تأثير العقوبات الأمريكية على المالية الخارجية لإيران: ما العمل؟

يسجل ميزان المدفوعات الإيراني عجزاً كبيراً قدره ثمانية مليارات دولار. وبسبب العقوبات الأمريكية المالية والتجارية لا سيما النفطية سيزداد هذا العجز ما يعني تدهور جميع الأنشطة الاقتصادية. بطبيعة الحال، ستتخذ الدولة عدة إجراءات للتصدي لهذه الأزمة لكنها سوف تكون غير كافية وضعيفة الفاعلية، ناهيك عن مساهمتها في خلق مشاكل أخرى.

عجز ميزان المدفوعات
تلعب الصادرات النفطية دوراً بارزاً في ميزان المدفوعات، وهي تحتل المركز الأول فيه. وبالتالي، يقود نقص حصيلة هذه الصادرات إلى نتائج اقتصادية سلبية تؤثر تأثيراً مباشراً على جميع الأنشطة وعلى مستوى معيشة المواطنين. في عام 2017-2018 بلغت 65818 مليون دولار (تعتمد أرقام هذه الفقرة على إحصاءات البنك المركزي الصادرة في مايو 2019) أي 67.0% من الصادرات السلعية الكلية للبلد.
كما نستخلص من قراءة هذا الميزان تدهور المالية الخارجية رغم تحسن الصادرات النفطية. ففي الفترة بين 2103-2014 و 2017-2018 ارتفعت الصادرات النفطية والغازية من 64541 مليون دولار إلى 65818 مليون دولار. كما تحسنت الصادرات غير النفطية سواء كانت زراعية أم صناعية. لكن فائض الميزان الجاري انخفض بشدة من 25105 مليون دولار إلى 15816 مليون دولار. نجم هذا الهبوط عن ثلاثة عوامل رئيسة:
العامل الأول: ارتفاع الواردات السلعية المدنية والعسكرية من 63584 مليون دولار إلى 75546 مليون دولار. في بداية الفترة المذكورة أعلاه كانت الصادرات النفطية والغازية تفوق بكثير الواردات. وفي نهايتها لم تعد هذه الصادرات كافية لتغطية الواردات.
العامل الثاني: تزايد عجز حساب الخدمات. ويرتبط بالمقام الأول بخدمات النقل والسفر. فقد تحسنت الإيرادات لكن النفقات سجلت تصاعداً أكبر. وهكذا انتقل عجز هذا الحساب من 6820 مليون دولار إلى 7916 مليون دولار.
العامل الثالث: هبوط فائض حساب الدخل. انخفضت الإيرادات المتأتية من تحويلات العمال الإيرانيين المقيمين بالخارج ودخل رأس المال المستثمر بالخارج من 3209 مليون دولار إلى 2440 مليون دولار. وبالمقابل ارتفعت تحويلات دخل رأس المال الأجنبي المستثمر بإيران من 1175 مليون دولار إلى 1771 مليون دولار. لذلك هبط فائض هذا الحساب من 2034 مليون دولار إلى 669 مليون دولار.
ويأتي تدهور حساب رأس المال والحساب المالي نتيجة عوامل عديدة في مقدمتها تزايد المصروفات اللازمة خارج البلاد فيما يعتبره مناؤون لطهران ضمن سياسة التدخل في شؤون بلدان عربية. لذلك انتقل ميزان المدفوعات من فائض بمبلغ 13189 مليون دولار في عام 2013-2014 إلى عجز بمبلغ 8140 مليون دولار في عام 2017-2018. بمعنى أن المالية الخارجية تعاني مشاكل حقيقية حتى قبل دخول الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ. وعلى هذا الأساس ستشهد المالية الخارجية أزمة على إثر العقوبات التي تشمل المبادلات المالية والصادرات النفطية.

