حذف أربعة أصفار من الريال الإيراني: الأسباب والتداعيات

في 31 يوليو/تموز 2019 وافقت الحكومة الإيرانية استناداً إلى مقترح مقدم من البنك المركزي على مشروع قانون يقضي بإزالة أربعة أصفار من العملة. كما ستتغير تسميتها الرسمية من الريال إلى التومان. ترى ما هي أسباب وآثار هذا الإجراء؟

تتسم السياسة النقدية الإيرانية بخمس سمات أساسية:
السمة الأولى: ازدواجية أسعار الصرف. على خلاف الدول العربية الخليجية توجد في إيران أسعار صرف رسمية وأخرى موازية. تستخدم الأسعار الرسمية على نطاق ضيق في بعض التعاملات الخارجية. أما الأسعار الموازية والسائدة فهي التي تخضع قيمتها التعادلية مقابل العملات الأخرى للعرض والطلب. أصبح الفرق بين السعرين شاسعا. إذ يعادل الدولار 42 ألف ريال حسب السعر الرسمي مقابل 140 ألف ريال حسب سعر السوق. وسوف لن تتغير الازدواجية نتيجة حذف الأصفار.
السمة الثانية: عدم قدرة البنك المركزي على الدفاع عن أسعار السوق. يتطلب الدفاع عن سعر الصرف زيادة أسعار الفائدة وبيع كميات من الدولارات. تقود زيادة أسعار الفائدة إلى تشجيع المستثمرين الأجانب فتتحسن حسابات ميزان المدفوعات وبالتالي يرتفع سعر صرف العملة المحلية. لجأت الحكومة مراراً إلى رفع سعر الفائدة ونجحت في استقطاب المستثمرين الأجانب خلال فترة معينة. بيد أن التدهور المستمر لسعر الصرف أدى إلى فقدان ثقة المستثمرين بالسياسة المالية والسياسة النقدية الأمر الذي أفضى إلى إضعاف فاعلية هذا الإجراء.
أما بيع الدولارات (زيادة عرضها لتلبية الطلب المرتفع) فيتطلب وجود كميات كبيرة من العملات الأجنبية. في حين تتناقص هذه الكميات بسبب المصروفات العسكرية وعجز الحسابات في ميزان المدفوعات وكذلك الفساد المالي المستشري. وهكذا تضعف الوسائل الدفاعية لدى البنك المركزي. وسوف يستمر هذا الضعف بعد حذف الأصفار.
السمة الثالثة والأهم: تراجع سعر صرف الريال. نتيجة لما تقدم تنخفض القيمة التعادلية للريال. فقد انتقل سعر صرف الدولار في السوق الموازية من 32 ألف ريال في منتصف عام 2017 إلى 68 ألف ريال في منتصف العام المنصرم ثم إلى 140 ألف ريال في منتصف العام الجاري 2019.
تضطر إذن السلطات العامة إلى طبع فئات نقدية جديدة ذات قيم اسمية أعلى فتزداد عدد أصفار العملة. هنالك حالياً خمسة أصفار في الريال الإيراني مقابل أربعة أصفار في الدينار العراقي (فكرة حذف الأصفار مطروحة أيضاً في العراق) وثلاثة أصفار في درهم الإمارات وصفرين في الريال السعودي وصفر واحد في الدينار الكويتي.
السمة الرابعة: عدم استجابة الفئات النقدية الحالية لمتطلبات السوق. رغم تزايد عدد الأصفار لم تعد الأوراق النقدية من حيث قيمتها الاسمية تستجيب لمتطلبات المعاملات التجارية اليومية للمواطنين. عمليات الشراء والبيع تتم بأعداد كبيرة من الأوراق النقدية. لابد من حل سريع لهذه المشكلة خاصة وإن أغلب التعاملات اليومية تتم بالنقود وليس بالشيكات أو البطاقات الائتمانية. إلغاء الأصفار يمثل أبرز الحلول لهذه المشكلة.
السمة الخامسة والأخيرة: العقوبات الأمريكية. فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على إيران تؤثر بشدة على السياسة النقدية الإيرانية باتجاهين: الاتجاه الأول حظر الصادرات النفطية. يعتمد ميزان المدفوعات اعتماداً أساسياً على العوائد النفطية التي تمثل ثلثي الصادرات السلعية للبلد. وكلما هبطت هذه العوائد تراجع عرض النقد الأجنبي وتدهور سعر صرف العملة المحلية. والاتجاه الثاني: منع التعامل بالدولار. العقوبات تطلب من جميع الدول عدم التعامل بالدولار مع إيران. مما أفضى أيضاً إلى هبوط عرض النقد الأجنبي فتردى سعر صرف الريال. كما لعبت هذه العقوبات دوراً سياسياً في اتخاذ قرار حذف الأصفار.

