هبوط الريال الإيراني ونكبة الاقتصاد العراقي

تعاني ميزانية إيران من عجز مزمن ناجم عن عوامل عدة في مقدمتها الاهتمام بالتصنيع والتقدم التكنولوجي وارتفاع النفقات العسكرية الداخلية والخارجية. لمعالجة هذا العجز تلجأ الدولة للإصدارات النقدية الأمر الذي يقود إلى ارتفاع عرض الكتلة النقدية فيتفاقم التضخم وتنخفض القيمة التعادلية للريال.

انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وما ترتب عليه من فرض عقوبات اقتصادية أدى إلى تزايد الطلب على العملات الرئيسية. وتحت تأثير السوق اشتد هبوط سعر صرف الريال خاصة في السوق الموازية خلال فترة قصيرة. فقد انتقل سعر صرف الدولار من 68 ألف ريال في أيار إلى 138 ألف ريال في أيلول 2018.

وتربط العراق علاقات اقتصادية متينة بإيران سواء تعلق الأمر بالتجارة السلعية أم بالاستثمارات أم بالمبادلات المالية المختلفة. وبسبب هذه العلاقات يتأثر الاقتصاد العراقي سلبياً وبقوة بالهبوط المستمر والمرتفع للقيمة التعادلية للريال.
وبسبب تشعب الموضوع سوف اقتصر على تداعيات سعر صرف الريال على أهم المبادلات غير السلعية وفي مقدمتها إيرادات الزيارات الدينية التي يحصل عليها العراق من الزائرين الإيرانيين.

تراجع إيرادات الزيارات
حضارات العراق القديمة والإسلامية غنية عن التعريف ولكن لم تستغل هذه المكانة من الزاوية الاقتصادية. فلا توجد في البلد سياحة بمعنى الكلمة. هنالك فقط زيارات للعتبات المقدسة التي تقتصر على عدد قليل من المدن خاصة كربلاء والنجف. لذلك يتصدر الإيرانيون عدد الزائرين الأجانب. وتتضح أهمية السياحة الدينية لهاتين المدينتين من خلال عدد فنادقها وإيراداتها.
يضم العراق 1618 فندقاً (الجداول الأخيرة للجهاز المركزي للإحصاء) تدر إيرادات سنوية قدرها 316 مليار دينار. في النجف وكربلاء 1116 فندقاً قدرت إيراداتها بمبلغ 194 مليار دينار دولار سنوياً. بمعنى آخر يمثل عدد فنادق هاتين المدينتين 68% من عدد فنادق المدن العراقية بما فيها بغداد. كما تشكل إيرادات فنادق هاتين المدينتين 61% من إيرادات الفنادق العراقية.
بطبيعة الحال لا تقتصر إيرادات السياحة الدينية على الفنادق بل تشمل أيضاً المطاعم والنقل والمشتريات السلعية. وحسب المجلس العالمي للسياحة والسفر تصل إلى العراق سنوياً 4.9 مليارات دولار من السياحة الدينية. مبلغ مهم يمثل 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وتؤكد الاستطلاعات على أن 85% من هذا المبلغ يتأتى من الزائرين الإيرانيين الذين قدر عددهم بحوالي ستة ملايين سنويا.
أفضى تراجع سعر صرف الريال بالمفهوم المذكور أعلاه إلى تدهور الحالة المعيشية للمواطنين الإيرانيين. ارتفعت كلفة السلع والخدمات بما فيها السفر إلى العراق. هبط إذن عدد الزائرين الإيرانيين هبوطاً سريعاً وكبيراً. فعلى سبيل المثال كان مطار النجف خلال أربعينية الإمام الحسين في السنوات الماضية يستقبل يومياً 35 طائرة قادمة من المدن الإيرانية. في أربعينية العام المنصرم هبط العدد إلى 12 طائرة. كما تقلص عدد الإيرانيين القادمين عن طريق البر.
انعكس هذا الوضع سلبياً على سوق العمل العراقي وعلى الأنشطة الاقتصادية. هنالك 544 ألف عراقي يعملون بصورة مباشرة وغير مباشرة في قطاع السياحة الدينية. أصبح عدد منهم عاطلاً عن العمل. كما هبطت أيام المبيت في الفنادق وغلق الكثير منها أبوابه رغم تخفيض أسعارها بنسبة عالية تصل إلى 50%.
بطبيعة الحال أن العامل النقدي الناجم عن السياسة المالية الإيرانية والعقوبات الأمريكية لا يفسر لوحده انخفاض عدد الزائرين الإيرانيين. هنالك عوامل أخرى ترتبط بالوضع السياسي والأمني والطائفي في العراق. يطالب عراقيون في المحافظات الجنوبية خاصة البصرة بتحسين أحوالهم المعيشية. وبات بعضهم يندد بالتدخل الإيراني في الشأن العراقي. بل لا يرحب عراقيون آخرون إطلاقاً بالإيرانيين. ولكن تبقى التداعيات الاقتصادية للعقوبات الأمريكية السبب الأساس لهبوط الزائرين الإيرانيين.

