نماذج السياسات الخليجية تجاه الجماعات الشيعية

ليس من المؤكَّد هنا أن سياسات الأنظمة السياسية تنتهج سلوكًا طائفيًّا إزاء الجماعات الشيعية، إلا تلك الأنظمة التي ظلَّت – ومنذ فتراتٍ تاريخية طويلة – تتوجَّس من الشيعة ومن مطالبهم بالمساواة والمشاركة السياسية. فعلى سبيل المثال، حُرم الشيعة من الترشُّح في انتخابات المجلس التشريعي الأول في الكويت سنة 1938، وسُمح لهم بالتصويت فقط، وارتفع هذا الحظر بعد إصدار دستور الكويت سنة 1962 الذي جعل جميع المواطنين سواسيةً في المشاركة السياسية.

خلاف ذلك، كان الشيعة في البحرين يشاركون في الانتخابات البلدية التي أجريت منذ عام 1919م، وشاركوا في انتخابات المجلس التأسيسي عام 1973م والمجلس الوطني في عام 1974م. أما أوضاع الشيعة في الإمارات فهم يجسدون أكثر حالات الاندماج نجاحًا في منطقة الخليج؛ فلم يشهد المجتمع الإماراتي في تاريخه ما سُمي بـ”المسألة الشيعية” التي شهدتها مجتمعات خليجية أخرى.

في هذا السياق، يمكن القول إنه على الرغم من تباين مستوى انفتاح النُّظم الحاكمة على الأقليات الدينية وطبيعة نظرتها إلى هذه الأقليات باختلافها، فإنها تشترك جميعًا في وجود نوعٍ من التوجُّس تجاه توجهات بعض الأقليات الدينية ومطالبها، وبالأخص الشيعية منها. هذا التوجس والحذر يكاد يتلاشى في أوضاع الأقليات الدينية الصغيرة جدًّا، إن لم تكن هذه الأقليات عنصرًا مساندًا وداعمًا للنُّظم الحاكمة. وإذا ما انتقلنا إلى مجال السياسات الحكومية إزاء الأقليات الدينية، فيمكن القول إن هناك تباينًا واضحًا إزاء التعامل مع الأقليات الدينية اعتمادًا على حجم الأقلية وسياساتها تجاه الدولة أو السلطة الحاكمة. ويضاف إلى ذلك أن الأنظمة الحاكمة تتخذ نماذجَ متعدِّدة من السياسات إزاء كل أقلية، فهي تنتهج نموذج التسامح أو الاحتواء مع أقلية، وتلجأ إلى نموذج الإدراج أو نموذج الانفتاح المحدود مع أقلية أخرى.

النموذج الأول: نمط التسامح والتوظيف

يحتوي هذا النموذج على سياساتٍ متبادلة بين الأقليات والنُّظم الحاكمة تقوم على الاعتراف الضمني بقواعد التكيُّف الاجتماعي والسياسي وتمثِّله الأقليات الدينية الصغيرة جدًّا كما في حالة الشيعة في قطر والإمارات وعمان. فمن جهة النُّظم الحاكمة فهي تتبع سياسة الاحتواء للأقليات الصغيرة جدًّا، بل تعمل على دعمها ومساندتها اجتماعيًّا ودينيًّا. ولا تخلو هذه السياسة من أهدافٍ سياسية تقع في رغبة السلطة الحاكمة في تدعيم شرعيتها السياسية من خلال دعم الأقليات الدينية الصغيرة لها وامتناعها عن الدخول في تحالفاتٍ مع الجماعات السياسية التي يبدو عليها طابع المعارضة.

في الوقت نفسه، فإن سلوك الأقليات الدينية الصغيرة أو حتى الأقليات الإثنية الصغيرة عادةً ما يتوجَّه ناحية التحالف مع السلطات القائمة باعتبارها الجهة القادرة على حمايتها من طغيان الأكثرية، وبالتالي فإن هناك تبادلَ منفعة بين هذه الأقليات الدينية الصغيرة وبين السلطات الحاكمة.

والنموذج الأمثل لمثل هذه السياسات هو النموذج القطري ونموذج دبي، حيث نجد أن نظام الحكم يولي اهتمامًا للجماعات الشيعية ويخصِّص لهم مقعدًا في مجلس الشورى في ظل توتر سياسيٍّ بالغ الأثر مع الجماعات السياسية الأخرى، كما في حالة الإخوان في دبي. كما أن الحالة الكويتية والتحالف السياسي بين النخبة الحاكمة وأغلب الجماعات الشيعية باعتبارهم أقليةً مؤثرة، تعطي مثالًا آخر على مدى تغلغل سياسة الاحتواء للأقليات الدينية داخل النُّخب الحاكمة واتصال ذلك بالبُعْد الأخلاقي للشرعية السياسية.

مع ذلك، فإن هذه الأقليات الدينية الصغيرة لا تؤكِّد رضاها التامَّ عن مخرجات سياسة الاحتواء، وهي تدرك أن نتائج هذه السياسة متوقفةٌ على ميزان القوى بين السلطة والمعارضة، وبالتالي فهي تطمح أن تكون علاقاتها مع الدولة علاقةً دستورية ثابتة ومتساويةً مع الأكثرية الدينية أو المذهبية.

