوضاع التعليمية وتوفير العناية الصحية إلا في نطاق استقرار أمنى شامل ودائم.

الوضع الأمني
يسهم الاستقرار الأمني في التنمية الاقتصادية والتطوير التكنولوجي حتى في حالة ضعف الموارد المالية. لقد أفضت الحالة الأمنية المتردية في العراق إلى هروب الباحثين إلى الخارج وغياب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي يمكن الاستفادة منها في نقل التكنولوجيا وإلى تدني فرص التشغيل وتدهور الإنتاج والاستهلاك في جميع القطاعات ناهيك عن المعاناة اليومية للمواطنين. يختلف العراقيون في كل شئ لكنهم يجمعون على إن استتباب الأمن يشكل أولى الأولويات على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. وتجدر الإشارة إلى حدوث تحسن أمني نسبي في الآونة الأخيرة يتعين العمل بجدية على استمراره.

التعليم
لا يمكن النهوض بالتكنولوجيا إلا عن طريق التعليم بجميع مراحله. لذلك ينبغي الاهتمام به إلى أقصى درجة ممكنة. لكن جودة التعليم وهي أساسية غير كافية. التعليم يجب أن يفضي أيضاً إلى خلق باحثين وفنيين مؤهلين للقيام بالتنمية. وعلى هذا الأساس لا يقود بالضرورة المستوى الرفيع للتعليم إلى نتائج تكنولوجية باهرة. وهذا ما يفسر تدني المستوى التكنولوجي في جميع دول مجلس التعاون الخليجي رغم وصول التعليم فيها إلى درجة عالية من الجودة مماثلة للبلدان الصناعية الكبرى.
كان العراق في مقدمة الدول في جودة التعليم. وبدأ الانهيار منذ الحصار الاقتصادي الدولي واشتد بعد الاحتلال العسكري على إثر سوء إدارة الدولة المبنية على المحاصصة. لم تعد للبلد إشارة في مؤشر التعليم الصادر عن منتدى دافوس العالمي. واحتلت جامعة بغداد وهي أهم جامعة عراقية مراتب متدنية في تصنيفات المؤسسات العالمية المتخصصة.
ترى منظمة اليونسكو أن معالجة هذا الانهيار يتطلب تحسين كفاءات المدرسين واستخدام الوسائل الحديثة في التدريس وضرورة استتباب الأمن والحد من هجرة الأدمغة وعقد اتفاقات مع الجامعات الأجنبية المرموقة.
لكن البلد وبسبب تخلفه التكنولوجي لم يعد يستوعب الأدمغة والخريجين الجامعيين الجدد. أصبحت البطالة ظاهرة معروفة في أوساط أصحاب الشهادات كالمهندسين. يتعين بسرعة وفاعلية معالجة هذه الأزمة التي أدت إلى إهدار الجهود والأموال وخلقت مشاكل اجتماعية خطيرة.

الطاقة الكهربائية
بلغ الاحتياطي المؤكد للنفط في العراق 153 مليار برميل أي 9% من الاحتياطي العالمي. وهذا الحجم يفوق ما لدى القارة الأفريقية. لكن البلد يعاني منذ عدة سنوات من شح الطاقة الكهربائية. فحسب وزارة الكهرباء بلغ الإنتاج 18 ألف ميغاوات في حين تصل الحاجة إلى 23 ألف ميغاوات بل وإلى 30 ألف ميغاوات حسب بعض التقارير.
حسب إحصاءات البنك العالمي بلغ معدل الاستهلاك الفردي في العراق 1328 كيلو وات/ساعة أي ما يعادل ثُمن الاستهلاك في الإمارات. لاشك إن كثرة الاستهلاك لا تعني بالضرورة إحراز تقدم تكنولوجي رفيع. فعلى سبيل المثال يعادل الاستهلاك الفردي الكويتي ضعف الاستهلاك الفردي الياباني. لكن نقص الاستهلاك كما هو حال العراق يعكس حتماً صعوبة تحقيق التنمية التكنولوجية. لذلك بات من اللازم العمل سريعاً على معالجة أزمة إنتاج الطاقة الكهربائية.

