المُهرة اليمنية: الصراع الناعم بين السعودية والإمارات وعمان

ظلّت محافظة “المهرة” المُحاذية للحدود مع عُمان بعيدة عن أزمات اليمن وحروبها؛ بمنأى عن نفوذ جماعة أنصار الله (الحوثيين)؛ وفي مأمن عن نشاط التنظيمات الإرهابية “القاعدة” و تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

اليوم تغيّر الوضع؛ تعيش بوابة اليمن الشرقية (المهرة) حربًا ناعمة ليس فيها ضجيج المدافع والصواريخ؛ تخوضها ثلاث دول خليجية (السعودية، الإمارات، عُمان)، كسرّت هدوء المحافظة وعسكرّة حياة سُكانها.

تصدّرت المدينة واجهة الأحداث مؤخراً بعد تصاعُد سباق النفوذ بين الرياض وأبوظبي من جهة ومسقط من جهة أُخرى، وسط مخاوف من تحوّل الحرب الخفية إلى خطر يُهدد السلم الأهلي. لماذا المهرة؟ وأي مستقبل ينتظر المحافظة؟

الموقع الإستراتيجي والثروات الطبيعية لمحافظة المهرة جعلها محل أطماع القوى الخارجية؛ تتصل بصحراء الربع الخالي من الشمال وتمتلك شريط ساحلي على بحر العرب بطول 500 كم؛ تشترك مع عُمان بشريط حدودي شاسع  وترتبط معها بمنفذي (شحن، صرفيت)، وتقترب مساحتها من مساحة الإمارات (297،67 كم مُربع).

اقتصادياً؛ تمتلك المهرة موارد طبيعية متنوعة؛ تزخر بالعديد من المعادن الثمينة على رأسها الذهب والرخام والرصاص؛ وتُشكل منطقة واعدة للاستكشافات النفطية والغازية.

أبوظبي : عين على المهرة

بدأ التواجد الإماراتي في المهرة  أكتوبر/ تشرين الأول 2016؛ بعد تردُد مزاعم عن قيام مسقط بغض الطرف عن تهريب أسلحة إيرانية للحوثيين عبر حدودها مع اليمن. ورغم نفي الخارجية العُمانية إلا أن أبوظبي وجدت في ذلك ذريعة لطرق أبواب المحافظة، مُتخذة جملة من الخطوات كانت هدف لإضعاف نفوذ مسقط فيها؛ اشتغلت بنقل آلاف الأطنان من المساعدات الغذائية والأدوية؛ تقديم “الإعاشات” والمساعدات المالية للسكان؛ اقامة علاقات قوية مع شخصيات ووجاهات قبلية وفعاليات سياسية نافذة بالمهرة، عبر حملة استقطابات مُمنهجة.

عسكرياً؛ تخطى الاهتمام الإماراتي الجانب الإنساني إلى جوانب أمنية وعسكرية؛ قامت بدعم وبناء جهازي الشرطة والأمن؛ عززت حضورها العسكري بتجنيد 2500 شاباً ضمن (قوات النخبة المهرية) الموالية لها .

الرياض : تواجد عسكري واستقطاب مُمنهج

فرّضت الرياض وجودها العسكري بالمحافظة كأمر واقع؛ دفعت أواخر 2017 بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى المهرة، مُسيطرة على جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية. في مطلع 2018، عززت الرياض تواجدها بإرسال 200 شاحنة تحمل معدات عسكرية إلى مدينة الغيظة عاصمة المحافظة. ترافق ذلك مع تقديم كميات كبيرة من المساعدات الغذائية وتدشين مشاريع اقتصادية وصحية وخدمية بالتوازي مع فرض اجراءات معقدة على  الواردات العُمانية إلى المحافظة.

والأهم؛ كانت مساع السعودية الحثيثة في اختراق المجتمع المهري بشراء الولاءات القبلية، و”تفريخ” قيادات موالية لها، و”تفكيك” القوى المناهضة، وتقديم الوعود  لمئات الشباب بالتجنيس والسفر للعمل في المملكة.