يؤدي هذا النمط من السياسات إلى تطور خاصٍّ للأقليات الدينية الصغيرة يختلف عن تطور مسار الأقليات الكبيرة، وينعكس أيضًا على النشاط الاقتصادي والاجتماعي لهم، فعلى سبيل المثال تتجه أنشطة الأقليات الصغيرة في دول الخليج إلى التجارة والأعمال الاقتصادية المربحة استفادةً من النمط الاقتصادي الريعي للدولة في المنطقة وتوظيفًا لآليات اقتصاد السوق بما يتفق والبرمجية الخاصة باقتصاد الأقلية. كما يوفر هذا النمط من السياسات المتسامحة إزاء الأقليات تثبيتًا لسلوك الأقلية الديني والإحالة دون انتقاله من التدين الذاتي إلى مستوى الطائفة أو المستويات الأكثر تقدمًا مثل الأدلجة الدينية.

النموذج الثاني: نمط الإدراج والإقصاء

وهو نمط سائد في التعامل مع الأقليات عمومًا والأقليات الكبيرة خصوصًا، حيث تفرض النُّظم الحاكمة مجموعةَ قيودٍ وترسم سياساتٍ تتَّسم بالتهميش والإقصاء لتلك الأقليات، وخير ما يمثل هذا النموذج أغلب الأقليات الدينية في السعودية. مقابل نموذج التسامح والتوظيف المتوجِّه ناحية الأقليات الدينية الصغيرة تبرز سياسة مضادة، وهي سياسة الإدراج للأقليات الكبيرة أو المتوسطة وحتى الأقليات السياسية (ذات الأكثرية العددية)، وهذا ناتج أيضًا عن الفشل في بناء قاعدةٍ اجتماعية حديثة للسلطة، بمعنى أن العلاقة لم تؤل إلى انضواء الأجزاء كافةً في كيان سياسيٍّ عقديٍّ، أي قائم على العقد الاجتماعي، كيما يتبلور لاحقًا في دولة ذات حكومة تمثيلية (representative government)، أي تمثل الأجزاء في المركز، وتحديدًا في الجهاز الإداري للدولة، وصولًا إلى إنجاز عملية إدماج حقيقيٍّ للأجزاء في بنية الدولة الناشئة، وتاليًا خلق هوية وطنية عامَّة تستمدُّ مكوناتها من عملية صهرٍ معقَّدة وواسعة النطاق لهوياتٍ خاصَّة.

وحسب فؤاد إبراهيم: “فقد تمدَّد المركز إلى الأجزاء وفرض سطوته عليها إداريًّا، فتمت عملية تذويب للأجزاء تحت وطأة الحضور الكثيف للمركز في التركيبة الإدارية للأجزاء الملحقة، وفي نظمها الثقافية والاجتماعية والقانونية، وتاليًا فرضت الدولة هويةً خاصَّة مؤلَّفة من مكونات الجماعة المهيمنة، وفي نهاية المطاف أسبغت الدولة الجديدة هويتها الخاصَّة الثقافية والدينية والسياسية على مجمل الرقعة التي تتمسرح عليها في عملية محوٍ شامل للتنوع الثقافي والمذهبي والاجتماعي”.

النموذج الثالث: نمط الانفتاح المحدود

يكْمُن هذا النمط في خصوصية الهياكل الاجتماعية في الدولة، من حيث تمييز المجتمع متشكل أساسًا من وحداتٍ اجتماعية لا ترتبط بنظامٍ شامل من الرموز أو القيم المركزية، وهو ما يؤدي إلى أن تكون قوة الدولة غير كافية لتحقيق السيطرة الاجتماعية. ونتيجة لذلك، ينشأ صراعٌ من أجل السيطرة الاجتماعية بين الفئات القوية المتزعمة للوحدات الاجتماعية التي عادةً ما تكون غير راغبة في التخلِّي عن الامتيازات الخاصة بها، وبين الدولة.

يكثر هذا النمط في وضع الجماعات الشيعية في الكويت أو البحرين، حيث تشكِّل الجماعات الشيعية الأكثرية العددية في البحرين والأقلية الكبرى في الكويت.

مثل هذه السياسات المرسومة تقع تحت عنوان ما أسميه “السياسة من أجل البقاء على قيد الحياة”، حيث تدعو الدولة لفتح قنواتٍ تؤمن لها التعبئة وتبعد عنها مجموعة المخاطر الناتجة من تمرُّد الوحدات الاجتماعية شبه المستقلَّة بما في ذلك الأقليات الدينية في محاولةٍ لمنع تشكيل مراكز قوى مستقلَّة، حيث تشارك الأقليات الدينية بشكل محدودٍ في إدارة الدولة بغرض تخفيف التهديدات المحتملة وإعادة شحن مخزون الشرعية.

وهنا تبرز تفاصيلُ عديدة ضمن سياسات هذا النموذج، حيث نجد أنه في بعض السياسات المتصلة بالصراعات المعقَّدة تلجأ الدولة إلى أن تتحالف مع بعض الفئات ضد فئاتٍ أو توجهاتٍ داخل الأقلية، وتضمن لها مناصب متقدِّمة في الدولة بغرض الاستفادة منها في فرض السيطرة الاجتماعية على أفراد الأقلية أو تنفيذ سياسة الدولة عليها. ورغم نجاعة هذا النمط في منع انفصال الأقليات الكبيرة أو على الأقل الحد من طموحها، فإن هذه السياسات تعوق عملية بناء الدولة الحديثة.

منشورات أخرى للكاتب