نحو تنمية تكنولوجية عراقية: مظاهر التخلف (1 من 3)

يعاني العراق مشاكل عديدة تحول مباشرة وبفاعلية دون تقدمه الاقتصادي خاصة من الناحية التكنولوجية. إذ تتسم الحركة العلمية بالبطء الشديد. فالمقالات العلمية قلية من حيث عددها وضعيفة الفائدة من حيث استغلالها. وكذلك حال الاختراعات.
ولا تسهم السلطات العامة في التنمية التكنولوجية نظراً لعدم اهتمام مالية الدولة بالتطور الصناعي. كما يفتقر العراق كغيره من البلدان العربية لقطاع خاص يتبنى البحث العلمي. أدى هذا الوضع إلى تدني القيمة الصناعية المضافة فانعكس سلبياً على الصادرات والاستثمارات والعمالة والنمو.
وتزداد المشاكل حدة بسبب عدم توفر المناخ المناسب للتنمية نتيجة تدهور الوضع الأمني واستشراء الفساد المالي وتردي البنية التحتية بمختلف صوره. بات مهد الحضارات وموطن الخلافة العباسية في صفوف الدول الأقل نموا في العالم. ولا توجد أية مبادرة جدية للنهوض به. يتعين إذن تحليل عوامل التخلف للوصول إلى السبل الكفيلة بمعالجته.
تنطلق هذه المعالجة من توفير المناخ الاقتصادي والسياسي الملائم. فلا بد من مواجهة المشاكل الأمنية بسرعة وزيادة إنتاج الكهرباء وتحسين البنية التحتية في جميع المجالات. ويبدأ التصدي المباشر للأزمة بنقل التكنولوجيا من الخارج. فبدلاً من استيراد الأدوات الكهربائية ومعدات النقل تعقد اتفاقات مع شركات أجنبية منتجة لهذه الأدوات والمعدات في سبيل الحصول على رخص لإنتاجها محليا.
بيد أن التحول من الاستيراد إلى نقل التكنولوجيا ليس سوى التحول من تبعية تجارية إلى تبعية علمية للخارج. يتعين إذاً أن تكون فترة النقل انتقالية تمهد الطريق لتوليد التكنولوجيا محليا. لبلوغ هذا الهدف يجب إنشاء مؤسسة مختصة بالبحث العلمي والتطوير التكنولوجي تهتم بجميع الاختصاصات والميادين. كما يتعين زيادة الإنفاق العام على البحث والتطوير. اعتمادات حكومية قدرها 2% من الناتج المحلي الإجمالي ضرورية لرفع المستوى التكنولوجي في العراق.
قد يرى البعض إن هذه الخطوات غير مجدية في بلد كالعراق لديه الإيرادات النفطية الكافية لاستيراد المعدات والمواد اللازمة. ففي بعض الأحيان تتطلب الصناعة عشرات السنين من البحث العلمي وأموال طائلة في حين يمكن شراء السلع الاستهلاكية والإنتاجية بسرعة وبأسعار مناسبة نتيجة شدة التنافس التجاري الدولي.
لكن ينبغي محاربة هذا الطرح بشتى الوسائل لأنه يشجع على التخلف. لاشك إن الإيرادات النفطية غير ناجمة عن جهود مضنية للمواطنين بل عن هبة الطبيعة للبلد. لكن ذلك لا يبرر استخدامها كيفما اتفق. فالنفط نعمة في جميع الحالات والسياسة الاقتصادية نقمة إن لم تستخدم هذه الهبة في الاعتماد على الذات بخلق المعرفة للوصول إلى صناعة معينة. هذه هي التكنولوجيا التي تهدف إلى التحسين المستمر لمواصفات السلع والخدمات وتقليص كلفة إنتاجها. وبالتالي تنخفض أسعار المنتجات وترتفع قدرتها التنافسية. وتسعى التكنولوجيا إلى تطوير الميادين الصحية والتعليمية والهندسية والعسكرية. كما تقود إلى تنمية الزراعة والصناعة والخدمات فتتنوع مصادر الناتج المحلي الإجمالي وتتحقق عندئذ الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
للتخلف التكنولوجي في العراق ستة مؤشرات رئيسة وهي تدني عدد المقالات العلمية وقلة عدد الباحثين وضآلة الإنفاق على البحث والتطوير وندرة الاختراعات وضعف القيمة المضافة للصناعات التحويلية وغياب الصادرات التي تعتمد على البحث العلمي.