التشريعات
تؤثر القوانين والأنظمة والتعليمات تأثيراً مباشراً على التنمية التكنولوجية. وفيما يلي موقف الدستور العراقي من البحث العلمي من جهة وقانون تعضيد البحوث العلمية والاختراعات من جهة أخرى.
تنص الفقرة الثالثة من المادة الثالثة والأربعين من الدستور العراقي على ما يلي: “تشجع الدولة البحث العلمي للأغراض السلمية بما يخدم الإنسانية…”.
انه النص الدستوري الوحيد الذي يشير إلى البحث العلمي. وهو غير معروف في الدساتير العراقية السابقة الملكية والجمهورية. كما انه غير موجود في دساتير البلدان العربية.
أن تعبير “البحث العلمي للأغراض السلمية بما يخدم الإنسانية” لا ينسجم مع الحالة الصناعية والعلمية في العراق. نقله واضعو الدستور من دساتير أخرى دون تحليل جدي لمفهومه. إذ تنصرف خدمة الإنسانية بالبحث العلمي السلمي إلى عمليات معقدة كصناعة الأدوية ضد الأمراض المستعصية والتقاط عينات فضائية لتحليلها واستغلالها. كان من الأسلم النص على خدمة الشعب بدلاً من خدمة الإنسانية. كما أن الاقتصار على الأغراض السلمية لا يخدم المصلحة الوطنية التي تستوجب البحث العلمي في شتى الميادين الممكنة بما فيها العسكرية.
ينبغي إذن حذف هذا النص والاستعاضة عنه بثلاثة نصوص:
النص الأول: تشجع الدولة البحث العلمي في جميع الميادين.
النص الثاني: ضمان حرية البحث العلمي وفق الضوابط المعروفة. وهذا مبدأ نصت عليه دساتير العراق السابقة وكذلك دساتير دول عديدة كالكويت وتونس ومصر.
النص الثالث: تقرير نفقات عامة للبحث العلمي تعادل نسبة معينة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا المبدأ ضروري للتنمية التكنولوجية لأنه يثير مسؤولية الحكومة في حالة عدم احترامها النص الدستوري.
ومن زاوية تشريعية أخرى ينظم القانون رقم 163 لسنة 2010 المكافآت المالية للبحوث والاختراعات. ينص على منح مليون دينار لصاحب براءة الاختراع المسجلة. و 500 ألف دينار للبحث الأصيل و 400 ألف دينار للبحث القيم و 200 ألف دينار للبحث المفيد. علماً بأن القانون لا يضع تعريفاً لهذه الصفات. ويلاحظ ضآلة هذه المبالغ. مليون دينار عراقي لا يعادل سوى 830 دولارا.
بات من اللازم إعادة النظر في هذا النظام بحيث يشجع فعلا الباحثين على بذل قصارى جهودهم من جهة ويعطي أهمية خاصة للاختراعات التي تجد استغلالاً صناعياً لها من جهة أخرى.

نقل التكنولوجيا
سيكون تحقيق العوامل الأولية المذكورة أعلاه الحجر الأساس في اكتساب التكنولوجيا الذي يبدأ بنقلها من الخارج. من الناحية القانونية تنتقل التكنولوجيا بالتعاقد مع مالكها وفق شروط محددة تختلف حسب طبيعة العقد كالترخيص والتنازل.
بموجب الترخيص يمنح مالك التكنولوجيا لطرف عراقي شهادة استغلال ملكيته لقاء تعويض مادي يدفع له. تبقى إذاً ملكية الاختراع بيد مالكها الأجنبي ولا تنتقل إلى الطرف العراقي كالترخيص بإنتاج دواء معين وتسويقه أو إنتاج قطع غيار آلة كهربائية معينة وتسويقها. والترخيص مقيد دائماً بفترة زمنية وببقعة جغرافية. ينبغي للطرف العراقي المفاوض الاعتماد على معيارين أساسيين هما فترة حماية الاختراع الأجنبي وفترة الاستيعاب الوطني. أي إن مدة الترخيص يجب أن لا تتجاوز بحال من الأحوال فترة الحماية التي تبدأ من التاريخ الأول لتسجيل الاختراع وهي عشرين سنة كقاعدة عامة. فلا يصح التعاقد لمدة خمس سنوات مثلاً في حين إن فترة الحماية المتبقية للاختراع أربع سنوات. كما تكمن الحكمة من النقل في تأهيل العراقيين لاستيعاب التكنولوجيا المتعاقد عليها. لذلك لابد من دراسة جدية لفترة التأهيل قبل توقيع عقد الترخيص. وينبغي النص صراحة على إمكانية الطرف العراقي إلغاء العقد بإرادته المنفردة إن لم يتم الحصول على النتائج المرجوة خلال فترة معينة. علماً بأن القاعدة العامة تقضي بأن عدم الحصول على هذه النتائج يقود إلى إلغاء العقد حتى عند عدم النص صراحة على ذلك.
أما التنازل فتنتقل بموجبه ملكية الاختراع إلى الطرف العراقي لقاء مقابل يدفع لمالك الاختراع الأجنبي. والتنازل نهائي وغير مقيد من حيث الزمان والمكان والتطبيقات. ولكن يستحسن عدم اللجوء إلى عقود التنازل التي تكلف أموالاُ طائلة قياسا بعقود الترخيص إلا عند توفر الشروط اللازمة وفي مقدمتها بلوغ الطرف العراقي درجة عالية من تطويع التكنولوجيا المتنازل عنها ووجود حاجة مستديمة لها. وعادة ما لا يضمن البائع للمشتري الحصول على نتائج معينة.
وينبغي أن يحصل المفاوض العراقي على الوثائق التي تثبت صحة ملكية الاختراع وتؤكد عدم التنازل عنها لطرف آخر. ويجب أن لا يتعلق بالملكية قيد معين كالرهن. ولا بد أن تكون الشركة الأجنبية المالكة لبراءة الاختراع معروفة في ميدان الاختراع محل الاتفاق.
وهنالك جهة رسمية عراقية مهمتها نقل وتوطين التكنولوجيا وهي اللجنة الوطنية لنقل التكنولوجيا التي تأسست بموجب النظام رقم 18 لسنة 1984. ويبدو أن هذه اللجنة التي أنشأت خلال فترة الحرب ضد إيران كانت تهتم بالدرجة الأولى بالشأن العسكري. فحسب هذا النظام كانت ميزانيتها تابعة لهيئة التصنيع العسكري التي تم حلها بعد الاحتلال الأمريكي.
تمثل المؤشرات أعلاه اللبنة الأولى للتقدم التكنولوجي في العراق. من العبث الانتقال إلى مرحلة جديدة دون التصدي للمشاكل الأمنية والتعليمية والكهربائية والتشريعية. كما يجب أن يكون نقل التكنولوجيا مرحلياً ومساعداً. إذ لا توجد تنمية حقيقية دون توليد التكنولوجيا محليا.

منشورات أخرى للكاتب