ماذا يعني تصفير النفط في الميزانية الإيرانية؟

تتسم الميزانية العامة في إيران بأربع سمات أساسية: العجز المزمن، واحتلال الضرائب مركز الصدارة في الإيرادات العامة، والأهمية القصوى للنفقات العسكرية في المصروفات العامة، وأخيراً، تراجع النفقات الاستثمارية.

وتقع إيرادات النفط والغاز الطبيعي في المرتبة الثانية بعد الضرائب. لكن العقوبات الأمريكية الرامية إلى تصفير الصادرات النفطية ستقود (إن طبقت فعلاً) إلى أزمة اقتصادية خانقة لا يمكن بحال من الأحوال معالجتها دون التأثير سلبياً وبشدة على جميع الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي على مستوى معيشة المواطنين المتردي أساساً.

فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات اقتصادية ضد إيران تستهدف التعامل بالدولار والقطاع المصرفي وقطاع السيارات وتوريد الحديد والصلب والألمنيوم. ومنع بيع الذهب لطهران. وحضر تصدير المعدات ذات الاستخدامات المزدوجة المدنية والعسكرية. كما أضيفت إليها حزمة ثانية وهي التي تهمنا هنا وتتمثل بمنع تصدير النفط من إيران. ويستهدف المنع وصول الصادرات النفطية إلى الصفر. وهنالك حزمة ثالثة من العقوبات ستظهر معالمها قريبا.

وفي مايو 2108 وضعت الإدارة الأمريكية اثني عشر شرطاً لإنهاء هذه العقوبات في مقدمتها التوقف على تخصيب اليورانيوم مع السماح للوكالة الدولية للطاقة بالتفتيش. والكف عن تطوير الصواريخ. والانسحاب من سوريا. وعدم التدخل في الشأن العراقي واليمني واللبناني. والامتناع عن مساندة الميليشيات في دول المنطقة. وعدم تهديد الدول الحليفة لواشنطن.

دور الأدوات المالية

تسجل الميزانية العامة عجزاً مزمناً يتصاعد سنوياً ويسهم في تردي الوضع الاقتصادي للبلد. في السنة المالية الجارية 2018-2019 بلغ العجز 610 ترليون ريال أي اكثر من ضعف حجم العجز للسنة المالية السابقة.

تحتل الضرائب مركز الصدارة في إيرادات الميزانية العامة. ففي عام 2018-2019 قدرت حصيلتها بمبلغ 2155 ترليون ريال أي 48.6% من الإيرادات الكلية. أما ما يرصد للميزانية العامة من إيرادات نفطية وغازية فيبلغ 1019 ترليون ريال أي 22.9%من الإيرادات الكلية.

لا تشكل الإيرادات النفطية والغازية سوى ثلث حصيلة الصادرات النفطية والغازية. أما الباقي فيذهب لتمويل حسابات ميزان المدفوعات وكذلك إلى جهات أخرى.

وانطلاقاً من هذه المكانة يترتب على العقوبات الأمريكية نتائج مالية خطيرة وسلبية. لكنها اقل حدة من العقوبات التي خضع لها العراق بعد احتلال الكويت.

ولما كانت ميزانية الدولة في حالة عجز مزمن فان هذه العقوبات ستعمق هذا العجز. عندئذ تصبح الدولة أمام الحلول التالية: زيادة الضرائب. تخفيض الإنفاق العسكري. الخصخصة. الإصدارات النقدية.

رأينا أن الضرائب تمثل المورد الأساس للدولة. وتنقسم إلى مباشرة (على الدخول والثروات) وغير مباشرة (على الاستهلاك والاستيراد). وبكيفية عامة يتقاسم هذان النوعان مناصفة الحصيلة المالية. بسبب العقوبات ستتخذ إجراءات اكثر صرامة لربط الضرائب المباشرة. وقد تزداد أسعارها. لكن حصيلتها سوف لن ترتفع ارتفاعاً كبيراً لسبب واحد وهو أن الوعاء العام لجميع الضرائب هو الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب العقوبات سيتراجع معدل النمو بنسبة عالية فينخفض الناتج المحلي الإجمالي. حسب بعض التوقعات سينتقل الناتج المحلي الإجمالي من 430 مليار دولار في عام 2018 وإلى 333 مليار دولار في عام 2019. الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى التأثير سلبياً على الإيرادات الضريبية. أما ارتفاع الضرائب غير المباشرة فسوف يفضي إلى تدهور آخر لمستوى معيشة المواطنين.

أما النفقات العسكرية فقد ذكرت التقارير بأن إيران قلصت نفقات وزارة الدفاع لكنها رفعت مخصصات الحرس الثوري.

والواقع يصعب تقدير الحجم الحقيقي للإنفاق العسكري والأمني نظراً للظروف الحالية التي يمر بها البلد من جهة ولطبيعة الأجهزة العسكرية والأمنية المتعددة من جهة أخرى. كما توجد نفقات عسكرية غير مدرجة أساساً في الميزانية العامة. وبالتالي لا يمكن الجزم بتقليص الإنفاق هنا وزيادته هناك. يكفي في هذا الميدان وضع الخطوط العريضة التالية في علاقة النفط مع الإنفاق العسكري والأمني:

خلال العشر سنوات المنصرمة مرت السياسة الإيرانية بمرحلتين: المرحلة الأولى انتهت في عام 2015. نلاحظ وجود علاقة وطيدة بين الإيرادات النفطية والنفقات العسكرية. كلما ارتفعت الإيرادات زادت النفقات. والعكس بالعكس. والمرحلة الثانية من 2016 ولغاية الآن. وتتمثل بالتدخل الإيراني المتزايد والمتعدد الأبعاد في العراق وسوريا واليمن. لم تعد تلك المعادلة صالحة للتطبيق. أصبحت النفقات العسكرية تتجه نحو التصاعد بغض النظر عن إيرادات النفط والغاز الطبيعي. الأمر الذي اسهم مساهمة فاعلة في تردي الوضع الاقتصادي للبلد. وعلى هذا الأساس ستشهد المصروفات العسكرية ومن باب أولى ارتفاعاً هائلاً بسبب التهديدات الأمريكية.