تدني عدد المقالات العلمية

يتصف المقال بالعلمية إذا كان جديداً ويتوفر فيه عنصر الإبداع ويعتمد على الطرق الأكاديمية وينشر في مجلة علمية متخصصة ومعترف بها. ويخضع للجنة تحكيم مختصة ومستقلة عن المجلة.
وميادين البحوث ستة وهي العلوم الهندسية والطبية والزراعية والطبيعية والاجتماعية والإنسانية. وكما هو معلوم ينقسم كل ميدان إلى عدة فروع. فالعلوم الطبيعية مثلاً تضم الفيزياء والكيمياء والأحياء وهكذا.
حسب اليونسكو ازداد عدد البحوث العلمية المنشورة في العراق من 554 بحثاً في عام 2010 إلى 1227 بحثاً في عام 2016. أي تضاعف العدد خلال فترة قصيرة. ورغم هذا التحسن لا يزال عددها قليلا مقارنة بدول أخرى. ففي السعودية وصل عدد البحوث إلى ثمانية أضعاف قياساً بالعراق. عدد البحوث العراقية السنوية يعادل عدد البحوث الإيرانية لمدة 11 يوماً فقط. البحوث في العراق تساوي تقريباً البحوث في غانا أو في كينيا.
ولابد من الإشارة إلى أن المؤسسات العالمية المتخصصة بتصنيف المجلات العلمية (تومسون روترز واينيست وسكوبيوس) غير مقتنعة بعلمية المجلات العراقية وبالتالي بجدية المقالات المنشورة فيها. لكن تصنيف سيماكو لعام 2018 وضع العراق في المرتبة العالمية رقم 52 الذي يعادل المركز العربي الرابع.

قلة عدد الباحثين

الباحث هو الذي يمتهن تحليل وتطوير المعلومات أو المواد أو الطرق في أحد فروع العلوم المذكورة آنفاً.
في العراق كما هو حال الكثير من الأقطار العربية لا توجد مراكز بحوث علمية إلا على نطاق ضيق. وبالتالي فإن عدد الباحثين قليل جداً ويقتصر على الجامعيين الذين يخصصون معظم أوقات عملهم المهني للتدريس والأشراف على الدراسات. 96% من الباحثين مرتبطين بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أي بالجامعات.
يتجه عدد الباحثين نحو الهبوط سنويا حيث انتقل من 1168 باحثاً لكل مليون نسمة من السكان في عام 2008 إلى 314 باحثاً لكل مليون نسمة من السكان في عام 2017. أنها ظاهرة خطيرة. في حين يزداد العدد في الدول الأخرى. ففي تونس وصل إلى 3260 باحثاً لكل مليون نسمة من السكان.
ولما كان الباحث العراقي أستاذاً جامعياً فإن عدد الباحثين المتفرغين (وقت كلي مكافئ) اقل من ذلك بكثير. نستنتج من إحصاءات اليونسكو أن كل ثلاثة أساتذة جامعيين يعادلون باحثاً متفرغاً واحداً فقط. لذلك لا تجد هذه المنظمة سوى 103 باحثين متفرغين لكل مليون نسمة. في حين يصل العدد إلى 1945 باحثا لكل مليون نسمة في تونس.