تحسن سعر الصرف
من الناحية المبدئية لابد من التفرقة بين طريقين لتحسن القيمة التعادلية للعملة المحلية:
الطريق الأول: التحسن الحقيقي. تعاني إيران مشاكل اقتصادية عديدة وخطيرة منذ عدة عقود: التضخم والبطالة وعجز الميزانية العامة وتدهور حسابات ميزان المدفوعات وتراجع الاحتياطي النقدي وتصاعد الإنفاق العسكري وتدني الاستثمارات الأجنبية واستشراء الفساد المالي.
أسهم العجز المالي المزمن مساهمة فاعلة في تردي الوضع النقدي. فقد لجأت السلطات العامة مراراً إلى الإصدارات النقدية الجديدة (طبع النقود) لتمويل هذا العجز. عندئذ انتفخت الكتلة النقدية فازدادت معدلات التضخم من جهة وانخفضت القيمة التعادلية للريال من جهة أخرى.
لا يمكن تحسين سعر الصرف إلا بمعالجة هذه المشاكل خاصة عجز الميزانية العامة. لكن هذه المعالجة تتطلب فترة زمنية طويلة وجهوداً كبيرة وعوامل مشجعة. كما أن بعض الإجراءات الضرورية كالامتناع عن التدخل في شؤون البلدان الأخرى بهدف تقليص الإنفاق العسكري لا تجد ترحيباً لها في طهران.
الطريق الثاني: التحسن الوهمي. نتيجة صعوبة الطريق الأول تلجأ الدولة إلى حذف الأصفار من عملتها فيرتفع سعر الصرف. أنها عملية سريعة جداً ولا تتطلب سوى قرار سياسي. اختارت إيران هذا الطريق دون إصلاحات فعلية.
بموجب القرار سيتم حذف أربعة أصفار من الفئات النقدية الحالية. بما أن التومان سيصبح العملة الرسمية للبلاد فإن كل عشرة آلاف ريال ستصبح توماناً واحدا. وبما أن سعر صرف الدولار حالياً 140 ألف ريال. فإن سعر صرفه بعد إزالة الأصفار الأربعة سيكون 14 تومانا. والواقع لا يوجد أي فرق بين الحالتين. الفرق قبل وبعد حذف الأصفار فيما يخص سعر الصرف كالفرق في المساحة بين العشرة آلاف متر مربع والهكتار.
ينبغي عدم تجاهل المغزى السياسي لحذف الأصفار. فهذه العملية صادرة عن السلطات العليا: وافقت الحكومة على مشروع قانون حذف الأصفار وسيمر بالبرلمان للتصويت عليه ثم يوافق عليه مجلس صيانة الدستور ويوقع عليه رئيس الدولة.

ستظهر في إيران اتجاهات تبين بأن البلد استطاع رفع سعر صرف عملته رغم العقوبات الأمريكية. الأمر الذي يعني عدم استطاعة هذه العقوبات تحقيق أحد ابرز أهدافها. وستجد هذه الاتجاهات تأييداً شعبياً لها. فسعر الصرف الجديد سيدخل الفرحة إلى قلوب المواطنين. وهذا الجانب النفسي لتبديل العملة من إيجابيات حذف الأصفار. لكن المواطن يعلم جيداً بأن فرحته وهمية لعدم تحسن مستواه المعيشي. وسوف لن يتغير هذا المستوى حتى وأن بلغت القيمة التعادلية للتومان دولاراً تقريبا على افتراض إزالة خمسة أصفار من الريال.