تداعيات العقوبات
تشير بيانات الربع الأول من العام الجاري 2019 إلى هبوط التبادل التجاري مع الدول الرئيسة. مقارنة بالربع الأول من العام المنصرم تراجعت الصادرات النفطية للصين والهند واليابان وتركيا بنسبة 43%. وستظهر حالة جديدة تتمثل بعجز الميزان الجاري وما يترتب عليه من نتائج خطيرة. عندئذ سيدخل الاقتصاد الإيراني في حالة انكماش شديد وخطير .
سيتدهور باستمرار سعر صرف الريال. كلما اشتدت العقوبات تزايد تكالب الأشخاص على شراء العملات الرئيسة خاصة الدولار. وسيتراجع عرض الدولار نتيجة العقوبات التي تحرم التعامل به.
وبحكم قانون السوق في العرض والطلب ستنخفض مجدداً القيمة التعادلية للعملة الإيرانية. علماً بأن هذه العقوبات ليست العامل الوحيد بل هنالك مجموعة مؤثرات أخرى ترتبط بالسياسة الاقتصادية. فقد أدى العجز المزمن لميزانية الدولة إلى اللجوء المتزايد للإصدارات النقدية فانتفخت الكتلة النقدية وانخفضت بالتالي قيمتها التعادلية. وهكذا انتقل سعر صرف الدولار في السوق الموازية من 32 ألف ريال في مايو 2017 وإلى 68 ألف ريال في مايو 2018 ثم إلى 154 ألف ريال في مايو 2019. وسيستمر الانخفاض وبنسبة أعلى.
هذا دليل واضح على عدم رغبة البنك المركزي في الدفاع عن قيمة العملة. لأن هذا الدفاع خاصة عندما يكون الهبوط حاداً يتطلب بيع كميات كبيرة من الدولارات في السوق. عندئذ يستنزف الاحتياطي النقدي المتجه نحو التناقص دون التوصل إلى نتائج إيجابية.
أن تصاعد الطلب على العملات الأجنبية وعجز ميزان المدفوعات واستمرار العقوبات الأمريكية واستشراء الفساد المالي تقود بالضرورة إلى هبوط الاحتياطي النقدي وإلى تفاقم المديونية الداخلية والخارجية. عندئذ تهبط قدرة إيران على تمويل المجموعات الموالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
نظراً للتدهور الاقتصادي الداخلي سيستمر هبوط التصنيف الائتماني. بل لم نجد إيران في قوائم الوكالات العالمية الثلاث المعروفة (فيتش وموديز وستاندارد اند بورز). الأمر الذي يعكس ضعف قدرة الدولة على خدمة ديونها الخارجية وعلى تحويل أرباح الاستثمارات الأجنبية. كما يسهم في زيادة أسعار الفائدة على القروض الخارجية. وعند العودة إلى تقرير الجدوى الاقتصادية للاستثمارات الصادر عن البنك العالمي في عام 2019 نلاحظ أن إيران تحتل المرتبة العالمية رقم 128.
مما لا شك فيه تدرك السلطات الإيرانية تماماً هذه المشكلة وتحاول معالجتها بتقديم امتيازات لجلب الاستثمارات إلى قطاعاتها الإنتاجية ولتشجيع الودائع في مصارفها. ومن بين الوسائل المتبعة رفع سعر الفائدة وتقليص الضرائب. لكن هذه الوسائل التي أحرزت نجاحاً في السنوات السابقة لم تعد حالياً فاعلة بسبب العقوبات الأمريكية التي أسهمت بقوة في تأزم الوضع الاقتصادي العام.