ضآلة النفقات

إنها الأموال التي تصرف من قبل جميع قطاعات الدولة للبحوث في الميادين العلمية المذكورة أعلاه.
انتقل حجم الإنفاق على البحث العملي والتطوير التكنولوجي في العراق من 54 مليار دينار في عام 2008 إلى 102 مليار دينار في عام 2017. أي ما يعادل على التوالي 0.03% و 0.04% من الناتج المحلي الإجمالي. تدل هذه الأرقام دلالة واضحة على إهمال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي من قبل السلطات العراقية. إذ يتصف هذا الإنفاق بالضعف الشديد مقارنة بالدول الصناعية والنامية على حد سواء. ففي ألمانيا تصل النسبة إلى 2.94% من الناتج المحلي الإجمالي أي 73 ضعف النسبة في العراق. المبلغ في ألمانيا لمدة يوم واحد يعادل المبلغ المخصص في العراق لمدة أربع سنوات. كما نلاحظ التخلف العراقي عند إجراء مقارنة مع الدول العربية بل حتى مع بعض البلدان الأكثر فقراً في العالم. ففي الإمارات تنفق الدولة 0.94% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي أي 3.4 مليار دولار. وهذا المبلغ يعادل أربعين مرة الإنفاق في العراق. بل أن النسبة في العراق اقل من تلك المقررة في أوغندا أو الكنغو أو أثيوبيا.
أما من حيث الإنفاق حسب القطاعات فقد حدث تطور إيجابي يتمثل بتنويع أبواب الصرف. ففي عام 2008 كان الإنفاق يتجه بالدرجة الأولى نحو البحوث الزراعية التي خصصت لها 66% من نفقات البحث العلمي. مقابل 13% للعلوم الطبيعية و9% للعلوم الهندسية و1% للعلوم الطبية و 9% للميادين الأخرى. وفي عام 2017 حصلت البحوث الزراعية على 8% والطبيعية على 19% والهندسية على 24% والطبية على 18% والإنسانية والاجتماعية على 29%.

ندرة براءات الاختراع

الاختراع هو العمل المبدع والجديد الذي يمكن استغلاله لمعالجة مشكلة معينة في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات. والاختراع أساس التنمية التكنولوجية وأحد أهداف البحث العلمي والتعليم العالي. لذلك بات من اللازم حمايته بشهادة تمنح لصاحبه. إنها براءة الاختراع التي لا يمكن التنازل عنها أو استغلالها إلا بموافقته. ولا تحرز التكنولوجيا تقدماً إلا عن طريق تزايد أعداد الاختراعات وتنظيم حمايتها القانونية.
حسب البنك العالمي بلغ عدد طلبات براءات الاختراع في العراق 613 طلبا. مقابل 15264 طلباً في إيران و260290 طلباً في اليابان. علماً بأن شهادات براءات الاختراع العراقية ما بعد الاحتلال كالشهادات المحلية الأخرى تعاني من عدة مشاكل معروفة لدى العراقيين.

غياب الصادرات الصناعية

لما كانت القيمة المضافة في الصناعات التحويلية ضعيفة جداً بسبب ريعية الاقتصاد العراقي تصبح الصادرات الصناعية التي تعتمد على البحوث العلمية منعدمة تقريبا. في أفضل الحالات لا تشكل هذه الصادرات أكثر من 2% من مجموع الصادرات.
كما تتسم الصادرات الصناعية (المتكونة من الدهون النفطية والجلود الحيوانية وتكاد تنحصر على البيع للإمارات) بانعدام الجودة فتصبح غير قادرة على المنافسة. وفق تقرير صادر في عام 2018 عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية احتل العراق المرتبة العالمية رقم 122 من حيث التنافسية الصناعية وهي المرتبة ما قبل الأخيرة.
ومن زاوية أخرى تطورت التجارة الخارجية العالمية غير السلعية فأصبحت الدول الصناعية تعتمد في صادراتها على بيع الاختراعات والمعلومات. أما العراق كغيره من الدول العربية فلا يعرف مثل هذه الصادرات.
لا يختلف العراق من الناحية التكنولوجية عن الدول الإفريقية الأقل نمواً في العالم. بات من اللازم العمل بجدية على معالجة هذه الأزمة الخطيرة. وينبغي أن تنطلق المعالجة من تهيئة المناخ الملائم لتنمية التكنولوجية.

منشورات أخرى للكاتب