هل كانت إيران 1979م من أيقظت مارد الطائفية في الخليج؟

تحاول أدبيات التأزيم السياسي في الخليج العربي أن تصنع نصًا مؤسسيًا ترجع إليه من أجل تقديم تفسيرات اجتماعية للتوتر الطائفي في تلك المجتمعات. إذ تجمع كلٌ من الرواية الرسمية للأنظمة وكثير من أدبيات التوجهات الليبرالية والواجهات السياسية الموالية على أن حدث الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م أيقظ مارد الطائفية وصقل أظافره، ودخلت المجتمعات الخليجية في دوامة التوتر الطائفي بفعل التحريض الإيراني وسياسة تصدير الثورة.

يقال هذا الكلام عادة من أجل محاربة التوتر الطائفي والحد من الانقسام المتولد منه. ويقال عادة لغرض توحيد القوى المجتمعية ضد خطر قومي تحدده الدوائر الاستخباراتية.

لا شكَّ أن حدث انتصار الثورة الشيعية في إيران قد لعب دورًا رئيسًا في دفع الجماعات الشيعية لصدارة المشهد الاجتماعي والسياسي (حدث ذلك في البحرين والسعودية والكويت) باعتبارها أقليةً يمكن أن تسبِّب إزعاجًا للأنظمة السياسية القائمة في هذه الدول، كما زاد من مخاوف تمكُّن الثورة الشيعية الإيرانية من تجنيد هذه الأقليات في بلادها لخدمة مشروع تصدير الثورة الإسلامية. مثل هذه التحديات وتلك المخاوف كانت تؤسس على قدرة الثورة الإيرانية على تصعيد المطالب السياسية للجماعات الشيعية بوصفها أقلياتٍ مقهورة تارةً، ومدفوعة بحسٍّ ثوريٍّ سياسيٍّ تارةً أخرى.

ولكن ماذا لو كان هذا التفسير والتبرير يمثل رافعة قوية وأساسية لتعزيز الانقسام الطائفي وحدة التوتر بين مكونات المجتمعات في دول الخليج العربية؟ ماذا لو كانت هذه المقولات تمثل أداة من أدوات الانتقام السياسي، وتصفية الحسابات الداخلية، ومحاولة لترسيخ التراتبية السياسية السائدة؟

قبل ذلك ربما كان تفحص التوتر الطائفي كحدث مجتمعي من شأنه أن يعزز ما أذهب إليه. فالبحرين ظلت تعاني من التمييز الطائفي منذ بدايات القرن الماضي وسجلت الوثائق البريطانية في الفترة ( 1922م-1956م)  أكثر من خمس حالات حدث فيها نزاع طائفي سقط فيه عدد من القتلى، لم تفض المحاكم المحلية إلى أي نتيجة مقنعة. كما سجلت الكويت حالة فريدة من نوعها في 1938م عندما اقصي الشيعة من المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي. أما الواقع السعودي فلا يختلف كثيرًا.

تقودنا عملية التفكيك ذاتها إلى فحص الأطر المجتمعية والمؤسسية الأخرى كالتزاوج بين الطوائف أو التصويت في الانتخابات المحلية قبل 1979م كمسلكيات ذهنية بعيدة عن تأثيرات السلطة، ليتبين أن عقود الزواج ظلت مغلقة رغم وجود حالات بسيطة تقع خارج تلك القيود. وبالمثل فإن التمثيل المؤسسي لشغل المناصب المحلية كان يقوم على الانقسام الطائفي تساعده في ذلك الهيكلية القانونية التي تفرض على الناخبين اختيار ممثلين لجماعاتهم الفرعية كما في انتخابات البلدية في البحرين حيث كان يخصص ثلاثة مقاعد للشيعة البحارنة، وثلاثة للسنة العرب، وواحد للعجم، واخر للنجديين، وثالث للأجانب.

أسهم هذا الوضع المضطرب والمزدوج في أن تتقزَّم الهوية الوطنية ومبادئ المواطنة أمام صعود الهويات الفرعية، وأن تكون الدولة مكتفيةً بالبحث عن تأمين حدودها الجغرافية مخافة الحروب، وأن تثبت سلطتها على مجتمعاتها كسلطة تحتكر أدوات الإكراه وتفعيله تجاه أيِّ طرف تخاف منه أو تشكِّك في ولائه للنظام السياسي. لكنها تخلَّت في الوقت ذاته عن تنمية سياسات تنوعٍ حقيقية من شأنها أن تؤسس لشرعية دستورية ثابتة على أُسس المواطنة الكاملة.