خسائر حكومية
يقود إذن هبوط سعر صرف الريال إلى انخفاض عدد الزائرين فيتأثر القطاع الخاص العراقي بصورة سلبية. ولكن لننظر إلى المسألة من زاوية مالية العراق. بتقديرنا لا تستفيد مالية الدولة من الزيارات الإيرانية بل قد تتضرر منها نتيجة العوامل التالية.
العامل الأول. الضرائب. لا توجد في العراق على خلاف الكثير من دول المنطقة بما فيها إيران ضريبة عامة على الاستهلاك كالضريبة على القيمة المضافة. وبالتالي لا تستفيد ميزانية الدولة من السياحة الأجنبية الإيرانية وغير الإيرانية.
العامل الثاني. تأشيرة الدخول. يفترض أن يدفع أي أجنبي يزور العراق لسبب أو لآخر رسوماً قدرها أربعين دولاراُ للحصول على تأشيرة الدخول. لكن الحكومة العراقية قررت تقليص المبلغ عدة مرات للإيرانيين خلال المناسبات الدينية وعلى اثر العقوبات الأمريكية وما ترتب عليها تم تخفيض المبلغ إلى دولار واحد فقط قابل للدفع بما يقابله من الدنانير أو الريالات. وتجدر الإشارة إلى ظاهرة دخول إيرانيين إلى العراق بتأشيرة مزورة.
لا تحصل الدولة إذن على إيرادات من هذا الباب سواء انخفض عدد الزائرين الإيرانيين أم ارتفع.
أما العامل الثالث والأهم فيرتبط بالخدمات. تقدم الحكومة العراقية خدمات صحية وخدمات النقل والحماية للزائرين الإيرانيين. بل تتولى السلطات العراقية إيواء أعداداً من الإيرانيين دون مقابل في مؤسسات تعليمية. أثر هذا الأمر على سير التعليم. وقاد إلى سخط آلاف العراقيين دون مأوى. وأدى كذلك إلى استياء أصحاب الفنادق خاصة في كربلاء الذين يجدون في هذه الممارسة منافسة غير مشروعة.

أزمة الودائع العراقية

تقدم المصارف الإيرانية للودائع الأجنبية تسهيلات عديدة منذ بضع سنوات. فقد أصدرت السلطات النقدية قبل العقوبات الأمريكية الجديدة تعليمات تبين ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالريال وإمكانية سحبها بنسبة 100% في أي وقت. كما أن فتح الحسابات وإيداع الأموال والعمليات المصرفية الأخرى لم تعد تستوجب السفر إلى إيران. هنالك مكاتب منتشرة في العراق تقوم بهذه المهمة نيابة على المصارف الإيرانية.
وجد العراقيون في هذه التسهيلات منفذاً مناسباً لاستثمار أموالهم للأسباب التالية:
السبب الأول. ارتفاع أسعار الفائدة. وصلت إلى 22%. في حين لا تتجاوز أسعار الفائدة على الودائع في البنوك العراقية 7%. وهذا يعني الحصول على أرباح إيرانية تعادل ثلاثة أضعاف الأرباح العراقية.
السبب الثاني. تحرير التحويل. يتمتع العراقيون بحرية تحويل أموالهم إلى الخارج لم يشهدوا مثيلها من قبل. استغل الإيرانيون هذا التحرير لاجتذاب المدخرين العراقيين.
السبب الثالث. المشاكل المصرفية العراقية. فقد العراقيون ثقتهم بمصارفهم بسبب استشراء الرشاوى من ناحية وإفلاس بعض المصارف وتعثر حصول أصحاب الأرصدة على أموالهم من ناحية أخرى.
السبب الرابع الحالة الاقتصادية والسياسية في العراق. يعاني البلد من تباطؤ الأنشطة الاقتصادية لأسباب أمنية وإدارية. كما يتطلب أي نشاط في التجارة أو الصناعة تخصيص رأسمال ليس في متناول غالبية الأفراد.
السبب الخامس. العلاقات البينية. أدت متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى تعدد أشكال وأهداف الودائع العراقية. هنالك الودائع في سبيل الحصول على الأرباح. وحسابات جارية لدفع فاتورة الواردات من إيران. ووجد البعض في المصارف الإيرانية وسيلة لتبيض أمواله المتأتية من أنشطة غير مشروعة.
السبب السادس. تعليمات دينية. هنالك توجهات لدى بعض رجال الدين تبرر الفوائد التي تدفعها البنوك الإيرانية وتعتبرها خارج نطاق الربا. وبالمقابل لا توجد إرشادات من سياسيين أو اقتصاديين عراقيين تحذر من إيداع الأموال في بلد غير مستقر من الناحية الاقتصادية على الأقل منذ العقوبات الأمريكية الجديدة.
لهذه الأسباب ارتفعت الودائع العراقية في البنوك الإيرانية ارتفاعاً كبيراً. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية حول حجمها فإن تقديرات تشير إلى حوالي مليار دولار.
أدت الأزمة المالية الإيرانية والعقوبات الأمريكية إلى هبوط قيمة الريال بنسبة تفوق بكثير معدل أسعار الفائدة خلال فترة قصيرة. لذلك لم يتوقف هذا الهبوط عند انخفاض الأرباح بل شمل أيضاً خسائر فادحة في رأس المال.
لم يستطع المودعون سحب أموالهم لتجنب تخفيضات جديدة للريال لأن الحكومة الإيرانية اتخذت قراراً بتنظيم السحب غايته الدفاع عن قيمة الريال وتجنب إفلاس بعض البنوك. كان هذا القرار ضرورياً لأن الإيداع لا يقتصر على العراق بل يخص أيضاً دولاً أخرى كالكويت.
خلال الستة اشهر المذكورة في مقدمة هذا المقال خسر المدخر العراقي على الأقل ثلث قيمة أمواله على افتراض حصوله على مبلغ الفائدة. وهكذا أصبحت ثقة العراقيين بالبنوك الإيرانية كثقتهم بالبنوك العراقية. في حين كان على الشخص الذي يودع أمواله عدم الاقتصار على معرفة أسعار الفائدة بل عليه أيضاً التحري عن الحالة الاقتصادية للبلد والعوامل المحيطة بها التي تؤثر مباشرة على أسعار الصرف.