المبالغة في إيجابيات حذف الأصفار
فكرة إزالة الأصفار ليست جديدة في إيران بل طرحت عدة مرات للمناقشة سابقاً لكنها لم تقد إلى موافقة رسمية. وفي كل مرة بدلاً من حذف الأصفار يتم إصدار فئة جديدة من الأوراق النقدية بعد إضافة صفر جديد إليها.
ظهرت اتجاهات تبالغ في الدفاع عن هذه العملية. ويتضح ذلك على الأقل من زاويتين: الاكتناز والتضخم.
يرى البعض أن إلغاء الأصفار أي تبديل العملة يقود إلى إخراج الأموال المكتنزة وإلا تصبح الفئات النقدية بعد فترة من الزمن غير صالحة للتداول.
في الواقع أن هذا الرأي ضعيف. لا خلاف في خطورة الاكتناز على التنمية الاقتصادية وفي إخراج الأموال المكتنزة بتبديل العملة. بيد أن الاكتناز سرعان ما يظهر بعد صدور الفئات الجديدة من العملة. الاكتناز كما هو معلوم ظاهرة معروفة في جميع الدول وترتبط بعوامل عديدة. من الناحية العملية اعتاد الإيرانيون على اكتناز أموالهم بعد تحويلها إلى دولارات أو عملات أجنبية أخرى. وبالتالي لا يلعب تبديل العملة المحلية أي دور في إخراج العملات الأجنبية المكتنزة.
ومن المبالغات أيضاً إقامة علاقة بين إزالة الأصفار ومعالجة التضخم. يقولون أن حذف الأصفار في تركيا عام 2005 أدى إلى معالجة مشاكل اقتصادية عديدة في مقدمتها التضخم.

إيران والتجارب الأخرى
لابد من مناقشة علاقة الأصفار بالتضخم لخطورة هذه المشكلة في إيران حيث وصل معدل التضخم إلى 30% الأمر الذي يؤثر بصورة سلبية على مستوى معيشة المواطنين خاصة أصحاب الدخول المنخفضة والثابتة.
لا يوجد تحليل نظري معروف يعتبر حذف الأصفار من الوسائل المعتمدة لمكافحة التضخم. ولا توجد تجربة عملية بهذا المعنى. تضطر الدولة إلى إضافة الأصفار إلى عملتها تحت تأثير ارتفاع أسعار الاستهلاك وتدهور سعر الصرف. الأصفار إذن نتيجة لهذا الارتفاع والتدهور وليست سببا لهما. وبالتالي لا يعقل إزالة النتيجة لمعالجة السبب بل العكس هو الصحيح.
أما أن تركيا حققت نتائج إيجابية بسبب إزالة الأصفار وبالتالي ستحقق إيران نتائج مماثلة فهذه مقارنة غير دقيقة واستنتاجات غير موفقة لسببين:
السبب الأول: تختلف إيران حالياً اختلافاً كلياً عن تركيا في عام 2005. إذ تخضع إيران لعقوبات أمريكية قاسية تؤثر مباشرة على جميع أنشطتها الاقتصادية وعلى سياستها النقدية. في حين لم تعرف تركيا مثل هذه العقوبات.
السبب الثاني: لم تحقق تركيا نتائج اقتصادية إيجابية بسبب حذف ستة أصفار من الليرة في عام 2005. بل جاءت هذه النتائج بفعل الإصلاح الاقتصادي الشامل والفاعل وتحسن كبير في مالية الدولة الخارجية نظراً لارتفاع الصادرات السلعية على أثر تعزيز العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي. كما اقتنع الأجانب بجدية الإصلاحات فزادت استثماراتهم على نحو غير مسبوق. أما إيران فلا تعرف هذا التطور.
يتعين على الإيرانيين أن يستفيدوا أيضاً من التجارب الفاشلة. فقد دلت تجربة زيمبابوي على أن حذف ثلاثة أصفار من عملتها في عام 2006 لم يقد إلى معالجة التضخم بسبب غياب الإصلاحات الحقيقية. فرغم هذا الحذف ارتفعت من جديد أسعار الاستهلاك وبسرعة فائقة فاضطرت الدولة إلى إضافة أصفار جديدة. وبعد سنتين فقط تم حذف عشرة أصفار أخرى من العملة. حالة إيران لم تصل إلى هذا الحد. لكن الشبه بين إيران وزيمبابوي أكبر من الشبه بين إيران وتركيا.
وتزداد درجة الشبه بين إيران وفنزويلا. في عام 2018 بلغ معدل التضخم مليون بالمائة. لجأت كاراكاس إلى حذف خمسة أصفار من عملتها. لكن المشكلة لا تزال قائمة وخطيرة. ومن المعلوم أن فنزويلا بلد عضو في أوبك بل من أكبر الدول النفطية في العالم. وتجدر الإشارة أيضاً إلى خضوع كاراكاس لعقوبات أمريكية.
جميع هذه التجارب إضافة إلى تجربة رومانيا بحذف أربعة أصفار في عام 2005 وتجربة بوليفيا بحذف ثلاثة أصفار في عام 2008 وغيرها تدل بوضوح على أن إزالة الأصفار من العملة لا تقود بذاتها إلى معالجة أية مشكلة اقتصادية حقيقية خاصة التضخم.
مقابل ضرورة عدم المبالغة في إيجابيات حذف الأصفار يتعين عدم المبالغة في سلبياته لا سيما تكلفة الطباعة.

