دول الخليج: من جرائم الإبادة إلى غسيل السياسات

يتكامل الخطاب الإعلامي والدعايةُ السياسية في دول الخليج ليمثلا معاً أرضيةً خصبةً لسياساتٍ حادة ومتطرفة. تتمظهرُ أمامنا هذه السياساتُ كأزماتٍ متتاليةٍ تختلفُ وتتمايزُ قوائمُ ضحاياها وأهدافها من دولة لأخرى، ومن إشتباكٍ لآخر.

لكل دولةِ من دولِ الاشتباك المباشر في المنطقة عدوٌ مُعلن، مشروع تدمير تتبناه وتعمل على انجازه.  نسأل هنا عن أي قومية أو عرقية أو طائفة أو مكون اجتماعي في دول الخليج، بات لا يشعرُ بالاستهداف، الخوف والترصد؟!

وفي ذات التوقيت الذي تنشطُ فيه خططُ ومشروعاتُ التدمير والإلغاء والحسم والحزم على شاكلة (القضاء على الحوثيين/ القضاء على الإخوان المسلمين/ القضاء على النظام الإيراني/ مواجهة عملاء أمريكا/ اسقاط نظام الحمدين/ محاربة الإسلام السياسي/ الموت لإسرائيل/ الموت لأمريكا وحلفائها في المنطقة)، تعتمدُ دول الخليج منهجية “غسيل سياسات” فاعلة، من خلال استثمار ملاءاتها المالية ونفوذها الدولي ومكنات إعلامها الضاربة ودعايتها السياسية في إنتاج مشروعات موازية، تحت عناوين لافتة وسهلة التسويق، منها: (حرب إعادة الشرعية، عام التسامح، ثقافة القبول بالآخر، الإنفتاح، مشروع التعددية، محاربة الإرهاب، القضاء على التطرف).

لا غرابة في هذا السياق ملاحظة أن حتى أكثر التجارب حداثة في الانتقال من فضاءات التشدد والتطرف الى فضاءات التعددية والانفتاح، نجدها بالتوازي، تؤثث هذا الانتقال بخطاب يرتكز على تغليب ثقافة الإلغاء والتخوين وخيارات الانتقام والمحاسبة والتجريم، وصولاً إلى الإعتقالات التعسفية والمحاكمات القضائية المُسيسة بل وتصفية المُعارضين في الخارج ببشاعة!

الذي يحدث اليوم هو أن دول وشعوب منطقة الخليج، وعلى ضفتيه العربية والفارسية، تواجه أزماتٍ وحروباً هي في مستوى خطاباتها وأهدافها المعلنة ونقاطها الساخنة، مشروعات إبادة جماعية بإمتياز.

ولا تقتصرُ مشروعات الإبادة على تلك الصراعات الثنائية والمتعددة الأقطاب بين دول المنطقة (الأزمة الخليجية بين السعودية والإمارات والبحرين وقطر/الحرب على اليمن/ الأزمة الخليجية – الإيرانية) وحسب، بل وبما يتصل وسياسات هذه الدول، في إدارة أزماتها واضطراباتها الداخلية أيضاً.

في الملف اليمني خاصة، ما الذي يجعلنا نتلكأ عن توصيف ما يحدث في اليمن باعتباره حرب إبادة جماعية؟ أليست عمليات القصف العشوائية التي لا تفرق بين الثكنات العسكرية والمدارس والتجمعات المأهولة بالسكان، والحصار الاقتصادي المفروض على المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، سياساتٍ ممنهجةً هدفُها القضاء على الحوثيين، من يتعاطفون معهم، بل وحتى أولئك الذين يعيشون في مناطق سيطرتهم؟

يؤمن الغطاء الدولي الذي قدمته الأمم المتحدة من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2201 أولاً، والدعاية السياسية للتحالف العربي الذي تقوده كل من السعودية الإمارات ثانياً، يؤمنان غطاءاً دولياً لحرب إبادة جماعية تسببت – حتى الآن – في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم؛ دمويةً وجوعاً وفقراً. قبالة ذلك، تكتفي الأمم المتحدة بالتحقيق في بعض عمليات القصف التي اعتبرتها – دون غيرها – جرائم حرب.