ومن جانب آخر، تسبَّب غياب أو افتقاد الدولة الخليجية للأُطر الدستورية والقانونية الخاصَّة بضمان سياسات تنوعٍ تستوعب التباين المذهبي والإثني داخل مجتمعات الخليج العربي – شأنها شأن المجتمعات العربية الأخرى – في ترسيخ أرضيةٍ خصبة لنمو الهويات الفرعية وتقويتها على حساب الهوية الوطنية والمواطنة، وترسخت بدلًا من ذلك سياسات التمييز والإقصاء كاستراتيجياتٍ فاعلة وذات جدوى لاحتواء تداعيات الإشكاليات المذهبية والإثنية؛ وكان هذا واضحًا في سياسات النظام في البحرين والسعودية، وإلى فترة بسيطة – هي فترة الثمانينيات – في الكويت.

ورغم قدرة الأنظمة على إنجاز هذا الاحتواء الهشِّ بفعل أدواتٍ إكراهية وسلطوية واضحة، فإن هذا الوضع سرعان ما ينفجر ويستجيب لأيِّ رسائل خارجية أو متغيراتٍ إقليمية كما في انهيار نظام الحكم في العراق سنة 2003م وصعود الشيعة للحكم واتساع دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو وضع تزايدت حدَّتُه الطائفية والمذهبية مع حرب تموز في لبنان سنة 2006م وصعود نجم حزب الله الشيعي أيضًا.

ومن الواضح هنا أن هناك فرزًا طائفيًّا قبل عام 2003م أو عام 2006م بل وقبل عام 1979م أيضًا، ولكن التزايد والشدَّة والتباين المجتمعي يتخذ عادةً منحنيات مفصلية يتقوَّى فيها أو يضعف، وكانت حرب تموز مفصلًا في تصاعد الفرز الطائفي المجتمعي وتقويته، وسوف تظهر القوة التفجيرية لهذا التباين في عام 2012م بعد إعلان حزب الله تدخُّله في سوريا لمساندة النظام السوري.

سياسات الإقصاء والمركزية

نعم؛ هناك دلائل عديدة تؤكِّد أن هويات الأقلية قد تتحوَّل إلى قوة تدميرية مهدِّدة للدولة، ما لم تتمكَّن الأخيرة من خلقِ بدائل أخرى تؤدي إلى تحييد التأثيرات الاجتماعية والسياسية للهوية، وقد يكون خيار المشاركة السياسية علاجًا ناجعًا لامتصاص المكنون الاحتجاجي الداخلي للهوية. فالاختلاف بين أنماط التعامل مع الأقليات، يتركَّز أساسًا في مستوى إدارة ذاك التنوع وتوفره على آلياتٍ حقوقية وسياسية، تحفظ سمة الاستقرار الداخلي للمجتمع.

في نهاية المطاف، فإن ما تتميز به الدولة الحديثة هو طريقة تسويقها لمفهوم المواطن أو المواطنة الذي يُعَدُّ مفهومًا أساسيًّا تنهض عليه الدولة الوطنية الحديثة، كما أنه الأساس الدستوريُّ للمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الدولة الواحدة. ويرتكز هذا المفهوم على ثلاثة أسس؛ أولها: حقوقي يرتبط بالمساواة بين المواطنين. والثاني: سياسي اجتماعي يتعلَّق بالمشاركة السياسية، وكذلك المشاركة في عائد التنمية. والثالث: رمزي معنوي يرتبط بمعاني الانتماء والارتباط بالوطن. ويتعلَّق مفهوم المواطنة بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة، فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بجنسه أو بقوميته، وإنما يُعرف تعريفًا قانونيًّا اجتماعيًّا بأنه مواطن، أي بكونه عضوًا في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، وشرط المواطنة الكاملة هو المساواة التامَّة في الحقوق والواجبات وأمام القانون وتلبية الحاجة إلى الأمن الذاتي للأفراد وحاجتهم للاندماج.

 

منشورات أخرى للكاتب