مسقط.. هدوء  حذر

ظلّت السلطنة تُراقب تنامي النفوذ السعودي – الإماراتي بالمهرة بحذر؛ تحرّكت بشكل هادئ ومدروس؛ تجنبت أي تصعيد سياسي أو عسكري أو إعلامي؛ مُعتمدة على مواقف حُلفائها بالمحافظة في أول اختبار لولائهم لها أمام التواجد العسكري للرياض وأبوظبي الذي ترى فيه مسقط تهديداً لأمنها القومي في ظل توتر خفي بينها وبين أبوظبي، وتوّجُس تاريخي حذر من تواجد (طارئ) للرياض على حدودها مع اليمن.

حرصت عُمان على حماية أمنها بتحصين مُحافظة المهرة التي تُمثل عُمقاً حيوياً بالنسبة لها؛ دافعت عن استقرارها؛ وسعّت دائرة حُلفائها مُستميلة زعماء القبائل والقوى السياسية؛ كثفّت حملاتها الإغاثية ومُساعداتها، أبرزها تقديم معونات نفطية مجانية بواقع 180 ألف لتر من الديزل والبترول يومياً؛ زادت دائرة التجنيس لزعماء القبائل والتي تكللت بإصدار السلطان قابوس مرسوماً يسمح بالجمع بين الجنسيتين العُمانية واليمنية.

المهرة : عُمق عُمان الإستراتيجي

ماذا تعني المهرة بالنسبة لـكلٍ من مسقط وأبوظبي والرياض؟ وما هي الأوراق التي تمتلكها العواصم الثلاث في سباق النفوذ؟

عُمانياً؛ تُشكل المهرة عُمقًا حيويًا واستراتيجيًا، أي تحشيد عسكري في المحافظة تعتبره تهديداً لأمنها القومي. كما أن المهرة تُشكل البوابة الشرقية لتجارة اليمن من السلطنة. في سباق النفوذ؛ لدى مسقط العديد من الأوراق؛ تحتفظ بعلاقات تجارية واجتماعية قديمة مع المحافظة، تمتلك روابط قبلية وعشائرية قوية مع سكان ووجهاء ورجال القبائل سبقت التواجد الإماراتي – السعودي بعقود.

نجحت مسقط – حتى الآن – في منع تصدير أي أزمات من اليمن إلى الداخل العُماني. حيث تعي مسقط الدور الذي لعبته منطقة (حوف) بالمهرة كمحطة لانطلاق العمليات العسكرية لجبهة تحرير ظفار في الستينيات بهدف استقلالها عن السلطنة، امتدت إلى 1975  ما أضطر السلطان قابوس إلى طلب المساعدة من إيران.

حالة القلق والتوتر العُماني ليست وليدة التدخل العسكري للتحالف باليمن؛ فالتاريخ يؤكد بأن العلاقات العمانية – الإماراتية لم تكن على ما يُرام؛ يشوبها الحذر والتوجُس وتتصدرها الخلافات الحدودية. دخلت الإمارات صراعات عدة مع السلطنة، بدءًا من واحة البُريمي في الخمسينات، مُروراً بالخلاف على الشريط الساحلي ومحافظة “مسندم” العُمانية الواقعة على مضيق هرمز . وعاد الخلاف إلى العلن يناير/ كانون الثاني 2011، بإعلان مسقط اكتشاف (شبكة تجسس إماراتية) زُعم أنها  كانت تستهدف الإطاحة بنظام الحكم في السلطنة، وهو ما نفته أبوظبي. تلاها احتجاجات صحار في 25 فبراير/ شباط 2011، ضد نظام السلطان قابوس، واتهم عُمانيون – حينها – أبوظبي بالوقوف وراءها.

ناورت عُمان بورقة (التأييد المحلي) أمام مُحاولة ضرب نفوذها في المهرة، ترجمتها احتجاجات شعبية رافضة للتواجد السعودي – الإماراتي بالمحافظة ما يُعتبر أول نجاح عُماني في تحريك الشارع المهري لصالحها.

أبوظبي والرياض: أجندات اقتصادية وسياسية

دخلت أبوظبي والرياض بثقلهما السياسي والعسكري إلى المحافظة في إطار تبادل الأدوار وسباق النفوذ. المهرة بالنسبة للدولتين، هدف استراتيجي لا يخلو من أجندات اقتصادية وسياسية  وعسكرية، وجزء من صراع التاريخ والجغرافيا ومُعاقبة حيادها في (مغامرات) وطموحات العاصمتين.