ولئن كان المشهد اليمني أكثر صور مشروعات الإبادة الجماعية في الخليج دموية ووضوحاً إلا أن ما يتعرض له المعتقلون في الإمارات – من المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين – هو أيضاً مشروع إبادة جماعية لأي منتمي أو متعاطف مع الجماعة، حتى أولئك الذين أنهو سنوات السجن وأصبح الإفراج عنهم الزامياً بحكم القانون، تتحفظ السلطات الإماراتية عليهم، ناهيك عن عمليات اسقاط الجنسية والحصار الاقتصادي المفروض على المنتمين لهذه الجماعة.

في البحرين؛ حيث تعاني المملكة من أزمة سياسية وأمنية خانقة منذ 2011م، شرعت السلطات آواخر العام الماضي 2018م قانوناً للعزل السياسي يمنع قيادات وأعضاء الجمعيات السياسية المعارضة (المُنحلة) من الترشح أو المشاركة في الإنتخابات النيابية والبلدية. كل ذلك بالتوازي مع أحكام الإعدام واسقاط الجنسية وعقوبات السجن المُغلظة التي يزيد عدد المتضررين منها حتى الآن عن 4000 مواطن، لا يبدو أن ثمة سياقاً يمكن أن يجمع كل هذه الإجراءات سوى أنها سياسة مرسومة تمثل مشروع إبادة سياسية واقتصادية.

قد يستبعد البعض أن تكون اللحظة الراهنة في الخليج صراعات أو حروباً يمكن السبر فيها والنظر اليها بإعتبارها جرائم إبادة جماعية، يُعزز هذه النتيجة فهم سائد وتعريف رائج لما هية “الإبادة الجماعية” باعتبارها عملية عسكرية هدفها ممارسة القتل الممنهج في سبيل القضاء على طائفة أو عرق أو جماعة محددة.

على أي حال، ولئن كان التعريف أعلاه صحيحاً، ويختصر أقسى الصور المُتخيلة – بل الممكنة والتي اختبرتها الإنسانية وأكتوت بفضاعاتها – للإبادة الجماعية وأكثرها بشاعة، إلا أنهُ أيضاً تعريفٌ قاصر، يُديرُ ظهرهُ إلى ما تعتبرهُ الإتفاقية الدولية لمنع “الإبادة الجماعية” (9 ديسمبر/كانون الأول 1948م) إجراءاتٍ خطيرة، تُمثلُ كلُ واحدةٍ منها – لا كُلها بالضرورة – مشروع إبادةٍ جماعيةٍ، وجريمةً دوليةً مُكتملة الإركان.

تشير المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة إلى أن جريمة الإبادة الجماعية تشمل “جميع الأفعال التالية، والمرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية، بصفتها تلك: (أ) قتل أعضاء من جماعة ما (ب) أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء منها (ج) أو إخضاعها، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا (د) فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال (هـ) نقل أطفال من جماعة، عنوة إلى جماعة أخرى”.

إن تفكيكاً لأدبيات ونتائج الحرب والصراعات الفاعلة في الخليج ونقاط التماس فيها لن يخرج عن فضاء واحدة من الفقرات التي تنص عليها المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية. أما الجديد والفريد في هذا المشهد والذي يجعلنا نتردد في فهم ما يحدث كما يجب علينا أن نفهمه، هو أن دول المنطقة نجحت وتنجح في عمليات “غسيل السياسات” بما يضمن تحويل جرائم الإبادة الجماعية والانتهاكات الفضيعة لحقوق الإنسان الى عناوين على شاكلة القضاء على الإرهاب والتطرف، بل والمضي قدماً في مشروعات التحديث والإنفتاح والتعددية.

منشورات أخرى للكاتب