الحلول
كثيرة لكنها غير كافية بل فاشلة أحياناً وتخلق مشاكل أخرى. ومنها:
أولا: تقليص الواردات. سوف يؤثر على التنمية الاقتصادية من جهة وعلى المشتريات العسكرية من جهة أخرى. كما ستضطر السلطات العامة إلى الضغط على المخصصات الموجهة لشراء بعض السلع الضرورية للمعيشة والتي تجد تعضيداً لها من قبل الدولة. يتطلب الأمر تضييق الواردات بالأسعار الرسمية للدولار عندئذ ترتفع أسعار الاستهلاك.
ثانياً: اتفاقات لزيادة الصادرات. رغم التهديدات الأمريكية استطاعت طهران في الآونة الأخيرة عقد اتفاقات تجارية واسعة النطاق مع عدة دول وتهدف إلى تحسين الصادرات الإيرانية. ولا يتوقف الحال عند المواد الصناعية والزراعية بل يمتد ليشمل الغاز الطبيعي أيضاً. في مقدمتها اتفاقات مع العراق وأخرى مع تركيا.
ثالثاً: دعم حساب الخدمات. لمعالجة عجز هذا الحساب اتخذت الدولة إجراءات منها زيادة الرسوم على سفر الإيرانيين للخارج. كما ظهرت في الفترة الأخيرة ميادين لجلب النقد الأجنبي كتشجع العراقيين على التطبيب في المستشفيات الإيرانية. ولتسهيل السفر للعلاج أو السياحة قررت السلطات الإيرانية إعفاء العراقيين من رسوم تأشيرة الدخول.
رابعاً: القيود على تحويل الأموال إلى الخارج. وشراء العملات الحرة بالريال خارج إيران.
خامساً: تشجيع الاستثمارات الخارجية. من المعلوم أن إيران على عكس دول مجلس التعاون لا تملك صناديق سيادية ضخمة تستثمر أموالها في الخارج. ولكن لإيران مكانة استثمارية مرموقة في العراق.
لقد أدت العقوبات الجديدة إلى عقد اتفاقات اقتصادية مع بغداد منحت بموجبها تسهيلات هائلة للإيرانيين. عشرات الآلاف من الإيرانيين يتوجهون سنوياً إلى سوق العمل العراقي بعد أن يأسوا من العمل في بلدهم. ويبدو انهم يجدون عملاً بصورة اسهل قياساً بالعراقيين. العامل الإيراني يقبل بأجر اقل من العامل العراقي.
وفق التصريحات الرسمية الإيرانية هنالك 79 شركة إيرانية عاملة في العراق في مختلف الميادين خاصة الطاقة والفنادق والأبنية السكنية. قدرت قيمة استثماراتها بثمانية مليارات دولار. وهي تشغل بالدرجة الأولى الإيرانيين خلافاً للقوانين العراقية التي توجب على الشركات الأجنبية أن يمثل العراقيون على الأقل نصف العدد الكلي للعاملين لديها. أفضى هذا الوضع إلى تزايد البطالة في العراق وهبوط أجور العمال لا سيما في المناطق الجنوبية الأمر الذي يفسر تذمرها.
سادساً: الديون المستحقة لإيران. ظهرت في الآونة الأخيرة اتجاهات نحو المطالبة بتحصيل الديون المستحقة لإيران. يقولون أن على سوريا الوفاء بديونها الناجمة عن الأموال التي أنفقتها طهران للدفاع عن نظامها. ويطالبون بأن يسرع العراق في دفع الديون المترتبة عليه جراء استيراد الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران.
سابعاً: الاستدانة الخارجية. ترتفع الديون الخارجية سنوياً حيث انتقلت من 5527 مليون دولار في عام 2015 وإلى 10034 مليون دولار في عام 2019. لا تشكل هذه الديون حالياً خطراَ على مالية الدولة لأنها لا تمثل سوى 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة ضئيلة بمختلف المقاييس. ينجم ذلك عن رغبة الدولة في تجنب اللجوء إلى القروض الخارجية لتمويل عجز ميزان المدفوعات. إذ غالباً ما يجري السحب من الاحتياطي النقدي.
لكن العقوبات الأمريكية ستقود إلى هبوط حاد لهذا الاحتياطي. وبالتالي سوف لن تجد الحكومة بداً من اللجوء المتزايد للقروض الخارجية. عندئذ ستشهد الديون الخارجية تطوراً جديداً خاصة إذا استمر الحصار الأمريكي.
ثامناً: نظام المقايضة. ترى الدول الأوروبية في العقوبات الأمريكية تدخلاً في شأنها السيادي. ورغبة في إيجاد حل توفيقي قررت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إنشاء نظام مشترك يطلق عليه أسم “أداة تعزيز التبادل”. وبموجبه تستمر العلاقات التجارية مع إيران لإنقاذ الاتفاق النووي. ولكن بالمقايضة. وبمقتضى هذا النظام تصدر شركة أوروبية سلعة ما لشركة إيرانية. وتستورد شركة أوروبية أخرى سلعة من شركة إيرانية أخرى. تقوم الشركتان الأوروبيتان بتسوية عملياتها عن طريق المصارف المعتادة وكأن الواحدة باعت للأخرى. وكذلك الأمر في الشركتين الإيرانيتين. وهكذا تتم المبادلات الخارجية دون تحويلات نقدية خارجية.
رحبت إيران بهذا المقترح الأوروبي دون قناعة بجدواه. وبالفعل مرت أكثر من أربعة أشهر على إنشاء النظام دون إجراء عملية واحدة. اتضح بأن الولايات المتحدة مارست ضغوطاً شديدة على الدول الأوربية كي لا يجد نظامها تطبيقاً له.
وعلى أي حال، يجب أن تستند الحلول إلى البديهيات الثلاث التالية:
أولاً. تتعارض العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران مع المواثيق الدولية. ولا تجد واشنطن ضيراً في ذلك ما دام تصرفها يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية. ولا يرتبط هذا التصرف بالإدارة بقدر ما يتعلق بالنظام. وبالتالي فان انتظار تغييرها في نوفمبر 2020 لإنهاء العقوبات لا يخدم المصالح الإيرانية.
ثانيا: ستقود الحرب (إن وقعت) إلى تدمير إيران بالدرجة الأولى. وسيشمل الدمار دول المنطقة لا سيما العراق الذي سيتحول إلى ساحة أخرى للمعارك.
ثالثاً. تستهدف العقوبات الأمريكية الشعب الإيراني. سيزداد الفقر وتتفاقم البطالة وترتفع الأسعار وتعم الفوضى. سيحدث ذلك خلال فترة قصيرة وحتى في حالة عدم وجود اشتباكات عسكرية وتعثر تصفير الصادرات النفطية.
انطلاقاً من هذه المسلمات يتعين على السلطات العامة النظر إلى الشروط الأمريكية بمنظار ينطلق من مصلحة الشعب الإيراني الذي أنهكته سنوات الحروب والتوترات الإقليمية والمشاكل الاقتصادية. الكف عن التدخل في شأن الدول العربية سيقود بالضرورة إلى تحسن سريع وكبير لمستوى معيشة المواطنين. ويتعين في المقابل أن تتوفر إيران على الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها. وعلى هذا الأساس لا يوجد حل للأزمة الاقتصادية الإيرانية الناجمة عن العقوبات الأمريكية سوى التفاوض بعد الموافقة على تلك الشروط.

منشورات أخرى للكاتب