تكلفة الطباعة منخفضة
تعتمد الكلفة الكلية على عدة عوامل في مقدمتها عدد الأوراق النقدية المطلوبة لتلبية حاجات السوق المحلية. حسب البنك المركزي هنالك حالياً سبعة مليارات ورقة متداولة من جميع الفئات. وبسبب إزالة أربعة أصفار سوف تهبط الحاجة لتصل إلى ثلاثة مليارات ورقة. وصرح البنك المركزي بأن كلفة طباعة الورقة الواحدة تبلغ أربعة آلاف ريال. وهذا المبلغ منخفض قياسا بكلفة الورقة في الدول الصناعية. وبعملية حسابية بسيطة نستنتج بأن الكلفة الكلية لطباعة الأوراق الجديدة سوف لن تتجاوز تسعين مليون دولار.
لاشك أن تكلفة تغيير العملة لا تقتصر على الأوراق النقدية بل تشمل أيضاً سك النقود المعدنية. كما ينبغي إصدار طوابع بريدية ومالية بالعملة الجديدة. لكن هذه العملية برمتها لا تكلف الكثير وبالتالي لا يجوز المبالغة في تداعياتها السلبية. علماً بأن العملة الإيرانية تطبع داخل إيران. وهذا أمر إيجابي من الزاويتين المالية والتشغيلية مقارنة بالدول التي تستورد أوراق عملتها. وستستغرق الطباعة حوالي سنتين حسب التقديرات الرسمية. بمعنى أن الكلفة الكلية ستوزع على هذه الفترة الزمنية.

أضف إلى ذلك سوف يستغل البنك المركزي عملية تبديل العملة لإضافة مواصفات فنية جديدة للأوراق النقدية للحيلولة دون تزويرها بسهولة. ولا مانع من تحمل كلفة اكبر في سبيل تحقيق هذا الغرض. من هذا الجانب سيساعد حذف الأصفار على إزالة الأوراق المزورة الحالية.
يستوجب التحسن الحقيقي لسعر صرف العملة الإيرانية إجراء إصلاحات جوهرية: مواجهة العجز المالي وعجز الحسابات الخارجية وضرورة تقليص المصروفات العسكرية ومكافحة الفساد المالي. ينعكس هذا الوضع مباشرة وبصورة إيجابية على النمو الاقتصادي فتزداد المقدرة المالية ويهبط معدل التضخم ويتصاعد سعر صرف العملة وتتراجع البطالة ويهبط الفقر. فيتحسن بالتالي مستوى معيشة المواطنين.

منشورات أخرى للكاتب