لماذا يتدهور مستوى المعيشة في السعودية؟

يتزايد عدد العاطلين عن العمل في السعودية لكن هذه الظاهرة ليست خطيرة بالدرجة التي تعرفها دول أخرى كمصر والمغرب. كما تعاني السعودية -البلد العضو في مجموعة العشرين- من الفقر. ولكن خطورته أقل بكثير مقارنة ببلدان أخرى كالعراق وإيران. كما تشكو السعودية من مشاكل اقتصادية واجتماعية عديدة قد لا تكون كارثية. بيد أن مجموع هذه المشاكل الصغيرة نسبياً يولد أزمة حقيقية تنعكس مباشرة على مستوى معيشة المواطنين ويؤدى إلى تدهوره بصورة مستمرة.

وفي مقدمة هذه المشاكل؛ الاختلال المالي وكيفية معالجته.

العجز المالي

تسجل الميزانية السعودية عجزاً مزمناً قدر بمبلغ 131 مليار ريال في عام 2019. وبذلك يتبين تراجع الحكومة عن استهداف عام 2019 للتوازن المالي المخطط له في النسخة الأولى لرؤية المملكة 2030. أصبح حالياً العام المستهدف 2023. في حين يرى صندوق النقد الدولي (الصفحة 10 من وثيقة مشاورات المادة الرابعة لعام 2018) عدم مقدرة الحكومة على تحقيق ذلك حيث سيصل العجز المالي بتقديره إلى 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023.

ينجم العجز المالي عن تباطؤ الإيرادات النفطية وارتفاع النفقات العامة خاصة العسكرية. ولمعالجة هذا العجز لجأت الدولة إلى خصخصة الكثير من الشركات العامة في مختلف الميادين. ترتب على ذلك ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي تقدمها الشركات التي تمت خصخصتها فتراجع مستوى معيشة المواطنين.

ولتغطية العجز لجأت الدولة أيضاً إلى القروض الداخلية والخارجية. وسيستمر الاعتماد على هذا المصدر في السنوات القادمة فيقود بالضرورة إلى ارتفاع الديون العامة. حسب وثيقة برنامج التوازن المالي -تحديث 2019- بلغ حجم هذه الديون 560 مليار ريال في عام 2018. ويتوقع البرنامج وصوله إلى 678 مليار ريال في عام 2019 ثم إلى 754 مليار ريال في عام 2020 وإلى 848 مليار ريال في عام 2021. ومن البديهي أن يقود هذا التطور إلى تزايد الفوائد. وكلما زادت فوائد الديون هبط مستوى المعيشة. لأن الفوائد أموال عامة تقتطع من جميع فئات المجتمع لتدفع للدائنين.

ومن زاوية أخرى سيكون لرفع أسعار الكهرباء والبنزين الدور الأكبر في تغطية العجز المالي. حسب صندوق النقد الدولي بلغت إيرادات الدولة الناجمة عن ارتفاع هذه الأسعار 30 مليار ريال في عام 2018. تحمل الأفراد 80% من هذا العبء. ويتوقع الصندوق زيادة الإيرادات السنوية من هذا الباب حتى تصل إلى 112 مليار ريال في عام 2023.

بلا شك سيقود هذا الأسلوب في تغطية العجز المالي إلى تدهور جديد في مستوى المعيشة. خاصة وأن أنظار الحكومة والصندوق تتجه نحو تقليص الاعتمادات المالية المخصصة للمرتبات والأجور التي تستحوذ على حوالي نصف نفقات الميزانية العامة.

ارتفاع أسعار الاستهلاك

في ديسمبر 2018 ارتفع المعدل العام للمستهلك بنسبة 2.2% مقارنة بنفس الشهر من العام السابق. يتعين مناقشة السلع والخدمات التي شهدت خلال هذه الفترة ارتفاعاً أو انخفاضاً من جهة والإشارة إلى العلاقة بين مستوى المعيشة وكيفية حساب هذا المعدل من جهة أخرى.

ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 7.1% أي اكثر من ثلاثة أضعاف المعدل العام. وهذا يمس جميع فئات المجتمع لاسيما الفقيرة منها. إذ لا يمكن الاستغناء عن هذه السلع أو الاستعاضة عنها بمواد أخرى. وقد عرفت أسعار الخبز والحبوب والسمك والخضار ارتفاعاً كبيراً لم يسبق له مثيل في غالبية البلدان. فعلى سبيل المثال ارتفعت خلال سنة واحدة أسعار السمك بنسبة 19.4%.