تزايد شراء الدولار
يشتري إيرانيون خاصة التجار الدولار واليورو والعملات الرئيسة الأخرى المتوفرة في العراق لتمويل مشترياتهم من السلع في دول أخرى. كما يشتري عدد منهم هذه العملات ويحولونها إلى إيران بطرق غير رسمية لبيعها في السوق السوداء. الفرق بين شراء العملات في العراق وبيعها في إيران يحقق لهم ربحاً يمثل الفرق بين أسعار البيع والشراء بين البلدين. وتجري عمليات الشراء في مدن عراقية عديدة خاصة كربلاء والنجف والسليمانية والبصرة.
أدت هذه العمليات إلى تكدس الريالات لدى العراقيين التي أصبحت تتداول بسهولة في هذه المدن إلى جانب العملة الوطنية. وما أن هبطت قيمتها حتى خسر العراقيون مبالغ تعادل معدل خفض القيمة. أي أن حجم خسائرهم يفوق خسارة أولئك الذين أودعوا أموالهم في البنوك الإيرانية الذين حصلوا على تعويض جزئي يعادل مبلغ الفائدة.
كما أدى شراء كميات كبيرة من العملات الرئيسة إلى التأثير على حجم الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي العراقي الذي هبط من 77 مليار دولار في عام 2013 إلى 48 مليار دولار في منتصف عام 2018. الأمر الذي يفسر عدم تحسن أسعار صرف الدينار منذ خمس سنوات.
بلا شك يعود هذا الهبوط لعوامل عديدة منها تباطؤ الإيرادات النفطية والفساد المالي. ناهيك عن أن الإحصاءات العراقية تشير إلى تحسن طفيف لهذا الاحتياطي في السنة المنصرمة. ولكن كان من الممكن تحقيق نتائج أفضل لولا المشاكل الإيرانية. علماً بأن هذا التحسن تزامن مع الارتفاع المستمر للديون العامة المترتبة على العراق بما فيها الديون الخارجية.

في الأشهر القليلة القادمة قد تشهد العقوبات الأمريكية ضد إيران تداعيات جديدة أكثر خطورة على الاقتصاد العراقي. إذ أن حزمتها الثانية المتعلقة بالصادرات النفطية الإيرانية عرفت استثناءات منحت لمدة ستة أشهر لثمانية بلدان تمثل القسط الأكبر من الصادرات النفطية الإيرانية. فعلى افتراض عدم تجديد هذه الاستثناءات مرة أخرى سوف يسجل الريال تدهوراً حاداً. عندئذ ستضطر السلطات الإيرانية إلى اتخاذ إجراءات أخرى تؤثر مباشرة على الاقتصاد العراقي من بينها الحصول على المزيد من العملات الرئيسة وتقييد حركة سفر الإيرانيين إلى الخارج.

منشورات أخرى للكاتب