وبحثاً عن إيرادات إضافية ستتنازل الحكومة عن بعض شركاتها للقطاع الخاص. ولكن الخصخصة ستقود إلى ارتفاع آخر لأسعار السلع والخدمات التي تقدمها هذه الشركات. كما أن حصيلة هذه العملية ليست مهمة من الناحية المالية. ففي العام الحالي بلغت إيراداتها 56.9 ترليون ريال أي 1.2% فقط من إيرادات الدولة.

بسبب صعوبة تحسين حصيلة الضرائب وبالنظر لارتفاع النفقات العسكرية وضعف إيرادات الخصخصة وعدم رغبة الدولة في الاستدانة من الخارج في الوقت الحاضر سيتم اللجوء مجدداً إلى الإصدارات النقدية لتمويل عجز الميزانية العامة. مما سيقود إلى ارتفاع جديد للأسعار وتراجع آخر للقيمة التعادلية للريال.

مضادات التصفير

من الصعب تصفير الصادرات النفطية لأسباب ترتبط بالطرق التي ستتبعها إيران لتعطيل الإجراء الأمريكي. ولإيران في هذا الميدان باع طويل.

المنفذ العراقي. لما كان التأثير الإيراني على العراق قويا سيمر النفط الإيراني عبر الأراضي العراقية رغم الضغوط الأمريكية ليباع وكأنه نفط عراقي. وقد سبق لإيران وأن اتبعت هذا الأسلوب مع روسيا. لكن الفرق في الحالتين أن البيع للروس كان لقاء الحصول على معدات عسكرية وسلع مدنية روسية. أما في حالة العراق فأن النفط الإيراني سيتم بيعه من قبل شركات إيرانية. وفي أسوء الحالات سينقل النفط الإيراني بواسطة شاحنات.

وقد يصل الأمر إلى زيادة الإنتاج العراقي بكميات كبيرة وبيعها لصالح إيران. وهكذا تحصل طهران بصورة أو بأخرى على المبالغ المالية التي ستسجل كدين على إيران أو مقابل الحصول على سلع إيرانية.

الطريق البحري. أي استخدام الناقلات الأجنبية لنقل النفط الإيراني دون تحديد هوية المشتري.

البيع بسعر منخفض. سيباع النفط الإيراني بسعر يقل عن الأسعار العالمية. وقد يهبط سعر البرميل الإيراني إلى نصف السعر العالمي. وستجد تركيا والصين والهند ودول أخرى مصلحة كبرى في شراء النفط الإيراني.

مما لا شك فيه أن الإدارة الأمريكية على علم بجميع طرق النقل. كما أن قواتها العسكرية قادرة تماماً على التصدي لهذه الطرق. لكن الكلفة المالية ستكون عالية. لذلك لا يعني تصفير النفط وصول الصادرات إلى الصفر بالمعنى الحرفي. إذ يكفي أن تهبط الصادرات إلى اقل من مليون ب/ي كي يتدهور الاقتصاد الإيراني. وكلما هبطت الصادرات زادت سرعة التدهور.

ولغاية الآن نجحت واشنطن في سياستها. إذ باتت الميزانية الإيرانية الحالية تعتمد على إيرادات ناجمة عن صادرات نفطية قدرها 1.5 مليون ب/ي. في حين كانت ميزانية العام السابق تعتمد على 2.5 مليون ب/ي. أما سعر البرميل (بعد طرح التكاليف) فقد حدد بمعدل قدره 54 دولاراً. بمعنى آخر وعلى افتراض صحة المعلومات الرسمية سوف تحصل إيران على إيراد سنوي قدره ثلاثين مليار دولار أي اقل من نصف إيرادات العام السابق. ولكن سيكون الحصول على هذا الإيراد صعبا. تشير التقارير إلى عدم استطاعة إيران تصدير اكثر من 0.8 مليون ب/ي. كما ستضطر للبيع بسعر يقل عن السعر المعلن في الميزانية العامة الحالية. هنالك تقديرات تشير إلى أن مبيعات النفط والغاز في إيران سوف لن تتجاوز عشرة مليارات دولار.

ينبغي على السلطات الإيرانية إعطاء أهمية قصوى لثلاثة ملفات أساسية ترتبط ارتباطاً مباشراً بمستوى معيشة المواطنين: البطالة والفقر وأسعار الاستهلاك. أنها كما هو معلوم ملفات متداخلة. فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل (منتصف عام 2018) اكثر من ثلاثة ملايين شخص اغلبهم يعاني من فقر مدقع. وحسب تصريحات مسؤولين إيرانيين بلغ عدد الفقراء أربعين مليون شخص. ويرى صندوق النقد الدولي ارتفاع أسعار الاستهلاك لعام 2019 بنسبة 47%. لابد من معالجة هذه المشاكل لامتصاص التذمر الشعبي المتزايد. ولما كان من الصعب الوصول إلى هذه المعالجة تحت ظل العقوبات الأمريكية يصبح من اللازم قبول الشروط الأمريكية، ولو على مضض.

منشورات أخرى للكاتب