وبالعكس سجلت أسعار السكن انخفاضا قدره 5.1%. ولكن لابد من التفرقة بين مفردات هذه الخدمة. فقد تحقق الانخفاض في إيجارات العقارات فقط نتيجة الأزمة التي تشهدها البلاد. في حين سجل استهلاك الغاز والمياه ارتفاعاً كبيراً. كما تصاعدت أسعار استهلاك الكهرباء بنسبة عالية قدرها 27.6%.

كما سجلت أسعار الطاقة تصاعداً غير مسبوق في مطلع العام الجاري 2019. فعلى سبيل المثال انتقل سعر لتر البنزين من 0.80 ريال إلى 2.04 ريال أي بنسبة 155% بين ليلة وضحاها.

من الناحية الرسمية يسعى رفع أسعار الطاقة إلى “ضمان الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية الوطنية”. ولكن دفع المستهلكون ثمناً باهظاً لهذا الاستخدام أثر بشدة على قدرتهم الشرائية.

وحسب وزارة المالية يتعين أن تستمر أسعار المنتجات النفطية والغاز والكهرباء بالارتفاع لغاية عام 2025 موضحة بأن هذه السياسة ضرورية لدعم برنامج التوازن المالي. ولابد من الإشارة إلى أن الحكومة تطبق برنامج “حساب المواطن” للتخفيف من حدة ارتفاع أسعار الطاقة على المواطنين.

أما النقطة الثانية فتتعلق بالمؤشر العام للأسعار الذي يستحوذ على مكانة خاصة في جميع دول العالم لأنه يوضح وبسرعة الاتجاه الإجمالي لأسعار السلع والخدمات. ويرتكز على الأهمية النسبية للسلع والخدمات. وحتى تتمتع النتائج بمصداقية كافية يتعين أن لا تتلاعب الأجهزة الإحصائية بهذه الأهمية بحثاً عن نتائج تخدم أغراضاً معينة سياسية بالدرجة الأولى.

في يناير 2018 تم تعديل الأهمية النسبية لأهم مفردات سلة السلع والخدمات. فقد انتقلت المساهمة النسبية لأسعار المواد الغذائية والمشروبات من 22.0% إلى 18.8%. وبالعكس ارتفعت مساهمة السكن ومرفقاته من 20.5% إلى 25.3%. ترى ما هي تداعيات هذا التعديل الذي مر مرور الكرام في السعودية.

عند العودة إلى مختلف السلع والخدمات نلاحظ أن أسعار المواد الغذائية والمشروبات ترتفع بنسبة عالية (7.7%) في حين شهدت أسعار السكن انخفاضا مهماً (3.1%). وعلى هذا الأساس كلما كانت الأهمية النسبية للمواد الغذائية والمشروبات منخفضة هبط المعدل العام للأسعار. وكلما كانت الأهمية النسبية للسكن مرتفعة هبط أيضاً هذا المعدل. لهذا السبب جرى ذلك التعديل. بمعنى آخر لو استمر العمل بالأهمية النسبية القديمة لظهر رقم للتضخم أعلى من المعدل المعلن عنه (2.2%). بالنتيجة النهائية يهبط مستوى معيشة المواطنين بدرجة تفوق المعدل العام.

ومن زاوية أخرى ترتبط الضرائب خاصة غير المباشرة ارتباطاً وثيقاً بالأسعار وبالتالي بمستوى المعيشة.

تزايد العبء الضريبي

من الناحية المبدئية تتسم الضرائب في جميع بلدان مجلس التعاون بضعف حصيلتها نظراً للاعتماد الأساسي على العوائد النفطية. كما لديها استثمارات خارجية تدر عليها أرباحاً سنوية. بيد أن التطورات العسكرية والاقتصادية والمالية أفضت إلى تصاعد هائل في الإنفاق العام بحيث لم تعد العوائد النفطية والأرباح الخارجية كافية لتغطيته. لذلك بات اللجوء إلى الضرائب أمراً منطقيا خاصة في السعودية.

في عام 2019 قدرت حصيلة الضرائب بمبلغ 182 مليار ريال أي 18.6% من الإيرادات العامة. وهذه نسبة لا يستهان بها. ولم تتوقف هذه الحصيلة عن الزيادة منذ عدة سنوات وخاصة منذ العام المنصرم إثر إدخال الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية.

لتوضيح تداعيات الضرائب على مستوى المعيشة يتعين التعرف على النظام الضريبي السعودي الذي يتكون من ضرائب مباشرة وغير مباشرة.