تغريد السلطنة خارج السرب الخليجي، بشأن الموقف من إيران وعدم مشاركتها في التدخل العسكري في اليمن وموقفها المحايد من حصار قطر، أثار غضب الرياض وأبوظبي. هُنا؛ يأتي إخراج المهرة من دائرة النفوذ العماني على رأس أولويات التواجد الإماراتي – السعودي وحرمانها من حديقتها الخلفية.

أضف إلى ذلك؛ ثمة أهداف اقتصادية سعودية في الوصول إلى بحر العرب من خلال مساعي الرياض لإنشاء ميناء نفطي في المهرة على ساحل بحر العرب، بعد خمس سنوات من تحويل محافظة (خرخير) في نجران إلى مخزن للنفط الخام بعد إجلاء سكانها من أجل التنفس جنوباً دون قلق من تهديدات إيران في مضيق هرمز ولمنع تهريب السلاح من الساحل . (1)

يتجاوز ذلك؛ خُطة لبناء قناة تصل الخليج العربي ببحر العرب تمر عبر المهرة، بهدف إنشاء منفذ بديل لصادرات النفط السعودية عن مضيق هرمز. (2)

يبدو واضحاً؛ بأن الطريق أمام الرياض وأبوظبي لا يزال وعراً؛ فإذا كانت الإمارات قد حققت مكاسب هامة، إلا أنها تُشكل بالنسبة للسكان (حالة طارئة)، تفتقد للتأييد المحلي ولم تفز – حتى الآن – بالأفضلية التي تحتفظ بها السلطنة.

وفي حين يكاد يبدو معظم المجتمع المهري مُغلقًا على التواجد السعودي، الذي يعتمد على الحكومة كورقة تدعم تواجده بالمحافظة، نجحت ضغوط الرياض على الرئيس هادي بمُعاقبة الأصوات المعارضة لتواجدها، فتمت إقالة المحافظ محمد عبد الله كده وتعيين راجح باكريت الموالي لها. كما تمت إقالة وكيل المحافظة الشيخ علي سالم الحريزي ومدير الأمن أحمد قحطان.

وعليه؛ تشهد الفترة القادمة تحركاً سعوديًا على محورين؛ الأول: استمرار “القوّة الناعمة” من خلال زيادة المعونات والمشاريع الاقتصادية والخدمات المجتمعية لتحسين صورتها أمام المجتمع المحلي. ثانياً، احتواء الفعاليات الشعبية الرافضة لوجودها، من خلال اختراق صفوف الحركة الاحتجاجية.

يبقى الأخطر؛ في استمرار التنافس الخليجي في استثمار الجماعات القبلية والسياسية بالمحافظة ما يُرشح المهرة بأن تكون بؤرة الصراع في قادم الأيام، في ظل وضع مُنفلت، وسقوط ضحايا في أوساط الاحتجاجات السلمية، وسط مخاوف من انقسام وتمزق النسيج الاجتماعي المهري. خاصة مع مساعي المملكة تشكيل مجلس جديد للمحافظة يكون بديلاً عن المجلس العام لأبناء المهرة وسقطرى الذي  يرأسه الشيخ عبد الله بن عيسى آل عفرار، أحد ابرز رجال مسقط بالمهرة.

في سباق النفوذ والمصلحة بين العواصم الخليجية الثلاث على المهرة؛ من الصعوبة التنبؤ بما ستحمله الأيام القادمة. لكن رفض مسقط أي تواجد عسكري على حدودها مع اليمن واصرار أبوظبي والرياض على استكمال طريق أهدافهما، قد يدفع عُمان إلى اتخاذ خطوات أبعد من سلاح تحريك الشارع المهري. رغم ذلك؛ إن اتفاقاً سُعودياً – إماراتيا مع عُمان حول مصير هذه المنطقة من شأنه أن يُخفف حالة الاحتقان ويُجنب المهرة  مصيراً مجهول .

المصادر :

  1. أبوظبي مشغولة بصناعة نفوذ الطاقة والرياض تجهز ميناء نفطي في المهرة – مركز أبعاد  للدراسات والبحوث- 14- 4 – 2018
  2. اليمن : صراع آخر بالوكالة – مركز كارنيغي للشرق الأوسط – 22 أكتوبر 2018
منشورات أخرى للكاتب