تنقسم الضرائب المباشرة إلى نوعين. النوع الأول الضرائب على الدخل والأرباح التي تسري على الأفراد الأجانب والشركات المملوكة لغير السعوديين وتفرض بسعر نسبي قدره 20%. أما النوع الثاني فهو الزكاة التي تفرض على السعوديين وفق أحكام الشريعة الإسلامية من حيث أسعارها (2.5% كمبدأ عام).

تعاني هذه الضرائب من ارتباك واضح. فالضريبة على الدخل والأرباح تعتمد على الجنسية بخلاف الأنظمة السائدة في العالم التي ترتكز على الإقامة. والزكاة تفرض أيضاً حسب الجنسية في حين يفرضها الشرع الإسلامي حسب الدين. كما تتسم هذه الضرائب بضعف حصيلتها البالغة 33 مليار ريال في عام 2019 أي 18.1% فقط من الحصيلة الكلية للضرائب. 82% من الحصيلة تتأتى إذن من الضرائب غير المباشرة التي تندمج مع أسعار السلع والخدمات وتقود إلى ارتفاعها.

والضرائب غير المباشرة هي الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية والرسوم المفروضة على الأجانب المقيمين (المقابل المالي على الوافدين) وكذلك الرسوم الجمركية. قدرت حصيلة هذه الضرائب بمبلغ 166 مليار ريال أي 17.0% من الإيرادات العامة لعام 2019. في حين كانت تشكل 9.6% في عام 2016.

تعد ضريبة القيمة المضافة من حيث حصيلتها ثاني اكبر ضريبة في النظام السعودي مباشرة بعد المقابل المالي على الوافدين. قدرت حصيلتها في الميزانية الحالية بمبلغ 45.6 مليار ريال أي ربع الإيرادات الضريبية الكلية. وسوف ترتفع سنوياً وبتشجيع من صندوق النقد الدولي وتحت وطأة استمرار العجز المالي.

تفرض بسعر نسبي قدره 5% على القيمة المضافة في كل مرحلة من مراحل إنتاج السلع والخدمات وكذلك على الواردات.

يندرج مبلغ هذه الضريبة في سعر السلعة أو الخدمة ويقود بالضرورة إلى ارتفاعه.. لاشك أن سعرها منخفض قياساً بالدول الأخرى وبالتالي ينبغي عدم المبالغة في تأثيرها على مستوى المعيشة. لكنها على أية حال تسهم في هذا التأثير خاصة عند إضافة الضريبة الانتقائية المفروضة على بعض أنواع المشروبات والتبغ.

استفحال البطالة

لا توجد بطالة بين الوافدين إلا بمعدلات ضئيلة جداً غير جديرة بالذكر. ولا يجد الأجنبي العاطل عن العمل بداً من العودة إلى بلده.

انتقل عدد العاطلين السعوديين من 647 ألف شخص في عام 2015 إلى 787 ألف شخص في الربع الثاني من عام 2018. أي من 11.5% وإلى 12.9% من قوة العمل (السعوديون الذين تزيد أعمارهم على 15 سنة). علماُ بأن هنالك فرقاً شاسعاً بين العاطلين عن العمل والخارجين عن قوة العمل. إذ يصل عدد الخارجين إلى اكثر من ثمانية ملايين سعودي كالمتقاعدين والطلبة وغير القادرين على العمل وكذلك ربات البيوت.

للبطالة في السعودية علاقة وطيدة بمستوى المعيشة. كلما زادت البطالة تدهور هذا المستوى. ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى عدم وجود نظام اجتماعي مماثل للأنظمة المعروفة في الدول الصناعية. أما برنامج حافز فلا يطبق على جميع العاطلين ولا تغطي مبالغه الحد الأدنى الضروري للمعيشة.

كما لم يفض برنامج نطاقات إلى تحقيق هدفه بإحلال العمالة السعودية محل العمالة الأجنبية في القطاع الخاص. بدليل التزايد المتسارع لعدد العاطلين السعوديين.

وتتمثل خطورة البطالة في أمرين: أولهما ارتفاع عدد العاطلين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. وثانيهما تزايد بطالة أصحاب الشهادات الجامعية. يمثل الشباب وأصحاب شهادات البكلوريوس 84.2% من عدد العاطلين السعوديين. الأمر الذي يثير سخطاً شعبياً واسع النطاق.

ستشهد الفترة القادمة تدهوراً اكبر لمستوى معيشة المواطنين تحت تأثير ارتفاع الأسعار. الأمر الذي يشير إلى عدم ملائمة السياسة الاقتصادية المتبعة. لذلك يتعين أن تتضافر الجهود على تعديلها بغية إيجاد الصيغ المناسبة لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.

منشورات أخرى للكاتب